قراءة في ملفات الفساد المالي الأمريكي في العراق
-1-لا بصير ينكر الدور الأمريكي الفعّال في تحرير العراق من الدكتاتورية والطغيان، رغم ما تبع ذلك من تضحيات عراقية، وأخطاء أمريكية، أصبحت واضحة ومفهومة للقاصي والداني، ولا داعٍ لتكرار ذكرها هنا.
لقد سبق وتحدثنا، عن آفة الفساد المالي التي تنخر في جسم الدولة العراقية الجديدة، سواء من داخل هذا الجسم، أو من خارجه. وجئنا بتقارير صادرة عن "منظمة الشفافية الدولية"، التي تقول أن الفساد المالي في العراق أصبح لا مثيل له في التاريخ. كما أن العراق يحتلُّ أدنى درجة في قائمة الشفافية الدولية. كذلك صدرت عن "هيئة الشفافية العراقية" تقارير مماثلة ومفجعة. وهي كلها مؤشرات تقول لنا أن الفساد والنهب المالي في الدولة العراقية الجديدة، قد بلغ حداً كبيراً، يهدد كل ما بناه العراق خلال السنوات الخمس الماضية بالانهيار وفقدان ثقة الشارع العراقي بالدولة العراقية الجديدة، التي قامت لكي تعيد للعراق شرفه، وشفافيته، وحريته، وديمقراطيته.
وحذَّرت "منظمة الشفافية الدولية"، من أن عمليات إعادة إعمار العراق، يمكن أن تتحول إلى "أكبر فضيحة فساد في التاريخ"، مما أضاع على العراق أكثر من 1815 مليار دولار بحسب جريدة "المدى" العراقية.
-2-
ما علاقة الفساد بالإرهاب؟
وهل كلما زادت معدلات الإرهاب، زاد الفساد تبعاً لذلك؟
نعم، فالعلاقة وثيقة بين الإرهاب والفساد المالي. وفايروس الفساد المالي يعشش ويرتع في أجواء الإرهاب، حيث العدالة مشغولة ولاهية بملاحقة الإرهابيين. وهذا ما يؤكده القاضي العراقي رحيم العكيلي رئيس "هيئة النزاهة العراقية"، بقوله أن معدلات الفساد الإداري والمالي في العراق انخفضت خلال عام 2008 مقارنة بعامي 2006 و2007. ويوضح العكيلي أن انخفاض نسبة الفساد الإداري والمالي في البلاد خلال العام الحالي، جاء بسبب تحسن الأوضاع الأمنية وسيطرة القطاع العام على جميع مفاصل عمله بشكل جيد. لكن القاضي العكيلي لا ينكر أن الأعوام السابقة التي مرت على العراق، شهدت عمليات فساد كبيرة خاصة عامي 2006 و2007 بسبب الأوضاع السياسية والأمنية، التي كان يمر بها العراق آنذاك، وهي التي ساعدت على حصول عمليات فساد مالي، خصوصاً في توقيع بعض العقود الأجنبية.
-3-
وفي هذا الباب، فإن أمريكا والمستثمرين الأمريكيين، يتحملون مسؤوليات كبيرة عن الفساد الذي أحدثوه في العراق إلى جانب ما أحدثه بعض المسئولين العراقيين – للأسف الشديد – في وطنهم وفي شعبهم، مما يشير إلى أزمة كبيرة في الانتلجنسيا السياسية العراقية الجديدة التي استبشر بها الشعب العراقي، ووضع ثقته فيها في الانتخابات التشريعية عام 2005، كبنائين ومعماريين جُدد للعراق الجديد.
فالفساد المالي في العراق لم يكن عراقياً صرفاً، ولكن أمريكا متمثلة بالمستثمرين ورجال الأعمال وبعض السياسيين، كانت عنصر فساد مالي كبير في العراق الجديد، مما – ربما – شجع بعض المسئولين العراقيين على التمادي في الفساد المالي، ونهب أموال الشعب العراقي.
وأمريكا ليست كلها شعباً من الملائكة. ففي داخل أمريكا نفسها هناك قضايا فساد مالي كبير. ولكن ما يحُدُّ من هذا الفساد، ويرجع به إلى أقل ما يمكن من الضرر، هو الديمقراطية الأمريكية الداخلية، وحرية الإعلام والصحافة، التي تفضح عمليات الفساد أولاً بأول، وتُشهّر بها، وتردع الآخرين.
-4-
من المتوقع أن يتسلَّم العراقيون من الأمريكيين – نتيجة للاتفاقية الأمنية العراقية، الأمريكية، وخطة أوباما للانسحاب المبكر من العراق - المشاريع التي لم تكتمل بعد، والممولة من الكونجرس الأمريكي. وهي المشاريع التي أُثيرت حولها شبهات الفساد المالي الكبير.
والعراق في هذه الحالة، أمام امتحان تاريخي كبير.
فهل لدى العراق خبراء أكفاء لإدارة مثل هذه المشاريع الكبرى؟
وإذا وُجد هؤلاء الخبراء، فهل نضمن أن لا يصابوا بفايروس الفساد المالي، الذي أصاب جزءاً من السياسيين العراقيين في الدولة العراقية الجديدة، وأصاب كذلك بعض المستثمرين الأمريكيين في هذا المجال؟
وفي هذه الحالة، فقد يضطر العراق إلى تكليف خبراء أجانب من غير الأمريكيين لإكمال المشاريع التي لم تكتمل بعد. وفي هذا الصدد، قال النائب عن كتلة الفضيلة باسم شريف، إن العراق بحاجة إلى خبرات أجنبية لاستكمال انجاز المشاريع، رغم وجود الطاقات لديه. لكنه أكد في تصريحه لجريدة "المدى" العراقية، أن أموالاً كبيرة قد ضاعت، بتنفيذ مشاريع لم تخدم البُنى التحتية، وأن الجانب الأمريكي أنفق أموالاً طائلة في مشاريع، لم ينجز منها إلا القليل.
-5-
وقبل أسبوع، كشف المنسق لدائرة مكافحة الفساد في السفارة الأمريكية في بغداد السفير جوزف ستافورد، عن إحالة عدد من منتسبي الجيش الأميركي إلى القضاء، بما فيهم عدد من المتعاقدين وشركات عاملة، بعد أن أثبتت نتائج التحقيقات الأولية وجود حالات فساد مالي، فيمن صدر بحقهم قرارات قضائية.
وأضاف ستافورد مشيراً إلى أن "هيئة النزاهة العراقية" ، تمتلك أكثر من سبعة آلاف قضية فساد، لم يُحسم منها لحد الآن سوى 386 قضية، تمَّت إحالتها إلى القضاء.
وهناك وثيقة مرسلة إلى الكونغرس الأميركي، تضم أسماء 35 ضابطاً ومتعاقداً ومقاولين ومؤسسات دولية، وردت فيها أسماء المشتركين بقضايا الفساد، والتهم التي حوكموا بسببها.
وفي هذا السياق، أكدت تصريحات الرئيس أوباما، عن تحرك لمكافحة الفساد الذي خلفته إدارة الرئيس الأميركي بوش، وإلغاء لبرامج وسياسات سلطته، حيث أمر مؤخراً بإجراء مراجعة للطريقة التي تبرم بها الحكومة الأمريكية عقوداً مع الشركات الخاصة، متعهداً بإصلاح نظام أدى إلى تبديد الكثير من الأموال، وإلى فساد في العراق وأفغانستان. مشيراً لدى إعلان قراره، أن التغييرات التي يُخطط لها، يمكن أن توفر ما يصل إلى 40 مليار دولار سنوياً.
وفي الوقت الحالي، يُجري المدعون العامون الأمريكيون أكثر من 140 تحقيقاً في مزاعم بشأن عقود احتيالية في العراق.
ولاحظ أوباما، أن الإنفاق الحكومي على العقود مع الشركات، تضاعف إلى أن بلغ أكثر من 500 مليار دولار منذ العام 2001. وقد أصدر أوباما مذكرة رئاسية موجهة إلى بيتر اورتزاغ، مدير مكتب الإدارة والميزانية في البيت الأبيض، ضمنها توجيهاته، بأن يعمل هذا المكتب مع مجلس الوزراء ومسئولي الوكالات المختصة لوضع أنظمة جديدة، تحكم العقود الحكومية مع الشركات.
وأخيراً، فمهما كان فساد المسئولين العراقيين كبيراً، فإن المستثمرين الأمريكيين يفوقونهم فساداً، ولعل الانهيار المالي والأزمة المالية الأمريكية الحالية، التي امتدت إلى معظم بلدان العالم، سببه تفوق المستثمرين الأمريكيين من رؤساء مجالس إدارة الشركات الكبرى في الفساد والنهب المالي لهذه الشركات، والتي فاحت رائحتها العفنة للقاصي والداني، وزكمت الأنوف، وهددت بعض مجتمعات العالم بالانهيار التام.