Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

قصة أبــــو گــَنــّــَو ,, تتكــــــرر!

إعتدنا في صِبانا سماع مقولة (التاريخ يعيد نفسه) على ألسن آبائنا كلّما صادفتهم حادثة تذكرّهم بأخرى شبيهة لها سبقتها , وبسب صغر أعمارنا وقصور خبرتنا كنا نتساءل بإندهاش عما يــُقصد بعبارة التاريخ يعيد نفسه, وكيف يمكن للتاريخ أن يعود وتتكرر أحداثه ,ولكن بتعاقب السنين مع تنوّع الوقائع و العبارة نفسها تتكرر ,شبت معها ألأظفار ونمت عقولنا لتفهم كنه هذه العبارة ومعرفة مناسبات إيرادها.

إذن بات شبه مؤكد, أن ما يقال ويــُقصـَــد في عبارة (التاريخ يعيد نفسه) ممكن أن يكون صحيحا مادام تكرارأشباه القصة أو تطابق مضمون مفهومها أمر محتمل عدا إختلاف الأسماء و تباين المكان والزمان,وقصة أبو گـنــــّو , هي إحدى هذه القصص القديمة ألتي وبسبب تكرار شبيهاتها الآن نستعين بها ونعيد حكايتها كي نوضح ما يدور لأهلنا وهو تأكيد لصحة عبارة التاريخ يعيد نفسه كما كان يفعل أباؤنا .

قصة أبو گنو ومعناها يا سادتي تنطبق على ما يدور في العديد من مؤسساتنا المختلفة سواء الدينية منها او السياسية والثقافية , وقدسبق و تطرقنا إلى القصة بشكل موجز في أحدى المقالات قبل ثلاث أعوام ربما , و أغلب الظن أنها قصة واقعية , دارت تفاصيلها في إحدى المدن العراقية , على الأرجح في بغداد أيام الإحتلال العثماني يوم كان العراق مقسّما إلى ولايات يحكم كل ولاية حاكم تركي يعرف بالوالي,لم تكن وظيفة هذا الوالي في بلد غير بلده بالمهمة السهلة , بل كانت صعبة وشديدة التعقيد , فهو غريب عن المجتمع وطباعه و لا يجيد لغتهم العربية , وفي نفس الوقت مطلوب منه إدارة الولاية بالشكل الذي يضمن ولاء أهلها لمشيئة السلطان القابع في عاصمة الإمبراطورية العثمانية آنئذ, وبسبب كثرة العوائق التي كانت تواجه الوالي ومنها اللغة , عانى من صعوبة التواصل والتفاهم مع العشائر والوجهاء وتجار الولاية , وحلا لهذه المشكلة إرتأى الإستعانة بشخص يجيد العربية والتركية يساعده في أخذه ورّده مع رجال العشائر ووجهاء الدين والتجار , فطرح الوالي فكرته على مستشاريه الذين وافقوه بحذر معلـلـّين ذلك بأن عملية الإستعانة بشخص مترجم يجب ان تكون دقيقة ومتقنة لما فيها من محاذير ممكن أن تتسبب في تسريب أسرار الوالي ومرجعيته أوإلى توتير علاقاته مع الناس في حال لو لعب الفار في عب المترجم المزمع تكليفه وتلاعب في ترجمة كلام الطرفين وذلك من شأنه أن يزيد الأمور تعقيدا وربما يشوّه سمعة الوالي وسمعة إمبراطوريته.

بعــد أن ثبـــّت الوالي ملاحظات مستشاريه وتحذيراتهم في مضبطته الخاصة, أوعز بإستحضار ثلاث جندرمة وجاويش ليقودهم , حضر الأربعة إلى ديوان الوالي وإستلموا منه أمر البحث بسرعة عن رجل يجيد العربية والتركية دون أي إيضاحات او تفاصيل أخرى حول دوافع هذه المهمة.

إنطلقت مجموعة الجندرمة وقائدها الجاويش فورا وحسب الأوامر إلى التجوال في أحياء بغداد و مقاهيها وأماكن تجمعات الناس بحثا عن رجل يجيد اللغتين العربية والتركية , أخفق الفريق في مهمته أول يوم , حيث قضوا النهار والليل يبحثون فلم يعثروا على مطلب الوالي, وفي ساعة متأخرةمن ليلة اليوم التالي,و أثناء إجتياز الفريق إحدى شوارع المدينة في طريق عودتهم إلى القصر خائبين, سمع أحدهم صوت غناء شجي قادم من إحدى الحانات الليلية , تفاجأ الفريق و توقف الأربعة ينصتون إلى الصوت الغنائي ليكتشفوا بأنه يغني بالتركي, هرع الأربعة مسرعين إلى مصدر الصوت وأندفعوا داخل الحانة دون تأدية التحية بحيث إرتعب رواد الحانة برؤية الجندرمة تقتحم الحانة في وقت متأخر من الليل والجميع قد أخذتهم نشوة السكر إلى حيث الفراديس والأحلام , توزعت عيون الجندرمة تحدق في زوايا الحانة بحثا عن المغني , وإذا به رجلا جالسا لوحده في زاوية مظلمة منكب على طاولته الصغيرة وربعية العرق تترنح بيده مع ترنيحة رأسه المتمايلة على نغمة أغنيته , إقترب منه الجندرمة ليروا أمامهم رجلا قصيرا نحيلا رث الجلباب ذو لحية طويلة مبعثرة وعلى رأسه عرقجين ( كلاو او كليته) يتدلى تحتها شعره الطويل ,و زكم رائحة جسمه المقززة مختلطة مع رائحة العرق وعفنة جو الحانة الرطب, تقدم إليه أحدهم وساله باللغة التركية, هل انت الذي يغني بالتركية؟ أجابهم السكيــّر متلعثما من شدة خوفه بنعم,ثم سأله هل انت عراقيا وتجيد العربية؟ فأجابه بنعم أخرى خافته وكأنها ستكون سبب إعدامه, ثم سألوه عن إسمه , فأجاب أنه معروف بأسم أبـــــو گـــَــنـّــَو وبأنه انسان فقير مستور لا يغوى المشاكل , ومباشرة أمروه بالنهوض والذهاب معهم فورا, الرجل أحس بأن أجله إقترب , بينما بدأ رواد الحانة يلتمسون الجندرمة بالكف عن هذا المسكين لأنه رجل مقطوع ليس له أحدا في الدنيا عدا ربعية العرق وسلوى غنائه , إلا أن الجندرمة لم يعيروا لكل ما سمعوه اية أهمية عدا قولهم بأن الوالي قد ارسلهم لإحضاره ولا مجال لأية مناقشة أخرى.

أخذوا أبـــو كنــو معهم عنوة ليصلوا به الى القصر في ساعة الفجر, ادخلوه الحمام فورا للإغتسال وحلقوا ذقنه وشعر رأسه ثم البسوه ملابس نظيفة ومعطرة تليق لمقابلة الوالي ,ابو كنو مستغرب مما يدور, جيئ بأبي كنو الخائف والمرتعب حول مصيره المجهول أمام الوالي الذي تفاجأ حين رأى ابو كنو خائفا مرتعباوبهذا الشكل, المهم عرف الوالي من جندرمته بأن أسمه ابو كنو وانهم جاءوا به من أحدى الحانات الليلية .

بدأ الوالي بعد تهدئة ابو كنو المرعوب يشرح له سبب جلبه وحاجة الوالي إليه, وأبو كنــو سارحا مع صفنته حيال ما يجري وهو يعرف بأنه لا يصلح لمهمة كالتي يريدها الوالي منه, لكنه رضخ للأمر بعد ما سمعه من تهديد تارة وتسهيل أمر تارة أخرى , المهم سلــّم أمره لله وباشر في عمله كمترجم يحضر في ديوان الوالي للترجمة كلما حضر للقصر وفدا للقاء بالوالي, مرت الأيام وإعجاب الوالي وحبه بأبي كنو يزداد بسبب إجادته اللغتين , لكنه لم يكن يقظا لما يدور وراء الكواليس,فأبو كنو وبمرور الأيام كان يحكي للوالي عن إيجابية سيرأمور الولاية بينما كان يقيم علاقات سرية مع أشخاص محددين ويتدخل في تمرير مصالحهم بينما عامة الناس محرومون من حقهم ولا يتجرأ أحدا أن يعترض لدى الوالي لأن كلمة أبوكنو أصبحت الأصدق عند الوالي الذي لم يهتم بشيئ أكثر من رغبته في فهم ما يترجمه له أبو كنو عما يحكيه رجال العشائرفي مجلسه , أستمر الوالي يكافئ أبو كنو ويمنحه الإمتيازات إلى أن قرر جعله دفتردار الولاية , اي بيده يكون سجل بيت المال وهو المخول الأول في رفض وقبول أي صرف مالي .

وبتطور العلاقة الحميمة بين أبـــو گنو والوالي, وافق الوالي على طلب دفترداره في السماح له بإحتساء الخمر في القصر وليس العرق,ثم تبع ذلك السماح لأبي كنو بجلب الغواني للقصر فقط ليلة الخميس على الجمعة,,سارت الأمور بهذا الشكل مع كثرة سهرات ابو كــنو وعربداته والناس المسكينة تعاني من أوضاعها الإقتصادية والمعاشية بينما المجاميع التي كانت تنسق أمورها مع الدفتردار أبـــو كــنو تعيش البحبوحة وتحضر سهراته مع الغواني ألتي اصبحت كل ليالي الأسبوع مع شرب العرق وليس الخمر كما متفق عليه.

وصل سوء الحال إلى تذمر أبناء بعض العشائر ووجهائها نتيجة إهمال القصر لمطالبهم و عدم متابعة مشاكلهم وكثر تداول القيل والقال حول ضعف سلطة الوالي وإستغلال أبو كنو لمنصبه , حيث الدفتردار ملتهي بملاذه وعلاقاته الغير الأصولية , مما دفع بالبعض إلى أيصال شكاواهم إلى الوالي الذي إعتاد إهمالها محبة ً بدفترداره ,ولكن حين أصبح كل حديث الناس في الشوارع والأماكن العامة منصب حول موضوعة عربدة الدفتردار وظلم إدارة القصرخاصة العقلاء الذين بدأوا يظهرون ضجرهم الواضح أمام الوالي, قرر الوالي الجلوس مع الدفتردار والتكلم معه حول هذه المشكلة ومدى صحة الشكاوى.
في ظهرية أحد الأيام , بينما كان أبـــو گنو جالسا في شرفته المطلّة على شارع السوق يحتسي المنكر داخل القصر , جاءه أحد الغلمان ليخبره بأن الوالي يريد التكلم معه في أمر مهم , في الحال أمر أبــو گنو بإحضار كرسي للوالي الذي جاء وجلس بجانبه , بدأ الوالي يشرح لدفترداره مآل الحالة التي تمر فيها الولاية بسبب كثرة الشكاوى ويأس عامة الناس من أسلوب القصر و إدارة دفتر داره لمناحي حياة الناس, السيد الدفتردار كان فقط يستمع محدقا يبتسم بوجه الوالي ويهز برأسه والوالي يرفع من نبرة صوته مبديا تهكمه أزاء إبتسامات دفترداره وصمته, وبينما كان الوالي يصرخ من شدة إنفعاله ويكثر من أسئلته دون تلــّقي أي رد من ابو كنو, إندهش الوالي حين لاحظ أبو كنو ناهضا من كرسيه حين رأى مسيرة جنازة محمولة على الأكتاف قادمة بإتجاه القصر, وقف ابوكنو ومد ذراعيه طالبا من جمهرة الناس أن تقف بالجنازة امام القصر, ظن الناس بأن الدفتر دار يريد مرافقتهم مع الجنازة, أما الوالي فقد اصابه الذهول مما شاهده , ثم إلتفت ابو كنو الى الوالي وقال له أسمح لي بدقيقتين سأعود إليك بعدها, نزل ابوكنو مسرعا إلى الشارع وأمر بوضع صندوق التابوت على الأرض, وأمام إرتباك الناس لهول طلب أبو كنو والوالي يراقب الموقف من الشرفة,وجه ابو كنو الأمر بفتح صندوق الميت, وفعلا تم فتح الصندوق والناس تراقب ما يحصل, إقترب أبو كنو من الصندوق ثم إنحنى فوق رأس الميت وهمس لثواني قليلة بأذن الميت, تصور الناس بأنه يقبل المتوفى قبلة الوداع على إعتباره أحد المقربين اليه, ثم أمرهم بغلق الصندوق ثانية والسير به إلى المقبرة.
عاد أبــــو گنو إلى الشرفة ليرى الوالي حائرا أمام هذا المشهد, جلس أبوكنو وقال للوالي الله يرحمه, رد عليه الوالي مالذي تعنيه؟ هل كنت تعرفه؟ رد أبو كنو: كلا لا أعرفه , ثم سأله الوالي ما الذي فعلته إذن؟ قال همست بأذنه جملة او جملتين. نهض الوالي من شدة عصبيته وسأله وكيف تتكلم مع الموتى؟ هل أنت معتوه؟ قال ابو كنو, انا لم أتكلم مع الميت , بل كنت أتكلم مع الرب الذي خلقه وبمشيئته أماته, ثم أضاف الوالي متسائلا: وما ذا تريد من الرب وما الذي قلته له؟ لم يكن الدفتردار راغبا في الإفصاح عما همس بأذن الميت خوفا من العقاب , لكن إلحاح الوالي وتهديده بقطع رأسه لو لم يخبره بما همس به إظطر أبو كنو لقول الحقيقة بعد أن إمتلكته الشجاعة , فقال أبو كــــنو:

يا سيدي الوالي , أنا لا أعرف الميت , ولم اقبلــّه كما تصور الناس , بل همست بأذنه , وطلبت منه أن يبلغ الرب والسماء والموتى والملائكة والشياطين رسالتي..............................!
ورسالتي هذه هي جوابي لك ولشعبك على كل تساؤولاتك التي أحرجتني فيها, قلت في رسالتي للرب: إن الولاية التي يحكمها والـــي ذكي جدا مثلك أرشده عقله إلى إختيار أبــــو گنـــــو السكيـــــر دفتردار الولايــــة ,سوف يهجرها أهلها لتسكنها الجان و الغربان والثعبان .

ورسالتنا لولاة الله على الأرض نقولها بملئ فمنا, أن أحذروا من تنصيب أمثال أبــــــو گنـــــــــــــــــو فمؤسساتنا وشعبنا لم تعد تحتمـــــل كل هذا الإستهتار والحليــــــــم تكفيه الإشارة.
Opinions