قصص من التراث
abu-rtema@hotmail.com
هناك قصص يزخر بها تراثنا نتسلى بحكايتها في المجالس والدواوين ونصدح بها من على رءوس المنابر نظن أنها من مفاخر تاريخنا الإسلامي لكنها تقوم بدور سلبي تخديري للأمة يعوق انطلاقتها الحضارية، وتبعدنا عن النبع الصافي للدين المتمثل في القرآن والسنة الصحيحة وسنة الخلفاء الراشدين المهديين..
مثلاً هناك نمط شائع من هذه القصص يحدثنا أن أحد الخلفاء أعجب بقصيدة أحدهم فأمر له بألفي درهم!!..
هل نُسر بكرم الخليفة واهتمامه بالفكر والإبداع أم نحزن؟؟ أين المحاسبة والمراقبة على مصاريف الدولة.. وهل خزينة الدولة هي تحت تصرف شخص الخليفة يعطي من يشاء ويمنع من يشاء لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون؟؟
أو نسمع أن خليفةً تأثر تأثراً شديداً بموعظة أحد العلماء حتى شهق من البكاء وأنفذ لهذا العالم مطالبه!!..
هل قصارى ما تستطيع الأمة أن تؤثر به على حكامها هو أن تعظهم حتى يبكوا وأن تراهن على استثارة شفقتهم ورحمتهم حتى تصلح أحوال العباد والبلاد؟؟.
وماذا لو لم يرزقنا الله اليوم بحاكم مرهف الحس مثل أولئك الخلفاء؟؟ هل تظل أحوال العباد والبلاد تحت رحمتهم ومزاجهم الشخصي حتى يموتوا أو يقضي الله أمراً!!..
دور الأمة الراشدة تجاه حاكمها ليس أن تهمس له بالموعظة سراً بل أن تراقبه وتحاسبه وتلزمه بالاستقامة، كما قال الخليفة الراشد الأول أبو بكر رضي الله عنه لرعيته "فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم"، وكما خاطب الأعرابي الخليفة الراشد الثاني عمراً "لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا"..
ميدان الموعظة ليس فيما يتعلق بمصير الأمة، فحقوق الناس ليست منةً من شخص الخليفة، وعليها أن تمتلك من الوسائل الملزمة والآليات المحددة ما يمكنها من محاسبة الحاكم بل وعزله إن قصَّر في أداء واجباته.
لا يعنينا أمر شخص الحاكم كثيراً إن بكى أو ضحك، فهو فرد واحد في النهاية، بل يعنينا النظام السياسي أن يكون نظام حكم جماعي شوري لا يملك فيه الحاكم الفرد سوى صلاحيات محددة إن تجاوزها عوقب..
قصة أخرى أشهر من نار على علم إذا سمعناها كبرنا وهللنا وسألنا الله أن يعيد لنا تلك الأمجاد، وهي قصة هارون الرشيد حين خاطب سحابةً في السماء قائلاً: أمطري حيث شئت فإن خراجك يأتي إلي في آخر العام..
هذه القصة التي نطرب لسماعها ونود لو أعاد لنا التاريخ كَرَّته حتى نخضع الناس لدولتنا ونتحكم في ثروات العالم تدل على روح امبراطورية استعلائية مناقضة لروح القرآن، فرسالة الدين كما في القرآن هي رسالة الرحمة للعالمين والعدل بين الناس، والقرآن لا يقر الفكر الامبراطوري فيقول "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً".. إن مهمة المشروع الحضاري الإسلامي ليست جباية الأموال والخراج كما كان ينتظر هارون الرشيد، بل مهمته هو هداية البشرية وإخراجها من الظلمات إلى النور، والعدل والرحمة..
مشكلة استحضار هذه القصص التراثية وتناولها في سياق الإعجاب، واعتبارها من مفاخر تاريخنا أنه يعزز في نفوسنا حلم إعادة استنساخ التجربة الغابرة بسلبياتها المتمثلة في فردية الحكم وتضخم دور الخليفة وغياب مؤسسات المحاسبة والمراقبة الملزمة للحاكم بالاستقامة، وهو ما نراه واقعاً في بعض ممارسات الحكام التي تلبس لباس الدين والصلاح مثلما هو شائع في بلادنا عن مكرمات ملكية، وعفو رئاسي، وكأن أموال الدولة هي ملك الرئيس أو الملك ورثها عن أبيه يتفضل بها على من يشاء ويمنعها عمن يشاء، أو كأن مصائر الناس رهن لمزاج الحاكم دون قانون ومحاسبة....
ربما نلتمس للأمة عذراً في تلك الأزمنة نظراً لعدم نضج الفكر البشري حول آليات الحكم الجماعي، لكننا اليوم لسنا معذورين بأن نسجن أنفسنا في قفصهم بعد أن جاءتنا الآيات البينات ورأينا البشرية تؤسس قواعد جديدة لتنظيم علاقة الشعوب بحكامها ونقلها من كونها علاقة تبعية وانتظار المنة إلى علاقة شراكة ومحاسبة فتتحقق كمية أكبر من العدل بتحديد صلاحيات الحاكم وسيادة القانون والفصل بين السلطات وإيجاد مجالس وآليات للمحاسبة والتدقيق..
إن تجربة أمتنا التي أفرزت تلك القصص دفنت في بطن التاريخ بما لها وما عليها، وتلك أمة قد خلت، أما المطلوب منا اليوم فهو الاستفادة من الأنظمة السياسية الحديثة وتطويرها، ولا بأس، بل من الواجب استحضار الروح الإيمانية التي تميزت بها تجربتنا الإسلامية، لكن على أن نكون قادرين على التفريق بين هذه الروح الأصيلة التي تمثل شخصيتنا المتفردة، وبين ممارسات سياسية تاريخية كانت محكومةً بمستوى الوعي البشري في زمانها..
والله أعلم..