قولونيا تركية وسخام عراقي
السفر أمر جميل جدا لأنه يتيح للإنسان الاختلاط بثقافات وعادات تختلف عن تلك السائدة في البلد الأم وتمكنه من إنشاء المقارنات التي ستوصله إلى اختيار الأنسب من المعروض أمامه أو التمسك بما عاش عليه من قيم وسلوكيات. وفي العراق لو أقمنا مقارنة بين سلوكنا كمواطنين نعيش في بلد متخم بالمشاكل والمظاهر السلبية سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو حتى الأخلاقية والدينية وبين سلوك مواطن غربي يعيش في أوربا ربما بهذه المقارنة ستنهال علينا انتقادات كافية لتحويل جبل من مكانه والحجة في ذلك بأن العراقيين لهم خصوصية شرقية وإسلامية تختلف اختلافا جذريا عن الأوربيين المنتمين على الأغلب إلى ديانات أخرى .ولكن ماذا لو أقمنا مقارنة بيننا وبين أقرب الشعوب ألينا دينا وتقاليدا وثقافة مثلا أحدى دول الجوار العراقي والتي تشاركنا في الكثير من الخصوصيات الاجتماعية ويبقى التنبيه مطلوبا حول كل ما سيرد ذكره من سلبيات وايجابيات في كونها ليست الحالة العامة السائدة في البلد ككل لأنه لا يوجد تجربة مطلقة أو كاملة في الخير أو الشر كما أن الأرض ليست مكانا ملائما لتستقر فيه شعوب من الملائكة وعليه كلنا معرضون دائما للخطأ والفضيلة هي التعلم والاكتساب والبحث عن الأفضل.
قبل أكثر من سنة ونصف دخلت إلى تركيا برفقة بعض الأصدقاء وقبل أن نجتاز الحدود كنا ضحايا ابتزاز وتلاعب السائق بنا بعد أن أشترط علينا دفع 50 دولارا للشخص الواحد كرشا لموظفي الكمارك التركية مقابل الدخول وبعدها توجهنا بمكروباص صغير إلى ديار بكر اجتزنا في تلك الرحلة منطقة حدودية مهملة وقرى كردية كثيرة على الجانب التركي كانت حالتها سيئة لدرجة لو تم مقارنتها بالجانب الأخر من الحدود (( العراق )) لتصورت عزيزي القارئ بأن تركيا هي من تعيش حالة حرب وليس العراق وبعد أن أستقلينا حافلة مخصصة للمسافات البعيدة بأجرة باهظة جدا بدأنا نشعر قليلا بأهمية الإنسان من خلال الخدمات المقدمة داخل واسطة نقل غالبا ما يكون الجلوس فيها داخل بلدي مزعجا ومهينا لكرامة الراكب فلا تتفاجىء إذا مر عليك عامل الخدمة فيها طالبا منك أن تفتح يديك أمامه ليرش عليها القليل من عطر الليمون المنعش المسمى عندهم .. قولونيا.. وتكرر العملية عدة مرات حسب وقت الرحلة وهكذا يجري الأمر أيضا في دور الاستراحة والمطاعم ناهيك عن النظافة المتوفرة والقولونيا الحاضرة في كل مكان تركي تقريبا حتى في المرافق العامة والخاصة والتي تختلف كليا عن تلك المنتشرة على طريق بغداد الموصل والتي يكون فيها الإنسان متماسا مع الهواء الطلق وشاهدا حيا على رائحة التحلل وسائر العمليات البيولوجية الأخرى وهكذا كلما اتجهت غربا يزداد شعورك برقي المدنية وجمال التحضر هذه مقارنة بسيطة مع دولة مجاورة قد تكون مدنها ممتلئة بالعديد من حالات النقص والقصور في الخدمات والفوضى ولكنهم أذكياء نجحوا على الأقل في إبعاد صور الإهمال والبؤس عن خطوط النقل الرئيسية المارة عبر مدنهم الكبيرة والتي غالبا ما يستعملها السياح والمسافرون وحتى لو كان الأمر كذلك فنحن أعلنا الفشل حتى في ذلك المجال فترى الكثير من مدننا تنتشر على بواباتها الرئيسية مناطق صناعية ملوثة أو أحياء الصفيح والطين العشوائية. ومع استمرار الرحلة وصلنا في الثالثة فجرا العاصمة أنقرة التي بدت شوارعها كخلايا النحل مزدحمة بالحياة في كل مكان وخدمات البلدية مستمرة على قدم وساق في ذلك الوقت المتأخر من الليل وبعد أن ودعنا ضواحيها الصنوبرية الجميل مررنا بامتداد جبلي أخضر تنتشر عليه بيوت مغطاة بالقرميد يكون الطريق موازيا لسكة حديد طويلة ويخترقان معا سلسلة من الأنفاق حتى الوصول إلى الضفة الأسيوية من اسطنبول الكبرى التي تعلن عن هويتها الإسلامية بعد عبور الجسر المعلق فالبنايات فيها عالية ومتلاصقة والمآذن الفضية الرشيقة كثيرة جدا لأن المساجد أكثر هنا من أي مكان أخر في العالم ولا يفصل بين الواحد والأخر سوى بضعة أمتار وكذلك ستتمكن من معاينة جميع مظاهر الحياة الحرة وستلمس احترام الحريات الشخصية والخيارات العلمانية في هذه المدينة التي يطلق عليها أبنائها لقب الجنة وجميع تلك العناصر المتشابكة تشرح لمن يدركها نوعا غريبا من الإسلام لم نشهده في العراق هو (( الإسلام الهادئ)) وبعد دقائق وصلنا إلى المحطة العامة لالتقاء وسائط النقل البري في المدينة والمسماة .. اوتوكار اسطنبول .. حيث وجدنا الكثير من العوائل التركية قادمة مع أعزائها أما للاستقبال أو للتوديع والجميع يرتلون بعفوية الشرق المألوفة ويرفعون أعلام بلدهم الحمراء فأخذتنا الدهشة على الفور لأننا تلمسنا أعراف وتقاليد شرقية وأسرية أقوى من تلك التي نتفاخر فيها تعيش جنبا إلى جنب تحت ظل الحرية بشكل متلاصق مع مظاهر الالتزام الديني في مدينة طالما وصفها أبناء بلدي أمامي بأنها ساقطة وفاسقة خلقيا واجتماعيا وفي الحقيقة لا يوجد حكم مطلق على المجتمعات البشرية وخصوصا الحرة منها ومن يتهم الناس بالفسق ربما يعكس بذلك سقوط القيم الإنسانية داخله ويكشف حقيقته بعد أن ينسبها للآخرين بعد طول كتمان وتخفي .
وخلاصة الكلام هي أننا كعراقيين عانينا كثيرا بسبب العزلة التي عاشها بلدنا وسنوات الحروب ونحن اليوم بأمس الحاجة للتعارف من جديد على المجتمعات الإنسانية الأخرى المتشابهة أو المختلفة معنا والسفر هو أحدى وسائل التعارف تلك لأنه يساعدنا على الاطلاع على تجارب الآخرين وسلوكياتهم وطرقهم في التعامل والكسب الإنساني وربما يمهد أمامنا الطريق لتغيير مفاهيمنا المتداولة وعباراتنا الحادة بأخرى أكثر رقة ورقيا ويشدنا إلى تأسيس ثقافة جديدة في مجتمعنا ربما نحن حرمنا منها ولم نعد نملك أملا في تعميمها على أجيالنا ولكن الفرصة لا زالت متاحة لننقش تلك القيم والثقافات في نفوس الأجيال القادمة فأطفالنا اليوم محرومين كليا من أي توجيه على هذا الأساس وهم بحاجة ماسة إلى إرساء مفهوم مختلف عن ذلك السائد في شوارعنا اليوم كمفهوم ثقافة القولونيا التركية ومفاهيم أخرى مماثلة أفضل من إرهاصات الحروب ومظاهرها التي أغرت الأجيال الناشئة بأن لا يلعبوا ألا بالمسدس والبندقية أم الصجم ( طلقات بلاستيكية )
ولا يحلمون سوى بإشعال النار ورؤية الزنابير (( المفرقعات )) وهي تنفجر وتصدر أصوات قوية وكأن الجحيم الذي يعيشه العراق اليوم ينقصه ثقافة السخام التي سينشأ عليها العراق الجديد بأجياله الناشئة التي لا تعرف غير الخشونة والقتال حتى في لهوها .
عصام سليمان – تلكيف.