كتبنا وما كتبنا .. ويا خسارة ما كتبنا !!
2009 : سنة عراقية خطيرةكنت منذ زمن طويل أعلن عن تخوفاتي من العام 2009 ، وقد سئلت مرارا وتكرارا عن دواعي تلك التخوفات ، وخصوصا من نصفه الثاني ، فقلت : سيمر العراق بمرحلة صعبة جدا ، فالبلاد تعيش انقسامات سياسية كبيرة ، والمجتمع العراقي يعيش احتقانا لم يعشه أبدا في الماضي . إن 2009 علامة فارقة في تاريخنا ووجودنا ، ومن لم يستوعب ذلك ، فان الأجيال القادمة ستقف طويلا متأملة ما أقول ! هذا ما قلته في آذار 2009 . وقلت في التقرير السنوي الذي قدمته لهيئة IGFS ( ديسمبر 2008 ) ونشر في أماكن عدة : " ستبقى الاتفاقية الأمنية العراقية الأمريكية سارية المفعول ، مع ظهور مستجدات أخرى في العام 2009 ، فضلا عن تبلور مشكلات صعبة متلازمة ، تتفاقم نحو العام 2010 ... مع بقاء واستمرار قوى عراقية عديدة تسخن تحت الأرض ، وهي مختلفة ومتباينة سياسيا ، ومرتبطة بجهات إقليمية متعددة ، كي تثير تلك " القوى " سلسلة مضنية من الصراعات المسلحة .. ليس كل ما يحدث يعلم به في العراق ، وليس كل ما يقال هو الصحيح ، وليس كل ما يحدث يعّبر عن حقيقة .. إن هناك خفايا كثيرة لا احد يستطيع معرفتها، وان عرفها حكام العراق ومن يقوم على إدارته اليوم ، فهم لا يبوحون بها إطلاقا.. ثمة مناورات وتحالفات طويلة وآنية بين القوى السياسية الحاكمة . إن العراقيين اليوم ... لا يريدون إلا العيش المشترك ضمن نزعة عراقية أولا، ولا يريدون إلا حكاما يخدمون العراق ثانيا ويحققون لهم ما كانوا قد حرموا منه لسنوات ثالثا.. إن 2009 سيشهد مجموعة مفاجئات ـ كما اعتقد ـ لم تكن في الحسبان أبدا .. أتمنى على العراقيين كلهم حكاما ومحكومين أن يعملوا من اجل العراق ومصلحة العراق وشعب العراق .. " هذا ما قلته وكتبته ونشرته ( ديسمبر 2008 ) !
هل دم العراقيين ثمن لعبة سياسية ؟ لماذا سياسات التعتيم ؟
لقد كتبنا كثيرا على امتداد سنوات طوال ، ولم يسمعنا أحد .. ويا خسارة ما كتبناه حول العراق والزمن الدموي المرعب الذي يدفع ثمنه الشعب العراقي .. وكثيرا ما يصفق الساذجون للحالة الأمنية ، وكم أنها قد تحسّنت .. وفجأة تدوي الانفجارات ويقتل الأبرياء ليس في العاصمة بغداد وحدها ، بل في مدن وقصبات وضواحي وقرى عراقية .. وتشكّل لجان تحقيق .. ولكن لا نسمع بأي حقائق ، أو تسجّل الجرائم ضد مجهول ، وسرعان ما يعّتم على الجرائم ..
ما معنى أن يموت مئات العراقيين الأبرياء ؟ ما معنى هذا البحر من الدماء ؟ من فقد ضميره وغيرته وشرفه كي يقتل العراقيين .. هكذا بلا رحمة ولا شفقة ؟ من يجرؤ على أن يسجّل الأحداث ضد مجهول أو مجهولين ؟ من فقد كل وازع الأخلاق أن يجد نفسه بعد اليوم مسؤولا عراقيا ، وكيف ينام براحة وطمأنينة وكل العراقيين يموتون قوافل بعد أخرى ؟ هل يعقل أن يّصرح احد المسؤولين العسكريين واسمه عبد الكريم خلف بأنه قبض على اثنين ( أو خمسة ) من الذين لم يكن باستطاعتهم تفجير الشاحنة الثالثة يوم الأربعاء الدامي .. ولا نعرف السبب الذي يحول أمام المسؤولين كي يظهروا القتلة المقبوض عليهم بالجرم المشهود على شاشات التلفزيون ، ليقولوا من يصنع الرعب ؟ إذا تأكد للمسؤولين العراقيين أنهم يعرفون حقائق ، ويخفونها عن الناس ، فهم متواطئون مع كل ما يحدث ! ويسأل العراقيين : ما معنى ان يقوم الشيخ خالد العطية بطرد كل الإعلاميين من قاعة مجلس النواب أثناء انعقاد اجتماعه الطارئ حول الأحداث الدامية المرعبة ؟ ما الذي يريد العطية أن يخفيه عن كل الناس ؟ ويصّرح العديد من المسؤولين أن المرحلة ستشهد المزيد من حمامات الدم منذ الآن وحتى انتهاء الانتخابات .. !! هكذا يصّرحون بمنتهى البرود وقلة الحياء ، وكأن الأمر طبيعي وعادي .. أي أن ثمن الانتخابات لابد أن يدفعه العراقيون من دمائهم وأرواحهم حتى تتسلق ثلة منتخبين نفعيين ، أو شلة انتهازيين ومنافقين ، أو حفنة جهلة مارقين إلى سدة الحكم . إن ما حدث يوم الأربعاء من تفجيرات مرعبة كانت قد سبقتها تفجيرات مرعبة أخرى في مناطق عراقية أخرى لم يسمع أو يعرف بها أحد !
الاربعاء الدامي
لقد كان يوما مرعبا حقا ليس ضد مؤسسات الدولة التي يسمونها بـ ( السيادية ) ، بل ضد مناطق وأسواق وأحياء مزدحمة بالسكان ، أي النيل من مجتمع العراق بالكامل .. ونعيد ونكرر مطالبين ان تبادل الاتهامات لا ينفع العراق ولا العراقيين .. إن العراقيين سواء كانوا مسؤولين أو مواطنين عاديين ، مطالبون أن اتهموا أحدا أو طرفا أو جهة أو دولة .. أن يقدموا أدلة وإثباتات تشهد بأن تلك الأطراف مدانة حقا .. أما أن تلقى التهم جزافا من أي طرف ضد طرف آخر ، فهذا منتهى الاستهتار بمصائر العراق والعراقيين . إن سقوط المئات من الضحايا العراقيين ، ينبغي أن تعرف أسبابه وتوضح كل الحيثيات والحقائق على الناس .. إذ يكفي التمويه والسكوت والتزام الصمت وإلقاء الاتهامات على هذا الطرف أو ذاك من دون أي وثائق إدانة فاضحة تعلن على الناس حتى يطمئن المجتمع إلى من يكون عدوه الحقيقي .. الناس تقتل ، والأرواح تزهق ، والمؤسسات تفجّر ، ومؤسسات أخرى تحترق ، ومصارف تسرق ، وأموال تنهب .. ولا نسمع إلا مجرد تصريحات داخلية لا نفع فيها أبدا .. إننا واثقون أن الحكومة العراقية تعرف أشياء كثيرة لا تبوح بها ، وهي مطلعة حتما على حيثيات كل الجرائم والمقاتل والتفجيرات التي جرت في مناطق عديدة من العراق ، ولكنها ملتزمة الصمت والسكوت عن إظهارها وكشف الحقائق .. وليس لها إلا إطلاق الاتهامات التي لا توثيق لها أبدا .. منذ سنوات ، والكل يكتب ويطالب بكشف حقائق ما توصلت إليه اللجان التحقيقية مع المقبوض عليهم والمتهمين في جرائم وتفجيرات وقتل .. ومنها مثلا قتل المطران رحو وقتل الأستاذ كامل شياع وتفجيرات الزنجيلي والحلة وكركوك وديالى وحرائق وزارات عدة .. ولماذا قتل قاتل النائب حارث العبيدي ؟ ومن قتل ثمانية من حراس مصرف الزوية وغيرها كثير من المآسي ، وليس للعراقيين إلا سماع التصريحات النارية ، وليس للحكومة الا التكتم والتعتيم على الأحداث .. بانتظار مآسي وأحداث اخطر ..
حرب التصريحات المضادة
دعونا نرى الآن حجم التصريحات والتصريحات المضادة وكلها عراقية الصنع .. وكلها لا تقدم أي مستندات دامغة .. لقد أحصيت ما قاله العديد من المسؤولين العراقيين بدءا برئيس الجمهورية وانتقالا إلى وزراء ونواب ورؤساء أحزاب وساسة .. ، ثم قارنت ذلك مع ما كتبه هذا او ذاك من الكتّاب والسياسيين والمتحزبين والمتخندقين والمتمترسين ، فضلا عمن يسمون أنفسهم بالمقاومين ، ثم اطلعت على تقارير بعض الصحف الأمريكية ، فوجدت أن كل العالم قد ساهم في تفجيرات الأربعاء المرعب في العراق وقد توزّع دم العراقيين بين القبائل والدول . لقد قرأت تصريحات الرئيس جلال طالباني وقد اتهم الصداميين وبقايا القاعدة .. وهناك من اتهم البعثيين وأجهزة المخابرات العراقية السابقة ، وهناك من وجه التهمة للاحتلال الأمريكي أو لإسرائيل ، وهناك من اتهم الدول العربية ، وخصوصا مصر وسوريا ، وهناك من اتهم الوهابيين والسعوديين ، وهناك من اتهم إيران والإيرانيين وفيلق القدس الإيراني وسمّى قائد العمليات وهو ( حجي مهدي كناني ) "إن مجموعته التي نفذت عمليات إطلاق صواريخ كاتيوشا إيرانية الصنع من حي أور باتجاه أهداف حكومية في المنطقة الخضراء وعدد من المؤسسات العامة في الوقت الذي تولت مجموعة أخري بقيادة طرف آخر تسيير الشاحنات المفخخة لمسافة تزيد علي 10 كيلومترات داخل العاصمة من دون أن تكتشفها نقاط كشف المتفجرات المنتشرة في جميع الشوارع وعند منعطفاتها وتمكنت من الوصول إلي موقعي وزارتي المالية والخارجية من دون أن يعترضها احد".
التفصيلات
1) إن الجهات الرسمية توجه أصابع الاتهام في تفجيرات كهذه إلى الإرهابيين من تنظيم القاعدة وبقايا البعثيين. فمثلا يشير عضو الائتلاف العراقي الموحد محمد ناجي إلى أن جهات مرتبطة بحزب البعث المنحل فضلا عن ما يوصف بتنظيم القاعدة ، أنها وراء هذه التفجيرات، داعيا الحكومة العراقية إلى ضبط الحدود ومنع عبور المتسللين.
2) وكشفت مصادر أمنية عراقية أن منفذي التفجيرات الدامية التي ضربت العاصمة بغداد ، وأسفرت عن مقتل وإصابة مئات الأشخاص، هي مجموعات خاصة عملت بشكل متزامن وبإمرة أطراف مختلفة داخل بغداد غير أن جميعها مرتبط مع فيلق القدس الإيراني. من ناحية أخرى، طالبت جهات سياسية عراقية نواب "حزب الدعوة" الحاكم في العراق الذين وجهوا اتهامات إلى دول عربية مجاورة بالسعي إلى زعزعة الأمن، بتقديم أدلة تثبت هذه الاتهامات، متسائلين عن أسباب صمت نواب الأحزاب المتنفذة عن فضح "العبث" الإيراني في البلاد ودعم طهران مليشيات وقوى سياسية مارست أبشع أعمال القتل الجماعي ضد العراقيين.
3)على صعيد متصل وجه عضو مجلس النواب العراقي النائب نصير العيساوي أصابع الاتهام إلى الأجهزة الاستخباراتية التابعة لقوات الاحتلال الأمريكي في التفجيرات التي شهدتها العاصمة بغداد سعيا منها لعرقلة انسحابها من العراق .
4) وهناك من اتهم القوى السياسية الحالية ، وهي متنوعة ( ودعوني لا أريد تسمية هذا الحزب أو ذاك التحالف ) فلقد اتهم رئيس البرلمان السابق محمود المشهداني، جهات حزبية “متنفذة” في العراق بالوقوف وراء تفجيرات بغداد .. وقال عبد الرسول الساعدي في بيان صحفي أصدره : “إحداث الأربعاء الدامية في بغداد ورائها لوبي ثلاثي هدفه السلطة والنفوذ”، مبينا أن “جهات حزبية متنفذة في العراق وراء تفجيرات بغداد”. ولم يحدد الساعدي جهة سياسية معينة؛ إلا انه أشار إلى أن “التفجيرات حدثت في المناطق المحصنة امنيا وفي مدخل المنطقة الخضراء ووزارة المالية ولا يستطيع احد أن يخترقها إلا من أصحاب السلطة والنفوذ”.
5) هناك من اتهم ثلاث دول : سوريا ومصر والسعودية .. واتهم السنة وبقايا النظام السابق التي يساعدها العرب ، ولكن اعلن الدكتور عدنان الدليمي رئيس مؤتمر اهل العراق قائلاً: " لا علاقة للعرب بتفجيرات بغداد ويلمح الى وقوف جهات غير عربية وراءها" .
6) وقال رئيس "مجلس الحوار الوطني"، خلف العليان إن "الاتهامات التي يوجهها أعضاء أحزاب مدعومة ايرانياً ضد المملكة العربية السعودية محاولة للتغطية على حجم التدخل الإيراني البشع في العراق". وكان رئيس الحكومة العراقي نوري المالكي أشار في أكثر من مناسبة إلى تخصيص جهات لم يسمها، "أموالاً طائلة للتشويش على ذهنية الناخب العراقي في الانتخابات البرلمانية المقبلة"، لكن نواب حزبه أشاروا بإصبع الاتهام إلى المملكة العربية السعودية. وزعم القيادي في "حزب الدعوة" وليد الحلي أن حزبه يمتلك معلومات عن أشخاص وأحزاب تنوي السعودية تمويلهم لإفشال وعرقلة الانتخابات وتخريب العملية السياسية الجارية وإذا ثبت تورط هؤلاء ستقوم الحكومة بكشف أسمائهم وعناوينهم". وأضاف أن "التوقيت الذي تختاره دول الجوار للعبث بأمن البلاد أصبح معروفاً فهي تختار الأوقات الحرجة والحساسة لا سيما أوقات الانتخابات". وشككت أطراف سياسية عراقية مختلفة بهذه الاتهامات واعتبرتها تفتقر إلى الأدلة وقال القيادي في "الحزب الإسلامي"، عبد الكريم السامرائي إن "هناك أهدافاً سياسية وراء اتهام السعودية بمساعدة الإرهابيين".
ماذا اقول ؟
هذا العهر الإعلامي المجنون من قبل حرب الساسة العراقيين أنفسهم ضد بعضهم البعض ، والدفاع عن هذا الطرف الخارجي ضد الطرف الخارجي الآخر ، وتبادل الاتهامات بلا أية مستندات هو الذي ضيع العراق والعراقيين .. إن إلقاء التهم من ابسط ما يمكن ، ولكن إثباتها هو من أصعب الحالات .. وعليه أقول لكل العراقيين لا تركنوا لمثل هؤلاء جميعهم في تضييع قضيتكم ، وإبقائكم رهائن للتفجيرات والقتل .. علينا أن نناشد جميع من هو في السلطة ، ونطالب السيد رئيس الوزراء نفسه أن يجيب على كل الأسئلة بالأدلة والمستندات .. نريده أن يقّدم الأدلة التي يمتلكها سواء عن يوم الأربعاء الدامي ، وما سبق من جرائم في العراق على امتداد أيام حكمه له ، خصوصا وان الرجل يدعو إلى دولة القانون .. وليبحث كل العراقيين عمن هو صاحب المصلحة الحقيقية في قتلهم .. بمثل هذه الأساليب .. قتلهم كعراقيين من دون تفرقة أبدا . إن إلقاء القبض على ضباط ومسؤولين عسكريين عن خطة أمن بغداد ، أو التحقيق معهم ، ليست هي القضية التي يراد التمويه عليها ، بل القضية سياسية بل ووطنية أساسا ، فالعلاج لا يأتي من اجل التمويه ، بل على كل عراقي أن يفكر جديا بالسبل التي تجعلنا موحدين عراقيين وغير منقسمين أمام العالم .. على كل العراقيين مراجعة أنفسهم وان يكون العراق هدفهم لا السلطة ولا الكراسي ولا أي شيء آخر !
وأخيرا : وقفة امريكية
من جانب آخر ، دعونا نستمع إلى المتحدث باسم الخارجية الأمريكية أيان كيلي في واشنطن ، يقول : أن الحوادث المنسقة في السابق تحمل "علامات" القاعدة. وأضاف "لكن ليس لدي أي معلومات مؤكدة" تشير إلى القاعدة. صحيفة النيويورك تايمز رأت هي الأخرى أن هذه التفجيرات تزامنت مع زيارة رئيس الوزراء نوري المالكي الرسمية إلى سوريا. وفي تحليله لأسباب التفجيرات الأخيرة، ذكر جوست هلترمان نائب مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في (مجموعة الأزمات الدولية)، ببروكسل أنه يعتقد أن العنف سوف يتواصل في غيابِ أي اتفاقات سياسية على الأمور التي ينقسم عليها العراقيون: "سوف يستمر العنف طالما بَقيت الاختلافاتُ السياسية بين القادة على الأمور الأساسية التي ينقسم عليها العراقيون اليوم، أيْ الخلافاتُ على النفط والأراضي والسلطة وكيف يتم تقاسمها أو المشاركة فيها. وطالما لا توجد اتفاقات فسوف تبقى هناك مناطق يجدُ فيها مخرّبون ومتمردون وغيرُهم التضاريس التي تسمح لهم بالانطلاق نحو تنفيذ عملياتهم إذ أن هذه الهجمات تأتي من هناك." وفي ردّه على سؤال في شأن احتمال طلب العراق مساعدة القوات الأميركية لحفظ الأمن في البلاد، قال هلترمان: "لا أعتقد أنهم يريدون طلبَ مساعدة القوات الأميركية بشكلٍ واضح إذ أن ذلك سوف يقوّض مساعي رئيس الوزراء نوري المالكي في إبراز قدرات العراقيين بأنهم يسيطرون تماماً على الوضع وأنهم يمارسون السيادة الكاملة قبل الانتخابات."
نشرت في ايلاف 23 آب / أغسطس 2009
حقوق النشر لإيلاف وتنشر أيضا على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com