Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

كفانا دَ قا ً بالطبول المفتوقة! عزيز القوم من نهض بقامته وقال ها أنذا

من الحكايات ما يبقى عالقا في الأذهان ,و تكرار مناسبات إستذكارها تجعل إعادة سردها مُمّلاّ بعض الشيئ , لكنّ القائل بأنّ في الإعادة إفادة هو الأخر مُحِق ٌ في رأيه , و حكايتي التي أنا بصدد سردها قد حفظتها في ذاكرتي لما يقارب الأربعة عقود, ولاشك أنّ الكثيرين قد سمعوها ,أمّا أنا, فقد سمعتها لأول مرّه من أحد أساتذتي المرحوم الدكتور هشام الصواف /دكتوراه في الأدب الإنكليزي / في جامعة الموصل, والذي وافاه الأجل منتحرا على ما أعتقد بعد سنوات قليله من تخرّجي , هذا الإنسان النبيل المنحدر من إحدى مشاهير عوائل الموصل, إمتاز بشدّة تواضعه , حيث غالبا ما كان يرى فسحة حريّته و مديات إنسانيتها في مجالسة تلاميذه خارج ساعات واجبه الرسمي , كان رحمه الله قليل الكلام , ولو تكلّم نطق بالذي لا يجرؤ الكثيرون على قوله ممّا شكلّ ذلك سبباّ في خلق المتاعب له, حيث غالبا ما كنت وزملائي نتحسسّ فيه كابتاً حسراته وضجره الشخصي من الوضع الإجتماعي و الثقافي السياسي السائد أنذاك.

في إحدى اللقاءات التي جمعتني وزملاء أخرين لي مع المرحوم الدكتور هشام الصوّاف في مدينة الموصل, دار حديث بيننا حول الأكلات الشعبيه العراقيه المفضلّه, كنتُ الوحيد من بين الحاضرين الذي فضلّ أكلة البرغل على الكثير من الأكلات الأخرى, و بالمناسبه ,الجميع يعرفون بأنّ البرغل هو مجرّد أحد مشتقات الحنطة (المقشرّه والمكسّره ) وعملية طبخه لا تتطلّب أيّ جهد إستثنائي بالمقارنه مع طبخ الباجة او الكبّه الموصليّه , وحال سماعه بأكلتي المفضلّه, بادر المرحوم الصواف بدون أي تكلّف متسائلا باللهجة المصلاويه: إيمتي نطيق ناكل من هذا البرغل اللي يعجبك؟

كي لا أطيل على القاريئ الكريم مقدّمتي, , لأنّ موضوعي هو ليست أكلة البرغل, على أيّة حال, فقد دعوته والاصدقاء الأخرين إلى القوش كي نأكل البرغل الذي ستطبخه والدتي, ومقابل إصرار الدكتور على ان نأكل البرغل الذي ستطبخه الوالده في نادي الوظفين وليس في بيتنا, لم يجدي إعتراضي بأي نفع , لأنه على ما يبدو كان يفكر بحريّة تناول شيئ مشهّي كإحتساء البيره في الهواء الطلق قبل أكل البرغل.

عموماّ, الإتفاق كان على يوم الجمعه, وقد إستقبلته حسب الموعد وبرفقته الدكتور يوئيل عزيز والأستاذ صديق (لا أتذكر إسم والده) , في نادي ألقوش , وقد حصل ما كنت أتوفعه , حيث قبل أن أبادر بالسؤال عن ما يفضلون شربه, همس المرحوم الصواف في أذني طالبا منّي أن أوصي الخادم بجلب طخم بيره لنا جميعا , مضيفا جملة أخرى بلهجته المصلاويه قائلا)) أرجوك كَوي أنت تلميذنا ونحبّك ما يصيغ تحغجنا (تحرجنا), خللّينا ناخذ راحتنا على هوانا , انت اللّي عليك هو البرغل عملتو حسب إتفاقنا ما عليك بغيغ ( بغير) شي)).

وبينما نحن جالسون وأمامنا كؤوسنا , نتبادل الحديث حول مواضيع شتى , وأحدّها دار حول مدينة ألقوش وتاريخها , كان الدكتور يوئيل عزيز(أستاذ جامعي) أكثرنا إلماما ً وإقتدارا َ في الموضوع وراح يدلي بما لديه حول تاريخ المدينه متلفتا يمينا ويسارا وهو حذرا للتأكد بأنه لا أحد غريب يسمع ما يقوله تحاشيا من دوخة المساءلات , فجأةً وقع شجارا بين شخصين( سين) و (صاد) كانا جالسين في الجانب الثاني من الحديقة , حاول مسؤول النادي تهدئة الموقف عبثا , و في الأخر وتفاديا للمشكله, إظطر وبكل أدب وهدوء و بحكم معرفته الجيده ب السيد (سين) , طالباً منه مغادرة النادي , بينما بقي الثاني(صاد) جالسا يتخبّط في محلّه وهو يصرخ ويعيّط مهدّدا بقتل ذلك الرجل(سين) وهو يعتب على مسؤول النادي مساعدته في هروب خصمه من قبضته, كررّ مسؤول النادي بكل أدب وهدوء طلبه من السيد صاد أن يهدأ ويتعوذ من الشيطان, خاصةً وأنّ الأخ سين قد غادر المكان , لكّن السيّد صاد رأى في ذلك مجالا اوسع كي يستمر وهو يكيل المزيد من السب والشتم , في هذه الاثناء همس المرحوم الدكتور الصواف في أذني قائلا: ( بلكت الله يكون الشخص سين يسمعو ويرجع حتى نشوف من هو العزيز بصدق), وقبل أن يكمل المرحوم الصواف كلامه , وإذا ب (سين) واقفا أمام الباب الرئيسي ينادي ويقول : يا صاد ماالذي تريده ؟ يكفيك صراخ وهوسات , إنّه أمر معيب والله , من الأفضل أن تخرج خارج النادي إن كنت تنوي التحدّي , تعال أخرج وحينها سنرى من الذي سيثبت عند كلمته , والكلام لازال للأخ سين ,النادي ليست ساحة مناسبه و لا داعي لإزعاج الأخرين. تلعثم الأخ صاد وإحمّرَ وجهه باحثا عن مهرب لوجهه قائلا :ألم يطردك مسؤول النادي يا سين ؟ ,بأيّ حق ترجع ثانية؟ ؟والله سوف أخبر صاحب النادي وأطالبه كي يطردك ثانية وإذا لم يفعل فسوف أتصل برجال الأمن!!

هنا إنفجر الدكتور الصواف ضاحكا ومن شدة ضحكه سقطت نظاراته من عينيه على ثيّل الحديقة ,وهو يتمتم بصوت خافت (والله هسّه عغفنا(عرفنا) منو هو العزيز) , وبعد أن أعاد نظارّاته إلى مكانها , طلب منّا أن نستمع إليه ليروينا قصه واقعيه قبل أن يحضر البرغل , وقصته كانت نوعا ما مشابهة أو مطابقه إلى حد مقبول ربمّا لسالفة الأخ صاد التي نعيش اليوم مع الأسف , مثيلاتها وصراخاتها الفارهة ألتي تطلقها (الصادات) عبر المحيطات والبحار وهنا يكمن ربّاط الحچي في سالفتنا , المهم مفاد الحكايه و على لسان المرحوم الصواف :(((( في عام 1948 , حين كان المرحوم نوري سعيد رئيسا للوزراء , حصلت مظاهرة كبيره في شوارع بغداد شارك فيها ألاف الناس وهم يهتفون مطالبين بالسلاح للذهاب إلى نجدة الفلسطينيين من الإعتداءات الإسرائيليه وقوات الإنتداب أنذاك , سأل نوري السعيد المتظاهرين عن مطاليبهم , أجابوه بأنهم يريدون السلاح للذهاب إلى نجدة أخوانهم الفلسطينيين !! قال نوري السعيد بارك الله بيكم أمهلوني قليلا يا نشامه , والرجل لم يتردد في إصدار أوامره بإحضار السيارات العسكريه (اللوريات) فورا, وحين بدأت اللوريات تتوافد إلى المكان , لم يبقى في الساحة من تلك الالاف إلا العدد القليل لا يتجاوز العشرات من عزيزي الأنفس من المؤمنين , أمّا البقية فقد ذابوا كفص الملح))).

وحال إنتهاء المرحوم الصواّف من سرد حكياته تبيّن بأنه من شدة فاعلية المشهيّات غدَونا زغب الحواصل من شدة الجوع نترقبّ مقدم منسف البرغل, ولسان حال المرحوم الصواف مرددّا : ما كلّ من هزّ الحسام بضارب, ولا كلّ من أجرى اليراع بكاتب.

أرجو أن تكون الرسالة قد وصلت رغم عدم ترتيشها, فالحليم تكفيه الإشارة Opinions