كُلفة الديمقراطية العراقية "الباهظة"
الباحثون والمحللون السياسيون، الكارهون للعراق، والكارهون لأمريكا، يتساءلون فيما يكتبون عن العراق:- هل هناك ديمقراطية عراقية حقاً، بعد هذه السنوات المريرة والصعبة الست، التي قضاها العراق كما لم يقضِ مثلها أي بلد عربي آخر، أو أي شعب عربي آخر؟
ويأتي جواب من معظم هؤلاء عن سؤالهم:
- ليس في العراق ديمقراطية، وأن ديمقراطية العراق ليست أكثر من وهم. وكان على العراق أن يعيش منذ 2003 مائة سنة أخرى، أو أكثر أو أقل، لكي يُحقق ديمقراطيته المنشودة.
لماذا مائة سنة أخرى؟
ويسرد هؤلاء سبب دعوتهم للعراق بالانتظار مائة سنة، أو يزيد أو يقل، وذلك لكي يتخلَّص العراق من فيروسات الديمقراطية الخطيرة وهي : المحاصصة الطائفية الدينية، والمحاصصة العشائرية، والمحاصصة العرقية. فالتكوينات العراقية المختلفة والمتعددة تحتاج كلها إلى عقد اجتماعي واحد، يربط بينها، ثم تأتي الديمقراطية طبقة أخيرة، من طبقات الكعكة العراقية.
كذلك، فإن العراق بحاجة ماسة إلى قائد وزعيم قوي وشجاع ومثقف من قماشة كمال أتاتورك، أو الحبيب بورقيبة، لكي يهدم سدوداً قديمة متآكلة، ويطلق الماء المتعفن، المحتبس وراءها، منذ مئات السنين.
فيروس العشائرية الخطير
ولنا أمثلة كثيرة من التاريخ البعيد والقريب، على أن البلد الواحد بتكوينات مختلفة يمكن أن يتحد ويتقدم. ولعل المثال القريب هو مثال الاتحاد السويسري. ففي سويسرا تكوينات عرقية ودينية أكثر مما في العراق، وبلغات أربع: الألمانية، والفرنسية، والايطالية، والرومانثية. واستطاعت سويسرا الوحدة والتقدم وتطبيق الديمقراطية، لأنها كانت خاليه من فيروس خطير جداً، وهو فيروس العشائرية الطاغية كالتي في العراق. حيث 73% من سكان العراق عشائريون. وهذا الرقم لا يشمل العراقيين ذوي التفكير القبلي والزي الغربي. وهذه ليست مشكلة العراق وحده، ولكنها مشكلة الخليج العربي بأسره، وكذلك بلاد الشام باستثناء لبنان. ولعل تقدم مصر التاريخي على الدول العربية الأخرى في السباق الديمقراطي (ظهر أول مجلس نيابي عام 1866م)، مرده إلى خلو مصر – إلى حد ما - من النظام القبلي العربي، ووجود حاكم رشيد وقوي ومتفتح كالخديوي إسماعيل، رغم كل أخطائه المالية، التي أدت إلى عزله.
فشيخ القبيلة لا يُنتخب، وإنما يُورَّث.
وشيخ القبيلة لا يُنحَّى، وإنما يموت.
وشيخ العشيرة لا يُسأل، وهم يُسالون.
وأصوات القبائل العراقية في أية انتخابات وعلى أي مستوى الآن، هي "بيضة القبَّان"، حيث استعادت القبائل العراقية الآن قوتها ونفوذها، حين استعانت بها القوات الأمريكية والسلطة العراقية لمكافحة الإرهاب وتثبيت الأمن والاستقرار، بعد أن ضمُرت قوتها، وتقلَّص نفوذها في ظل الحكم العثماني للعراق. فزاد كل ذلك من قوة العشائر. فالعلاقة بين العشائر والدولة (أية دولة) علاقة عكسية. فكلما زادت قوة العشائر ضعفت الدولة، وكلما قويت الدولة ضعفت العشائر. ومن هنا، تبدو كلفة الديمقراطية العراقية "باهظة" ولكن في الميزان العربي فقط.
الديمقراطية بخصائص عراقية
العراق لا يسعى إلى تطبيق الديمقراطية الانجليزية، ولا الديمقراطية الفرنسية، ولا ديمقراطيات الدول الإسكندنافية، ولا الديمقراطية الأمريكية. فلكل هذه الديمقراطيات خصائصها وخصوصياتها.
ما يريده العراق الذي هو جزء من الأمة العربية، بتاريخها المعروف وجغرافيتها المعروفة، وتكويناته الدينية والطائفية والعشائرية والعرقية، أن يصنع لنفسه وبنفسه ديمقراطية ذات خصائص عراقية محضة، تليق به وتليق بأهله. ولعل ما جري في العراق حتى الآن من حراك سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي يتجه هذه الوجهة. وما فعلته أمريكا أنها شقَّت الطريق إلى الديمقراطية، ولم تأت بصيغة ديمقراطية جاهزة للتطبيق. وهذا ما فعلته أمريكا في اليابان، وكوريا الجنوبية، وألمانيا الغربية، عشية الحرب العالمية الثانية.
الدولة عارية بدون الديمقراطية
العراق - وهذا هو قدره من التاريخ والجغرافيا - يحتاج إلى زمن طويل، لكي يشير إلى اكتمال الديمقراطية ذات الخصائص العراقية. ذلك أن تفصيل الديمقراطية تفصيلاً دقيقاً، لكي تلائم الكيان العراقي، أصعب بكثير، وأكثر تكلفة – بالطبع – من شراء صيغة ديمقراطية جاهزة.
فالدولة تظل عارية إلى أن تستر عورتها بالديمقراطية المناسبة، التي تصنعها بنفسها، ولا تشتريها من حانوت الأزياء الديمقراطية الجاهزة.
فما هي تكلفة زي الديمقراطية العراقية؟
"رخص" الديمقراطية العراقية !
ما قدمه العراق من ضحايا، وما خسره من أموال على مذبح الديمقراطية منذ 2003 إلى الآن، يبدو رقماً ضخماً في الميزان العربي. وتبدو تكلفة الديمقراطية العراقية "باهظة" في الميزان العربي، الذي لم يعتد على دفع مثل هذه التكلفة العالية في ماضيه وحاضره. علماً بأن أمريكا وبريطانيا تحملتا الجزء الأكبر من تكلفة الديمقراطية العراقية، دماءً وأموالاً. أما في الميزان الغربي، فهذه التكلفة لا تُذكر، قياساً لما دفعته أوروبا في الحرب العالمية الثانية وبعدها، ثمناً لديمقراطيتها الحالية، وخلاصها من الديكتاتوريات. فإضافة للتكلفة التي دفعها العراق منذ 2003 حتى الآن، من الدماء والمال، بفضل تدخل دول الجوار في أموره الداخلية وعرقلة مسيرته الديمقراطية، سيدفع العراق في المستقبل القريب – سيما وأن الانتخابات التشريعية القادمة على الأبواب الآن – الأموال الطائلة للحملات الانتخابية. فالأحزاب العراقية تسعى لتعبئة مواردها المالية الآن أكثر من ذي قبل، نتيجة لارتفاع تكلفة الانتخابات، التي تأتي في زمن تطورت فيه وسائل الدعاية والإعلان وزادت تكلفتها. أما دول الديكتاتورية الحزبية والعسكرية والقبلية فلا تحتاج لصرف ملايين الدولارات ثمناً للديمقراطية.
ويشير الباحث الفرنسي جان ميشال دوكونت في كتابه "الديمقراطية" إلى أن مثل هذه المبالغ الطائلة التي يُطلق عليها "المال السياسي" قد ساهمت في تهديم الأسس الأخلاقية التي تقوم عليها الديمقراطية. مما يزيد من تكلفة الديمقراطية الباهظة، وخاصة في دول العالم الثالث. ولنا مما حصل في لبنان في الانتخابات التشريعية الأخيرة خير مثال على ذلك.
الديمقراطية العقار الأنجع للفساد
وهناك بند خفي عيني، من بنود تكلفة الديمقراطية العراقية، وهو الإعلام العربي الخارجي الذي يُضخِّم من ظاهرة الفساد المالي في العراق.
صحيح أن في العراق فساد مالي كبير، ذلك ما لا ينكره أحد. ولكن حرية الإعلام والرأي في العراق الآن، هي التي كشفت وضخَّمت من حجم هذا الفساد. فالفساد ظاهرة طبيعية في كافة دول العالم الثالث، وفي الدول العربية خاصة، وفي دول الخليج بالذات (كارثة جدة الأخيرة مثال واضح). ولكن قوة السلطة وطغيانها في العالم العربي، تحول دون كشف فضائح الفساد. ولو وُجد هامش من الحرية والديمقراطية كما هو متوفر الآن في العراق، لسمعنا وقرأنا عن فضائح فساد مدوية.
فبالديمقراطية وحدها نكتشف العلل. وبها وحدها نعالج هذه العلل. فالديمقراطية هي العقار الأنجع لمحاربة وباء الفساد، وغيره من أوبئة العالم الثالث.
وأخيراً، شكراً لسوريا وإيران خاصة، وكافة دول الجوار التي ساهمت – بتدخلها في شؤون العراق وإرسال هداياها للشعب العراقي من السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة تهنئة للعراق الجديد - في رفع كُلفة الديمقراطية العراقية، وذلك حتى تتنبه بقية أقطار العالم العربي إلى أن الديمقراطية ليست فسحة على شاطئ البحر، ولكنها دماء وشهداء ومال ووقت.