كنيستـي إلـى أيـن ؟
رسـالـة شـامـلـةإلى جميـع أبنـاء كنيستـي
في العـراق وفي المهجــر.
صرخــة استنجــاد
لمعالجة شؤون الكنيسة الكلدانيـة.
أمنيتـي الوحيــدة :
ان ارى كنيستي في حالة فضلى،
بهمـة أبنائها المخلصيــن.
الرّب قادر على كـل شـيء،
وصلاة الإيمان تنتزع منه العظائم
فرحماك يا رب، وعطفك وحنانك.
(الأب ألبيـر أبـونــا)
بغداد، تمـوز 2008
.........
قبل سنتين – أي سنة 2006 - صدرَ في لبنان كتاب بعنوان " كنيستي، أين أنتِ، من هويتك وعلاقاتك ؟ "، كتبَه الأب جوزف هلّيـط، وهو مؤسس دير القيامة في فاريـا (لبنان)، ومن الأشخاص البارزين بروحانيتهم وبغيرتهم على الكنيسة. ويحتوي الكتاب على تحاليل رائعة تتناول حالة الكنيسة في لبنان، وعلى انتقادات لاذعة أيضًا للانحرافات المؤسفة التي طرأت على بعض أوجُـه من هذه الكنيسة. وجاء هذا الكتاب بمثابة صرخة مدوّيـة موجَّهـة إلى المسؤولين عن هذه الكنيسة، وهي تدعوهم لإلقاء نظرة واقعية ونزيهة وشجاعة على الكنيسة وشؤونها في هذا العصر، وإلى وضع الأصبع على الجروح فيها ومحاولة معالجتها، لكي يتسنّى لهذه الكنيسة ان تواصل رسالتها في عالم اليوم بكل واقعية وجرأة.
قرأتُ الكتاب بانتباه وإمعـان، وأؤيّـد المؤلف على معظم ما جاء فيه. وحملتني هذه القراءة على التفكير العميق ثم إلى التساؤل بجـد : وكنيستي في العراق ؟ إلى أين هي سائـرة ؟
المقـدّمــة
عزمتُ اليوم على التكلم عن الكنيسـة أمي. وما أحلـى الكـلام عن الأم، لا سيّما إذا تفجّر من قلب محِبّ ومخلص. فليس ثمة ابن بار يريد التحدّث بالسوء عن أمـه.
أحبُّ الكنيسة أمـي. فيها وُلدتُ، وقد احتضنتني بالعماد وضمّتني إلى المسيح، وأشرفت على تربيتي في حداثتي، ثم واكبتني في طريقي إلى الكهنوت، ثم في حياتي الكهنوتية ورسالتي. وأنا أيضًا حاولتُ ان اكون لها ابنـًا وفيًا، وبذلتُ جهدي، طوال حياتي، وحيثما تواجدتُ، لكي اخدمها بإخلاص، وذلك بالقول والعمل، ولا سيّما عن طريق الكتابة التي اعتبرها رسالتي الخاصة في الكنيسة.
الكنيسة أمـي ! وأكـنُّ لها كل الحب والإحترام والتقدير، مع التعاون البنّـاء. ولا أحد يرضى بالتكلم بالسوء عن أمـه. وكم كنت اتمنى ان تكون الكنيسة أمي كما ارادها المسيح : واعية برسالتها، وعلى مستوى مسؤولياتها. ولكـن....
في الواقع، تحتاج كنيستي إلى نفض الغبار والأتربة التي تراكمت على حياتها وتقاليدها وطقوسها، لكي تظهر من جديد على حقيقتها الناصعة، المنزَّهـة من الطفيليات التي التصقت بها خلال الأجيال، والتي حاولت ان تلوّث دماءَها، وان تشوّه بهاءَهـا.
انا لستُ مصلحًا للكنيسة. إنما يؤلمني ان اراها على الحالة التي هي فيها الآن. وأرى انه لا يحق لي ان ارتاح لهذا الواقع المؤلم. لذا قررت ان أطلق هذه الصرخة المدوّية لأدعو فيها المؤمنين جميعًا إلى الإلتفات إلى هذا الوضع ومحاولة معالجته، بل ادعو الجميع إلى انتفاضة سلمية على التخلّف الروحي المستشري في كنيسة العراق. فان السكوت جريمة تقع مسؤوليتها على كل عضو من هذه الكنيسة، رؤساء كانوا أم مرؤوسين. على جميعنا ان نسعى في إعادة بناء كنيستنا على أسس الإيمان والرجاء والمحبة، وعلى دعائم التواضع والخدمة والتجرد والتضحية، على مثال الكنيسة الأولى في عهد الرسل.
وكانت لي قراءة كتاب الأب الصديق جوزف هلّيـط " كنيستي اين انتِ ؟ " بمثابة مهمار أثار فيَّ الألم واستنهض فيَّ الغيرة والشجاعة، وحثّني على عدم الإخلاد إلى الصمت الجبان. لذا فانا احاول تسليط الأضواء على كنيستي، ولست أهدف بذلك إلى كيل الانتقاد اللاذع والهدّام للكنيسة أو لأي من المسؤولين أو المؤمنين فيها. إنما ارمي إلى تشخيص بعض الأمراض فيها، لعلّي بذلك أسهم في مساعدة كنيستي للنهوض من كبوتها، وإلى حثّها على القيام بحركة إصلاح شاملة تطال جميع الشرائح فيها. فكنيستي بحاجة إلى تجديد وإلى نهضـة وإلى إصلاح جذري، وهي بحاجة إلى نفحة جديدة من الروح تهبُّ عليها وتمـلأ أشرعتها وتوليها الطاقة لانطلاقة جديدة نحو الأعالي.
وهنا أودُّ ان أطرح على نفسي وعلى جميع الذين يقرأون هذه الخواطـر ثلاثـة أسئلـة
حول هذه الكنيسـة :
1- مـن هـي كنيستـي ؟،
2- ما هو وضعهـا اليـوم ؟
3- إلـى أيـن هـي سائـرة ؟
ا- مـن هـي كنيستـي ؟
ليست كنيستي مؤسسة بشرية تستمدُّ جذورَهـا من عبقرية بشرية، ولا هي جمعية فيها تتضارب المصالح وتتنافس المطامع في سبيل السلطة والاستغلال. كـلا ! بل كنيستي مؤسسة إلهيـة أرسى الرّب يسوع قواعدها وحدّدَ أهدافَها، وفتحَ أمامها آفاقًا واسعة سعة العالم كله : " اذهبوا إلى العالم كله، وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين " (مرقس 16/15).
فالمسيح هو الذي أسس الكنيسة، على صخرة إيمان بطرس وإيمان الرسل. ولكنه يبقى هو الصخرة الحقيقية التي عليها تُبنى الكنيسة. لذا فان أبواب الجحيم لن تقوى عليها، مهما حاولت الإطـاحة بها. فان الكنيسة تستمدُّ من المسيح كيانها وحيويتها في كل الأجيال، منذ نشأتها حتى انتهاء الأزمنة.
كنيستي تلقت كيانها واصولها من الكلمة الذي جاء إلى العالم لينقل إليه محبة الآب ويكشف له عن مدى هذه المحبة وشموليتها وفاعليتها، وعن مقتضياتها الهائلة أيضًا. واراد ان تكون الكنيسة تجسُّدَ هذه المحبة وصوت المسيح المدوّي في العالم.
إلاَّ ان الكنيسة التي أسسها المسيح تتّسم ببُعـدَين : البُعد العمودي، أي انها تستمد كيانها وجذورها من الله، والبُعد الأفقـي، أي ان هذه الكنيسة مكوَّنـة من بشريين مدعوين إلى القداسة، ولكنهم في الواقع ليسوا كلهم قديسين، وهم يفتقرون دومًا إلى الاحتكاك بالمسيح للحصول على هذه القداسة. أجل، انها كنيسة الخطأة المفتدَين والمدعوين إلى القداسة التي ستتحقق فيهم بقدر ارتباطهم الوثيق بالمسيح.
ويتـمُّ الانتماء إلى كنيستي عن طريق العماد والإيمان بالمسيح، وليس عن طريق اعتبارات اخرى، عرقية كانت أو طائفية أو حزبية أو سياسية. ان كنيستي مفتوحة للجميع وتقبل الجميع، لكي تقود الجميع إلى الخلاص والحياة والسعادة.
ولكنيستي اربع علامات أو صفات واضحة، انهـا :
واحـدة ، جامعـة، مقدسـة، رسوليــة
وهذا ما يعلنه جميع المسيحيين كل يوم في قانون الإيمان : " نؤمن بإلـه واحـد ... ".
1- كنيستـي واحـدة
هكذا ارادها المسيح، وهكذا أنشأها، وهكذا يريدها حتى النهاية : " انت الصخرة، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي "، ولم يقل المسيح " كنائسي ".
ولدى قراءتنـا الفصل السابع عشر من انجيل القديس يوحنا، نتأكد من رغبة المسيح الملِحّـة في ان تكون كنيسته " واحدة "، على مثال الوحدة القائمة بين اقانيم الثالوث الأقدس : " ليكونوا واحدًا ، كما نحن واحد ... ليكونوا بأجمعهم واحدًا ..." (يوحنا 17/7،21...). بل قدّمَ المسيح وحدةَ كنيسته علامة أكيدة على مصداقية رسالته : " ليؤمن العالم بأنك انت ارسلتني " (يوحنا 17/21). وقد شبَّـهَ القديس بولس وحدة المسيح مع كنيسته بوحدة الرأس مع الجسد، وأشار إلى ان الكنيسة هي جسد المسيح السري الواحـد.
ولكن إلاَّ تشعر كنيستي بخطيئة الانقسام ؟ أهي كنيسة واحدة أو كنائس متعددة وطوائف متنافسة ؟ وإلى متى ستظل على هذه الحال، رغم إرادة المسيح الصريحة في ان تكون واحدة ؟ ألا يمكن حقًا وضع حـدّ لهذه المعثرة ؟
ولكـن أين هذه الوحـدة ؟ فما إن اختفى المسيح عن الانظار بالصعود، حتى شرعت اختلافات بل خلافات تظهر بين الرسل انفسهم. وإذا استطاعوا التغلّبَ عليها، فان الصعوبات والمشاكل اعترضت سبيل كنيسة المسيح في الأجيال اللاحقة، حتى اضطرّت إلى عقد مجمع نيقية (سنة 325)، ثم مجمع القسطنطينية (سنة 381) لوضع حدّ لبعض الافكار المضِلّة عن الثالوث وعن المسيح. وكان القرن الخامس حقلاً خصبًا فيه نمت وانتشرت افكار فلسفية وآراء لاهوتية أدّت إلى جدالات حامية في الكنيسة، وتمحورت حول شخص المسيح وطبيعتيه الالهية والإنسانية، وتمخضت عن مواقف لا تمتُّ إلى روح المسيح بصلـة. فقد أذكت الاحقاد والاحساد بين مختلف فئات المسيحيين افضت إلى انشقاقات مؤسفة وإلى انفصالات وتباعد، ما نزال تعاني منها حتى اليوم.
وإذا كانت الدوافع الظاهرة التي أدت إلى هذه الانشقاقات هي كريستولوجية، إذ راحت كل فئـة تتمسك بأفكارها اللاهوتية وتأبى التنازل عنها، فإن الدوافع الحقيقية الكامنة تحت هذه الذرائع كانت اعتبارات بشرية تتلخص بالكبرياء وحب المناصب والكراسي الكبرى في المسيحية والهيمنة الفكرية والكنسية، رافقها الكثير من روح العداء والانتقام بين مختلف الفئات والمدارس المسيحية. وكانت نتيجة ذلك ان انقسمت كنيسة المسيح الواحدة إلى كنائس متعددة ومختلفة في عقائدها وتقاليدها وليتورجياتها : جذع واحد أدى إلى فروع عديد ومختلفة، كل منها يدّعـي بأنه الأصل، وبأنه يمتلك الحقيقة الكاملة. اما الآخرون فعلى ضلال مبيـن !.
واستمرت هذه الحالة المؤسفة إلى الآن. فما يزال كل فريق متمسكًا بموقفه بتزمّت شديد - ولو ان وطأته قد خفت الآن قليلاً - ويأبى الانفتاج لتلقّي محبة المسيح التي توحّد ولا تفرّق.
والمضحك المبكي، ان كل سنة يُخصَّص في الكنائس المسيحية اسـبوع كامل - من 18 إلى 25 كانون الثاني - للصلاة من أجل وحدة المسيحيين، بدون ان يتنازل أيٌّ من المسؤولين – البطاركة والاساقفة - عن شيء في سبيل تحقيق هذه الوحـدة, انه اسبوع الضحك على الذقون وذرَ الرماد في العيون ! فنحن نصلي من أجل الوحدة، ولكننا لا نحرك ساكنًا في سبيل تحقيق هذه الوحدة في واقعنا اليوم ! لقد تمت في هذه السنوات الأخيرة – والحق يُقال – مبادرات كثيرة ورائعة تشير إلى حسن النية عند مختلف الفئات من المسيحيين. ولكن متى ستتحقق الخطوة الكبيرة الحاسمة ؟ لقد سئمنا وملّت شعوبنا المسيحية من هذا التماطل في شؤون ما كان ينبغي ان تعطل الوحدة. وإلى متى يبقى البعير على التل ؟ وأين الجرأة المسيحية التي تقول للمسؤولين : كفى الانتظار ايها السادة الكرام !.
وما لي اتكلم عن الوحدة بين مختلف الكنائس، في حين ان هذه الوحدة مفقودة حتى في حضن كنيسة واحدة. فان الحرية – وربما الانفلات – لدى بعض الكهنة أدت إلى الإعلان عن أمور أو تعاليم ليست متناغمة مع الحقيقة المسيحية الصافية. اما الطقوس والرتب الكنسية، فكل كنيسة محلية تتصرف تجاهها كما تشاء، بحسب مزاج كاهن الرعية. أما المسؤولون الكبار فمنشغلون بشؤونهم الخاصة، وكأن هذه الأمور لا تعنيهم من قريب ولا من بعيد. ولا أدري ماذا يمنع الرعاة الكنسيين من ان يتّحـدوا فيما بينهم ويضعوا حدًا لهذا التبعثر الذي يخلق الفوضى والارتباك حتى بين المؤمنين. فإذا ذهبتُ إلى مدينة أو قرية، وأردت إقامة القداس – وهذا امرٌ شرعي وواجب – أُضطرُّ إلى ان أسأل كاهن الرعية عن طريقة إقامة القداس في كنيسته، لئلا أخالف التقاليد التي خلقوها على هواهم. فهل هذه هي الوحدة المسيحية !!! ومن المسؤول عن هذه الفوضى ؟ الا يمكن ضبط الأمور وتنظيمها ؟
2- كنيستـي جـامعـة
ولفظة " جامعة " تعني هنا شاملة، أي انها مفتوحة للبشر أجمعين، وفي وسع جميع الناس في العالم ان ينتموا اليها وينضمّوا إلى وحدتها. فهي ليست وقفًا على شعب أو قوم أو جنس أو لون أو منطقة أو لغة. كل إنسان، اينما كان، مدعو ليكون عضوًا في كنيسة المسيح. وعلى هذه الكنيسة ان تتجذّر حيثما انتشرت، وان تمارس رسالتها حيثما تأصلت، على ان تكون عينها وقلبها مفتوحين لضم العالم كله، وان تشعر بمسؤوليتها عن العالم كله أمام الله.
ولكني اقول بأسف إني ألاحظ في كنيستي الميل إلى الانغلاق والتقوقـع، مع شيء من الاكتفاء بالذات وبعدم الانتباه إلى الآخرين أو الشعور بوجودهم وباحتياجاتهم. تبدو لي كنيستي انعزالية أو فردانية، وربما مع بعض التعالي على الكنائس الأخرى، لكونها الاكثر عددًا ! وكأني بها تعيش في برجها العاجي، بدون الاهتمام بشعب الله المنتشر حواليها، ولا بالقطيع الصغير الذي عُهدَ إلى رعايتها. اما القطعان الأخرى، فلتفترسها الذئاب !.
إلا يهتم الراعي الصالح – لا الأجير - بأن يجمع قطيعه كل يوم ويتحقق من سلامته ويوفر له الموضع الأمين الذي يقيه شر الذئاب الشرسة. ألا تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، لكي توفر لها الدفء والحماية، لا سيّما حينما تلاحظ شرًا مستطيرًا. وما ان يزول الخطر، حتى توجّـه الفراخ إلى الخارج وتدرّبها على الاكتفاء بذاتها...
أفلا تحتاج كنيستي إلى رعاية يقظة وفعّالة، فيها ينسى المسؤول مصالحه الشخصية وراحته في سبيل خير المؤمنين الذين كثيرًا ما ينتابهم الشعور بالمرارة لكونهم متروكين ومهمَلين وليس من يفكر فيهم أو يهتم بشؤونهم. فان جامعية الكنيسة تقتضي منها دينامية تدفعها إلى الانفتاح على الغير والانتباه إلى احتياجاتهم، بغضّ النظر عن انتماءاتهم القومية أو العرقية أو حتى الدينية. فذراعا كنيستي يجب ان تكونا مفتوحتين لضمّ الجميع، مثل ذراعَي المسيح على الصليب. وليس من السهل على كنيستي ان تعيش جامعيتهـا التي تقتضي منها الانتباه المستمر إلى الآخـر بغيرة واندفاع : " ان غيرة بيتـك أكلتني " (يوحنا 2/17).
3- كنيستـي مـقـدسـة
كان الرّب في العهد القديم قد عرض القداسة على شعبه مثل هدف أساسي لحياته وعلامة أكيـدة لارتباطه بالإلـه الأوحـد : " كونوا قديسين، لأني انا الرب إلهكم قدوس " (لاويين 19/2). الله وحده قدوس، ويستمد الإنسان قداسته من الله كلما اقترب منه وانضمَّ اليه ودخل في أُلفـة حميمة معه وسار حسب تصميم مشيئته الالهية. والكنيسة التي أسسها المسيح على الأرض تتكوّن من بشر ليسوا حتمًا قديسين. والرسل أنفسهم الذين عليهم أسس المسيح كنيسته لم يكونوا منذ البدء قديسين وكاملين. وما اكثر الأخطاء التي نلاحظها في مواقفهم وتصرفاتهم تجاه الآخرين، وحتى تجاه المسيح نفسه. وكم تألم المسيح من ذهنياتهم واعمالهم ! ومع ذلك فقد دعاهم إلى القداسة والكمال : " كونوا انتم كاملين، كما ان اباكم السماوي كامل " (متى 5/48). وانما خلق الله الإنسان على صورته ومثاله ليكون مثله في حياته وتصرفاته، ويعيش معه حياة المحبة والقداسة، ريثما يصل إلى الاشتراك في مجده وسعادته.
وكنيستي مكوّنـة من بشريين قد يكونون خطأة، وقد يشوّهون جمال الكنيسة ويقدّمون صورة ناقصة عنها للعالم، ولكنهم مع ذلك خطأة مفتدَون، وخطأة محبوبون ومدعوون للانفتاح لنعمة الخلاص. فكل إنسان في كنيستي مشروع للقداسة. وما أروعَ الصرخة التي أطلقها البابا الراحل يوحنا بولس الثاني حينما صاح بأعلى صوته واعلن لجموع الشباب : " لا تخافوا ان تكونوا قديسين ! ".
ولم يكتفِ المسيح بدعوة كنيسته إلى القداسة والكمال، بل وفَّرَ لها كل الوسائل الكفيلة بتحقيق هذا المشروع العظيم. ولقد عرفَ جبلتنا وضعفنا وميلنا الدائم إلى الشر. لذا قدَّمَ لنا ما من شأنه ان يجدّد طبيعتنا المسكينة بميلاد جديد ومتجدد دومًا، وذلك عن طريق الأسرار التي هي ينابيع النعمة والخلاص.
إلا ان ما يقلقني هو اني لا الاحظ عمقًا روحيًا حقيقيًا في كنيستي، أي في حياة رؤسائها ومؤمنيها. من البديهي اني لستُ حاكمًا ولا ديانًا للآخرين. فالله وحده يعلم خفايا قلوب البشر. إلا ان الأعمال غالبًا ما تشير إلى مصداقية الإنسان. ألم يقل المسيح نفسه : " ان الشجرة من ثمارها تُعرَف ؟ " (متى 7/20)
كثيرًا ما نقول ان الكنيسة امتدادٌ للمسيح، وانها تستمدُّ قداستها من قداسة المسيح. ولكن ما يقضُّ مضجعي هو ان قداسة المسيح باتت وكأنها غير فاعلة في كنيستي. هل ترى هجرها المسيح ؟ أم ان الوسائل التي أعطاها اياها باتت غير ناجعة ؟ ونحن نعلم ونؤمن بأن المسيح هو هو، امس واليوم وإلى الأبد، وان وسائله تبقى فعالة أبـدًا. فعلينا ان نستخدمها كما ينبغي وان نفسح المجال امام نعمة المسيح لكي تستحوذ على حياتنا وتطوّرها وتبلغ بنا إلى مِلء قامة المسيح.
ولكن ما بال كنيستي خالية من قديسين ؟ ألم يبقَ فيها من يحيا حياة المسيح بعمق وأصالة ؟ وأين ذهبت دماءُ الألوف من شهدائنا الذين قضوا في سبيل إيمانهم بالمسيح، منذ القرون المسيحية الأولى وحتى احداث اليوم المؤسفة، مرورًا بقوافل الشهداء الذين بذلوا دماءَهم في سبيل إيمانهم المسيحي خلال الحرب الكونية الاولى ؟.
إن ما يثلج صدري هو اني ارى الاهتمام الكبير الذي تبديه الكنائس الأخرى في سبيل اكرام الاشخاص الذين تميّزوا فيها بصلاحهم وقداستهم. فان لبنان، على سبيل المثال، لم يألُ جهدًا، في هذه السنوات الأخيرة، في العمل على إعلان قداسة بعض من أبنائه : شربيل ورفقة والحرديني. وهناك غيرهم ما يزالون على الطريق، مثل الأب يعقوب الكبوشي الذي تم تطويبة قبل مدة قصيرة، والبطريرك العظيم اسطيفان الدويهي، والاخ اسطفان نعمه، ...الخ.
اما كنيستي، فلا تحرّك ساكنًا. ألم يبقَ فيها أشخاص قادرون ان يدرسوا قضايا تطويب وتقديس أبناء كنيستهم، وان يتقصّوا أخبار أبرارهم في مختلف مراحلها، بصبر وجدارة روحية وعلمية ؟ أم هل ان موارد كنيستي المادية نضبت، فباتت عاجزة عن القيام بتكاليف هذه الدعاوى الكنسية التي تكلّف – والحق يقال - مبالغ لا يستهان بها ؟ أنا أظن ان الأموال متوفرة في كنيستي، وقد تُصرف في امور أقل شأنا وجدارة من هذا الأمر العظيم. اما ما لا يتوفر في كنيستي فهو الاهتمام الجدي والتقييم الصحيح للأمور لدى المسؤولين الكبار، وكأن هذا الأمر غير جدير بالاهتمام.
مهما يكن من أمر، فان كنيستي ما تزال ولن تزال كنيسة القديسين والشهداء، والتاريخ يشهد على ذلك، وما يزال فيها أناس يحملون القيم الانجيلية محمل الجد ويسعون في تجسيدها في حياتهم اليومية وفي علاقاتهم البشرية. وقد ماتوا في هذه الحال الرائعة، على رجاء قيامة مجيدة، فيها يتجلى لهم وجه المسيح البهي. إنهم قديسون لدى الرّب، وإن كانت الكنيسة لم تعلن قداستهم إعلانًا قانونيًا ورسميًا... ولكن ألم يحن الأوان لكي تكرم كنيستي ابناءَها وبناتها الذين عاشوا حياتهم المسيحية بعمق وأصالة، وتركوا لنا أمثلة رائعة في التزامهم الكلي واتّباعم الجذري للمسيح الفادي ؟ فما أتمناه من صميم القلب هو ان تؤدي كنيستي لهؤلاء الأبرار ما يحق لهم من الاكرام، سرًا وعلنًا.
علينا نحن المسيحيين ألا ننسى اننا ابناء الشهداء والقديسين الذين عاشوا في بلاد الرافدين وبذلوا فيها حياتهم في سبيل القيم السامية، وهم اليوم ينادوننا للسير على خطاهم في طريق المحبة والقداسة.
4- كنيستـي رسـو ليـة
يقول القديس بولس للكنيسة، أي للمؤمنين بالمسيح : " لقد بُنيتُـم على أساس الرسل والأنبياء " (افسس 2/20). أجل، لقد بنى المسيح كنيسته على أساس الرسل، وشاء ان تكون امتـدادًا له في العالم واستمرارًا لرسالته الخلاصية في أرض البشر. لم يؤسس المسيح كنيسته لزمان ومكان محدودين، بل ارادها دائمة وفي كل مكان، حتى نهاية العالم وتحقيق تصميم الله. لقد سلّمَ المسيح رسالته مباشرة وشخصيًا إلى الرسل، واراد ان يواصلوا هذه الرسالة : " اصنعوا هذا لذكري " مدى الأجيال، بشخصهم ثم بخلفائهم. وأقامهم ليعلنوا الكلمة ويواصلوا خدمة شعب الله، عن طريق وضع اليد أي الرسامة التي ينالونها من الرسل، وهم بدورهم يمنحونها لخلفائهم. وعلى جميع هؤلاء الذين يشتركون في المهمة الرسولية نفسها ان يعيشوها بأصالـة وينقلوها إلى الأجيال المسيحية اللاحقة بتقليد متواصل لا يطاله انقطاع ولا تشويـه.
ومـا هـو دور الـروح ؟
ان للروح القدس دورًا كبيرًا بل جوهريًا في حضن الثالوث. إنه المحبة الجوهرية التي تربط الآب بالابن وتقيم الوحدة في الثالوث. في العنصرة، اكتمل فصحُ المسيح، واكتمل أيضًا وحي الثالوث القدوس، وانفتح الملكوت امام الذين يؤمنون بالمسيح. والروح القدس بمجيئه، أدخلَ العالم في " الأزمنـة الأخيرة " : زمان الكنيسة وزمان الملكوت الذي صار ميراثًا لنا منذ الآن، على ان نحياه ونكتسبه كل يوم. ومنذ العنصرة، اصبحت الكنيسة في " زمان الروح ". وقد دعا المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني إلى " فك قيود" هذا الروح الإلهـي، لتنقية هواء الكنيسة وفتح رئتيها لاستقبال هذا النسيم العليل والمنعش.
وكما قام الروح القدس بدور كبير في حياة يسوع الأرضية وفي رسالته الخلاصية، منذ البشارة حتى الصعود، كذلك يقوم اليوم، وإلى انتهاء الأزمان، بالدور نفسه تجاه كنيسة المسيح، التي هي استمرار له ولرسالته في العالم، وذلك منذ انطلاقتها الأولى في العنصرة، وهو يرافقها في مسيرتها الطويلة والشاقة عبر الأجيال، ويقوّيها إبان المحن والصعوبات والاضطهادات، ويلهمها ما يؤول إلى خير البشرية وخلاصها. إنه ينيرها ويقودها ويلهمها لكي تتّخـذ القرارات الضرورية للبقاء أمينة تجاه رسالتها في العالم، ولكي تستمر على إعلان الحقيقة بشجاعة للبشرية كلها. فالروح يعمل دومًا في الكنيسة لبناء ملكوت الله. فإن عملية الخلق الجديد قد بدأت، وهي ستتواصل مدى الأجيال بإرشاد الروح القدس. وعمله الخلاصي يُبنى على المحبة.
وهنا أتساءل هلاّ يكون الروح هو الذي انار الكنيسة لكي تعلن وتفضح الخطايا المميتـة السبع الجديدة التي تهدّد كيان البشرية كلها، ابتداءً من خطيئة تلويث البيئة وانتهاءً باستغلال الصغار، ومرورًا بخطيئة المخدّرات التي باتت الآن الخطر الأكبر على صحة البشرية وبقائها.
إن الكلام عن الروح جميل بل رائع، ولكـن...
أين كنيستي من حضور الروح الحي هذا، ومن عمله الخلاّق، ومن مبادراته التي ترمي إلى مواصلة رسالة المسيح في العالم، من خلال كنيسته المقدسة ؟
إن ما يؤلمني إلى الغاية هو الشعور بأن الروح غائبٌ عن كنيستي، أو لنقل بالأحرى ان كنيستي غائبة عن الروح، وهي تحاول تنظيم شؤونها وتسيير أمورها وحدها. ويبدو ان رؤساء كنيستي نسوا أو تناسوا ما يقوله المســـيح : " بدوني لا تستطيعون ان تعملوا شيئًا " (يو 15/5). وهذا القول ما يزال ولن يزال نافذًا حتى منتهى العالم. لكن لكنيستي مصالحها الخاصة ونظرتها الخاصة إلى الأمور، وقد تفضّلها على مصالح الله ومصالح الكنيسة الحقيقيـة.
السـينـودس :
يُعقَـد في كنيستي، بين فترة وأخرى من السنة، سينودس، أي مجمع كنسي يضمُّ غبطة البطريرك والسادة الأساقفة الأجـلاء. ومن حيث المبدأ لا يحق حضوره لأشخاص آخرين، من الاقليروس كانوا أو من العلمانيين، وكأن السينودس أمر لا يعنيهم ! وهذا أيضًا قابل للطعن والتصحيح.
إن كنيستي، شأن كل مؤسسة وكل شخص، فرديًا كان ام معنويًا، تحتاج إلى ان تلقي على ذاتها نظرة فاحصة، لترى أين هي من مسيرتها ومن اهدافها، وهل هي تواكب ركب التقدم والتجدد في عالم يتطور بسرعة رهيبة. فكنيستي تحتاج إلى دراسة شؤونها دراسة جدية، وعدم ترك الأمور تجري فيها بحسب الظروف الطارئة. والسينودس مجال لها للقيام بهذه الدراسة واتّخاذ قرارات ضرورية تدل على دينامية الكنيسة وتدفعها إلى عدم الاستسلام إلى الركود والجمود والاكتفاء بشعارات قديمة والتمسك بتقاليـد محترمة، ولكنها تحتاج إلى شيء من التكييف والتأويـن، في سبيل التجاوب مع احتياجات المؤمنين المعاصريـن.
بلغ سمعي ان لكنيستي الآن لجنة اسقفية تشرف على إعداد السينودسات. وهذا امر يستحق كل التقدير والثناء. وكم اتمنى ان تدرس هذه اللجنة شؤون الكنيسة واحدًا فواحدًا بصورة جدية تتمخض عن قرارات واضحة تؤول إلى خير الكنيسة وليس إلى مصالح خاصة. وكم اتمنى ان تُعدَّ اللجنة كل سينودس إعدادًا وافيًا، بورقة عمل واضحة تشير إلى محاور الدراسة في السينودس وتوزَّع على السادة الاساقفة قبل انعقاد المجمع بمدة كافية، لكي يتدارسها كل اسقف مع كهنتـه ومؤمني ابرشيته، لتكون القرارات منبثقة من داخل الكنيسة، يثيرها الروح القدس الحال فيها، ولا تكون مفروضة من فئة معيَّنـة. وليت رؤساءنا الكرام يطلعون الكهنة والمؤمنين على ما يجري في كل سينودس، عن طريق اعلانات واضحة وصريحة وقابلة للنقاش، قبل ان تصبح القرارات ملزمة. فلكل مؤمن في الكنيسة الحـق في الاطّلاع على شؤون كنيسته وعلى مسيرتها وعلى احتياجاتها، وكذلك على ميزانياتها. أجل، نريد ان نعرف إلى أين تذهب واردات الكنيسة أو الكنائس، وكيف تُصرَف، وما حصة الفقراء منها ؟
لكني الاحظ ان المجامع الأخيرة في كنيستي كادت ان تقتصر على دراسة امور تتمحور حول قضية انتخاب أساقفة جدد لملء الشواغر في الأبرشيات المترملة. لا بأس ! فان الصفة الرسولية في الكنيسة تقتضي خلفاء للرسل على مدى الأجيال ! ولكن كيف تجري هذه الترشيحات والانتخابات ؟ هنا تظهر المأساة المخجلـة في كنيستي. فان الروح يبدو غائبًا، والرغبات البشرية تهيمن على تقديم المرشحين، والاعتبارات المصلحية تلعب دورها المعيب، والسيمونية ليست غائبة في مثل هذه القضايا الحيوية. اما الدولار فغالبًا ما تكون له الكلمة الحاسمة في المواقف الصعبة أو المترددة. وهناك من أعضاء السينودس من يلوذون بالصمت الجبان ازاء هذه التصرفات المدمِّرة للكنيسة. فمتى كانت العنصرية أو المحسوبية من الأمور التي تسهم في بنيان الكنيسة ؟ وأين صوت الحق امام هذه الألاعيب المشينة ؟ فيا للغرابة ! ان بعضهم – قد يكون البطريرك نفسه – يرشحون للاسقفية اشخاصًا لا تتوفر فيهم أدنى قسط من الفضيلة والعلم والروح الانجيلية. وليس من يرفع صوته ويحتـجُّ بل ويرفض مثل هذه المخالفات التي تسهم في تدمير الكنيسة ؟ اما يكفي كنيستي ما عاشته طوال الأجيال، وبالأخص في هذه الحقب الأخيرة من الشر والأذى من جراء رعاة غير جديرين بهذه المهمة الجليلة ؟ كنيستي بحاجة إلى رجال يملأهم الروح بمواهبه ويدفعهم إلى العالم لينشروا فيه روح الانجيل. وأين شجاعة أساقفتنا ليرفعوا اصواتهم، مثل يوحنا المعمدان امام هيرودس، ويقولوا للمسؤولين : لا يحق لكم ان تفعلوا هذا ! ايها السادة الأجلاء، رحمةً بالكنيسة، وعطفًا على المؤمنين، واستجابة مع الضمير المستقيم، اعتصموا بالحق والعدل والأخلاق الحسنة. ايها السادة، كفانا ما نعانيه من المعاثر التي تطرق سمعنا والصادرة عن بعض أساقفتنا، على مسمع من غبطة البطريرك ومن اعضاء السينودس المقدس. فمن المسؤول عن هذه الجرائم ؟
أُعيد واكرر ان كنيستي بأمس الحاجة إلى رسل يتولاهم روح الرّب، فيعكفون على نفض الغبار المتراكم على وجه عروس المسيح، ويوقظون فيها الدينامية الرسولية، فتتفجّـر في عنصرة جديدة يحتاج اليها عالم اليوم ؟
فيا صاحب الغبطة، ويا ايها السادة الأساقفة الأجلاء، إلا يكفي التآمر على كنيستي المسكينة التي اوصلتموها إلى الحضيض. انكم بهذا تدمّرونها أكثر مما فعله ويفعله الارهابيون من الخارج. ألم يبق من يشعر ويتفهم عناء هذه الكنيسة ويرحمها ويساعدها في مسيرتها المتعثرة ؟ فكنيستي لا تحتاج إلى دمى تحركها اصابع غريبة، أو تغريها الاموال المتدفقة، ولا إلى أصنام متوَّجـة، بل تفتقر إلى رعاة صالحين وإلى آباء محبّين، وإلى قادة واعين بمسؤولياتهم الخطيرة وقادرين على مجابهة الظروف الحرجة. كنيستي لا تحتاج إلى رؤساء تحيط بهم هالة من الأبهة والعظمة ويريدون ان يحكموها كالأمراء والملوك ويتحكمون في حياة المؤمنين ومصائرهم من داخل ابراجهم العاجية ومطرانياتهم الفخمة البعيدة عن فقر الانجيل...
لقد شبعت كنيستي من الشدائد التي تتعرض لها من الخارج. وهي تنتظر من آبائها الكرام وقادتها ان يكونوا اعوانًا لها لا فراعنة، وان يبذلوا ما في وسعهم في سبيل معالجـة جروحها الكثيرة التي ما تزال نازفـة وهي تنتظر السامري الصالـح !.
ب- وضـع كنيستـي اليـو م
اسمحوا لي بالتحدث الآن عن الحالة الراهنة التي تحياها كنيستي اليوم.
لا شك ان كنيستي في العراق تعرضت لهزات عنيفة عبر الاجيال، ولا سيّما في هذه السنوات الأخيرة. ولست هنا بصدد استعراض تاريخها الطويل المنسوج بالبطولات والزاخر بالمآسي أيضًا.
كيف حال كنيستـي اليـوم ؟
لقد كُتبَ الكثير عن وضع كنيستي في مطلع الألف الثالث وما انتابها من ويلات الحروب، وما ألمَّ بها من احداث الفوضى والدمار. فتعرضت كنيستي لحالة من الفوضى والهلع والقلق ازاء الحال الراهنة وامام المستقبل المظلم. فتولّى الرعب مختلف شرائح كنيستي، ولم ينجُ منه حتى بعض من رؤسائها. وسرعان ما ظهرت نتائج هذه الفوضى بالهجرة والتهجير، وهي حركات قصمت ظهر كنيستي في بلاد الرافدين.
الهـجرة والتهـجير
وما أكثر ما كُتب في هذا الموضوع ذي الوجهين في هذه السنوات الأخيرة...
فإن " الهجـرة " كانت قد بدأت منذ عقود عديدة في العراق. وكانت أسبابها متعددة : سياسية، دينية، اقتصادية، إلخ... فتوجهت أُسر كثيرة، منذ القرن الماضي، إلى بلاد العم سام، وغيرها نحو الدول الغربية، ومنها، في هذه السنوات الأخيرة، إلى استراليا ونيوزيلندا. وكان الشعب المهاجر يهرب من حال تعسة ويهدف إلى الذهاب إلى مواضع فيها تتوفر له الحرية - الإنسانية والدينية - والحياة الكريمة، في ظل حكومات أو أنظمة سياسية عادلة إلى حـدّ ما. وازدادت موجات هذه الهجرة، وتلاحقت قوافل المهاجرين الذين تركوا وطنهم وبيوتهم واعمالهم، وتوجهوا نحو مستقبل مجهول... فمنهم من توجّه إلى خارج البلاد، وغيرهم اكتفوا بالذهاب إلى امكنة داخل البلاد أكثر أمنًا واستقرارًا. ولكن المعروف ان كل هجرة يرافقها الكثير من المآسي. ويقول سفر الامثال في هذا الشأن : " كالعصفور الذي يشرد من عشه، هكذا الإنسان الذي يشرد من وطنه " (أمثال 27/8).
أما " التهـجيـر " فهو الهجرة التي تفرضها فئات ظالمة على شرائح من الشعب العراقي المسالم بدوافع دينية أو عرقية أو مذهبية أو حزبية...، فتُضطرُّ أُسر آمنة إلى ترك بيوتها واموالها والهرب إلى المجهول، وإلا تعرضت للقتل والسلب والنهب وليس من يحميها أو يدافع عنها. وهكذا اضطرت مئات بل ألوف من العوائل المسيحية والمسلمة إلى ترك كل شيء والهرب إلى اماكن لا يتوفر فيها أقل شروط للعيش الكريم. أجل، لقد أُلقي بكثير من هذه العوائل في البراري، واضطروا إلى العيش تحت الخيم - إذا توفرت - وهم يفتقرون إلى كل مستلزمات الحياة الإنسانية، من ماء وطعام وظروف صحية، ناهيك عن حرمانهم من المؤسسات التعليمية والتثقيفية والمهنية وغيرها. إنهم يعيشون حياة بائسة لا تليق بكرامة الإنسان.
ولقد استطاع غيرهم الوصول إلى مناطق أخرى من بغداد، وتوجه غيرهم نحو الشمال وسكنوا في المدن والقرى الشمالية. أما الحديث عن مئات الألوف من العراقيين – من مسلمين ومسيحيين - الذين رست قواربهم على الشواطىء الاردنية أو السورية أو غيرهما من الدول المجاورة، فلا يخلو من هموم وشجون. انها الغربة والضياع. انها اقتلاع أسر برمتها من تربتها ووطنها وتشتيتها في أمكنة غريبة وغير ملائمة لهم. إنه الارتماء في أحضان الفقر والجوع، وفي أحضان الرذيلة أيضًا. فان الحاجة تدفع الإنسان إلى السير في مسالك يرفضها شرفه وتأباها كرامته، ولكن ما العمل ؟ فليس من وسيلة شريفة للحصول على لقمة العيش. وهناك عوائل لا نصير ولا مساعد لهم في الخارج ليرسل لهم شيئًا من المساعدة. اما المعونات التي توزعها جهات محسنة، كنسية أو مدنية، فانها لا تفي بالغرض. فيبقى المهاجر تحت كابوس الفقر والمذلّة... وإلى متـى ؟
موقـف كنيستي
هل كانت كنيستي مهيَّـأة لتلقّي مثل هذه الصفعات الأليمـة ؟ ربما نسيت أنها كنيسة الشهداء والقديسين. أو لعلها تغافلت عن حياة الفقر والقيم الإنجيلية، وعاشت في أجواء من الطمأنينـة، بل من اللامبالاة ! وربما كانت ملتهية بأمور أخرى جانبية عندما انقضّت عليها الصاعقة وتفجّر الوضع بركانا هادرًا، وتأزمت العلاقات الإنسانية، وتدهورت الأوضاع. وربما أصابها شيءٌ من الذهول والارتباك الذي شلًَّ طاقاتها عوض دفعها إلى الإسراع في القيام بمبادرات تهدف إلى الخير والمساعدة وتبرهن عن مدى اهتمام كنيستي بشؤون إنسان اليوم.
كنيستي " أمٌ ومعلمـة ". أمٌّ تحب جميع اولادها وتهتمُّ بهم وتحيطهم بعنايتها الوالدية وبعطفها الرؤوم. وهي " معلمة "، أي انها مكلَّفـة بقيادة ابنائها البشر إلى الحقيقة، إلى المسيح الذي يجب ان يكون لها دومًا " الطريق والحق والحياة ". وعليها ان تسعى لكي تربي اولادها تربية إنسانية ومسيحية أصيلة وتوفر لهم الوسائل الكفيلة بتلقّي تعليم الحياة. ونشر الكلمة هو من أهم واقدس واجباتها، ولابد لها من القيام بهذه المهمة : " الويل لي إن لم أبشّر ! " ويتم نشر الكلمة بالوعظ والارشادات والنصائح، ويكون أيضًا بتوفير التربية والتثقيف لمختلف شرائح الشعب المسيحي، وذلك بالوسائل العصرية التي تتجاوب مع ذهنيات إنسان اليوم. فهل كنيستي مهتمة بهذه الأمور الأساسية ؟ أم انها منشغله بأمور جانبية اخرى. صحيح ان لديها هيئات ولجانًا مختصة بالتعليم المسيحي، ولكن ما مدى فاعليتها، وهل تغطي جميع فئات الصغار والشباب ؟ وما المناهج التي يتبعونها ؟ وما مستوى التعاليم التي يلقونها على هؤلاء الطلاب ؟ اني اتساءل عن فاعلية هذه الهيئات التعليمية، وهل انها تتلقى الدعم الروحي والأدبي والمادي من رؤساء الكنيسة ؟ بلغني ان الأموال التي يخصصها بعض المحسنين بالتعليم المسيحي تضيع في طريقها إلى الطلاب، وربما يبلغ شيء منها إلى جيوب المعلمين والمعلمات. اما القسم الأكبر فينزل في جيوب الكبار وأرصدتهم. فأين الأموال المخصصة مثلاً لنقل الطلاب، ولمساعتهم، ولتحفيزهم، ولاجتذابهم بالهدايا والمكافآت وغيرها ؟ وهل يجوز ان يدفع بعض المعلمين أو المعلمات، من الكهنة والعلمانيين، من جيوبهم الخاصة لسدّ بعض احتياجات طلاب التعليم المسيحي ؟ وإلى أين تذهب اموال الكنائس ووارداتها الضخمة ؟ في الامور المادية والبنايات والترميمات ؟ ومتى كان البنيان المادي أهم من البنيان الروحي، بنيان النفوس ومساعدتها في مسيرتها إلى الله ؟ ما اسهل البنيان المادي وما اوفره ربحًا ! اما البنيان الروحي فبذل وعطاء وتضحية بدون مقابل. وهذا أمر صعب !
مـا أجمـلَ تركيبـة كنيستـي !
هرم شامخ تبلغ قمته السماء، حيث يشرف الرّب يسوع على كيانها ومسيرتها، تحت إدارة رعاة أقامهم ليواصلوا عمله في العالم. هرم رائع ، يقف الحبر الأعظم في قمته ويستمد سلطته الشاملة من سلطة المؤسس الإلهـي، ويمارس هذه السلطة عن طريق الإدارة والتعليم وتوجيه المؤمنين نحو الحقيقة والمحبة. وانا أقف إجلالاً امام الأحبار الأعظمين الذين منحهم الله كنيسته المقدسة في جميع الأجيال، ولا سيّما في هذين القرنين الأخيرين. لقد انتزعوا إعجابَ البشرية كلها باستقامة حياتهم وصفاء تعاليمهم وشجاعتهم في إعلان الحقيقة من خلال إرشاداتهم وتوجيهاتهم ولقاءاتهم مع البشر، مع الكبار والصغار، ولا سيّما مع الشباب. انهم حقًا منائر مضيئـة تبث النور والحق للبشرية كلها...
ويتألف هرم كنيستي أيضًا من الرئيس الأعلى للطائفة، وهو غبطة البطريرك، ثم من الاساقفة والكهنة والشمامسة. وتتكون قاعدة هذا الهرم من المؤمنين الذين أُطلـقَ عليهم لقب العلمانيين.
وأودُّ ان ألقي هنا نظرة بانورامية على كلٍّ من هذه الفئات :
1- البطريرك
يتم انتخاب بطريرك كنيستي في سينودس أي مجمع يشترك فيه جميع أساقفة الطائفة. ولا اريد هنا ان اذكر ما يعتور مجامع كنيستي المقدسة من الشوائب، في طريقة انتخاب البطريرك التي لا تخلو من اعتبارات عنصرية ومن تأثيرات مادية ووعود عرقوبية، وربما أيضًا من ضغوط سياسية. مهما يكن من أمر، فالبطريرك هو رئيس كنيستي، وعليَّ ان أكـنَّ له كل الحب والاحترام والطاعة. انه الرأس المدبّر لكنيستي، وهو الذي يجب ان يثير فيها مختلف المبادرات والإجراءات - على الصعيدين الرسمي والديني - التي تفضي إلى إنعاش الروح الإنجيلية في الكنيسة كلها. أنا لا اقتضي من رئيس كنيستي ان يصنع العجائب والغرائب، ولا ان يكون عبقريًا فـذًّا وسياسيًا محنّـكًا. كلا ! بل اتمنى ان يكون مليئًا بالروح الإنجيلية، وان تأتي جميع مبادراته من وحي الانجيل والمحبة الصادقة لا تصنّع فيها ولا رياء ولا ازدواجية. اتمنى ان يكون رئيس كنيستي حرًّا من كل الضغوط التي قد تهدّد إدارته : ضغوط المال والسلطة والعنصرية، وضغوط الساسة وعظماء العالم. أجل، ان يكون حرًّا بالحرية التي تكلم عنها الرّب يسوع والتي وصفها القديس بولس. على ان تكون هذه الحرية خاضعة لأنوار الروح وان تُعاش لخير الكنيسة العام. اتمنى ان يحيا رئيس كنيستي بحسب روح تواضع المسيح وخدمته، وبحسب روح التجرد والفقر المسيحي. " فان أصل الشرور كلها محبة المال "، هكذا يقول القديس بولس ! أتمنى ان يضع رئيس كنيستي طاقاته كلها تحت تصرف الروح لخير الجميع وليس لمصالح ضيقة وشخصية، وان يفعل ذلك بكل استقامة، بعيدًا عن اللف والدوران وعن حياكة المكائد والدسائس. فان هذه أمور مخالفة لمحبة المسيح التي كلها عطاء وانفتاح وسخاء، بدون إقامة وزن لاعتبارات اخرى تافهة، وبدون كلمات معسولة لا طائل تحتها. لا نريد ان نسمع جعجعة ولا نرى طحناً ! لقد مللنا من الكلام الفارغ، ونريد الصدق والاستقامة والحقيقة التي ترفض كل لبس وغموض وازدواجية في التعامل مع الناس.
لقد قلتُ مرارًا واقول الآن أيضًا بصراحة بنوية، وليس بدافع أي مصلحة تافهة، ولا بمجرد دافع التهجّم والانتقاد الهدام. كلا وألف كلا. فانا لا اريد الا الخير والازدهار لكنيستي. ولكني أقول بأسى ان رئيس كنيستي ضعيف على مختلف الصعـد، في شخصيته وفي إدارته...، في حين ان كنيستي الآن أكثر حاجة من أي وقت آخر إلى رئيس ذي شخصية قوية وإدارة حازمة وروحانية عالية، بالاضافة إلى الكثير من المحبة والتجرد. كنيستي الآن أشبه بسفينة بلا قبطان، أو بقبطان نائم، وهي تهيم في البحر الواسع، وتتقاذفها الأمواج العاتية من كل جهة، وهي تترنح فوق المياه مائلة ذات اليمين وذات الشمال، ومسبّبة الدوار والهلع للذين على متنها. والأمر الأشد مرارة هو ان رئيس كنيستي متشبث بمنصبه – وقد أضافوا إليه صفة أخرى جليلة بسخرية القدر - بالرغم من سنه وعجزه وارتباك إدارته، وكأنه قد صمّم ان يغرق السفينة ويغرق هو أيضًا مع ركابها ! اما روما فتبدو وكأنها تنظر الينا بعين اللامبالاة، وكأنها تلتـذّ في ان ترانا نختبر ضعفنا ونتخبط في مصائبنا. انه حقًا لأمر مؤسف... فمن ذا الذي يضع حدًّا لهذه المآسي ويقود السفينة إلى ميناء الأمان والسلام ؟ ولا ادري ما الضير من الاستقالة لرئيس بلغ، بل تجاوز، السن القانونية، وهو يدري انه عاجز عن إدارة الكنيسة ؟ وانا احسب ان اجمل فعل تواضع يقوم به مسؤول هو استقالته عند بلوغه السن القانونية. واظن ان المسيح نفسه يريد هذه الاستقالة لخير الكنيسة. " واليوم إن سمعتم صوته، فلا تقسّوا قلوبكم ! " ولو ان التواضع قد اضحى عملة صعبة ونادرة عند الكثيرين من رؤسائنا الأجـلاء. ولا يسعنا الا ان نترك حلَّ هذه المعضلة بين يدي الله، وهو أدرى منا بكل ما يؤول إلى خير كنيسته.
2- الأسـاقـفـة
لكنيستي الآن ستة عشر أسقفًا، بالاضافة إلى غبطة البطريرك. وهناك أربع اسقفيات شاغرة الآن لأسباب مختلفة، وهي تنتظر ان يُقام لها أساقفة أو رؤساء أساقفة جدد في السينودس القادم. ويبدو ان هناك أيضًا نية في إقامة أسقف جديد تكون مهمته رعاية المؤمنين الكلدان في أورپا كلها. وهكذا يفوق عدد الاساقفة احتياجات المؤمنين كثيرًا !
مع احتراماتي ومحبتي لهؤلاء الأساقفة الذي تربطني ببعضهم علاقات صداقة حميمة، فان طريقة انتخاب الكثيرين منهم تشوبها بعض الخروقات. فالسينودس هو الذي ينتخبهم من حيث المبدأ. ولكن ما القواعد التي تفرض نفسها في هذا الانتخاب ؟ هل هو العلم ؟ هل هي الفضيلة والقداسة ؟ هل هي الإدارة والحكمة ؟ وهل يؤخَـذ برأي الأبرشية في شأن من يُختار أسقفًا لهم ؟ وأين الديمقراطية في كنيستي ؟ وكيف يُفرض على أبرشياتها أحيانًا أساقفة غير جديرين برعاية الشعب المؤمن، وبدون ان تعرفهم الأبرشية وتريدهم ؟
أما الدوافع التي تشرف على انتخاب الأساقفة في كنيستي، فأخجل ان أذكرها بالتفصيل، لكونها تخلو من روح الله، ولا تقيم وزنًا لاحتياجات المؤمنين، ناهيك عن استخدام المحسوبيات والنعرات العنصرية البغيضة، وحتى اللجوء إلى السيمونية أحيانًا ! أجل، تلعب المادة والضغوط المتنوعة والمصالح الخاصة دورًا ذميمًا في انتخاب العديد من اسـاقفة كنيسـتي. فيا للعار ! أهذه هي كنيسة المسيح ؟؟؟
كم اتمنى ان يضع سينودس كنيستي كل مرشح على المحك الصحيح الذي فيه تعلو حتمًا مصلحة الكنيسة الحقيقية. كنيستي تحتاج إلى أناس صالحين ومثقفين لرعايتها. فالاسقف هو أبو الأبرشية ومعلمها، ولا ينبغي له ان يكتفي بكيل التوبيخات لشعبه من على المنبر. الشعب يحتاج إلى ارشادات أبوية وتوجيهات سديدة تقودهم إلى المراعي الروحية الخصبة، وليس إلى استعمال العصا والتهديد لخلق الخوف والهلع في صفوف المؤمنين. وحبذا لو عاد كل أسقف ورئيس إلى دراسة المصادر الأصيلة وإلى كلمة الله في الكتب المقدسة وكتابات الآباء والملافنة ليقتبس منها ما يغذّي به نفسه وقطيعَـه الجائع والعطشان إلى خبز الله وإلى المياه الحية.
وهذا يقودني إلى الحديث عن أخلاق أساقفة كنيستي. فالمزايا الاولى والأساسية يجب ان تكون الخدمة المتواضعة التي تستمد قوتها من محبة عميقة وصادقة. وكم اتمنى ان يكون كل أسقف في كنيستي مرآة جلية للأخلاق الحسنة ولاستقامة الحياة ولطهارة الروح والجسد. فعار على كنيستي ان يُتّهـم بعضٌ من أساقفتها بأمور يندى لها الجبين خجلاً. واللبيب من الإشارة يفهـم !
اما الصفة الكبيرة التي يجب ان تتجلى في أساقفة كنيستي فهي الإدارة الحازمة ومعاملة المؤمنين معاملة الآباء لأبنائهم، أي بلطف ووداعة وتفهُّم... فيجب الا يكون في علاقات الأسقف بأبناء أبرشيته أي ترفّع أو تسلّط أو خشونة، بالأقوال والتصرفات، ولا سيّما عليه ان يتجنب القرارات الارتجالية التي لا تخدم مصلحة الكنيسة. وهذا لا يعني أي تهاون في القضايا المهمة والملِحّـة. وكم نتألم إذ نلاحظ في بعض من أساقفتنا ميلاً إلى الأكل والشرب والولائم، وما يرافقه احيانًا من التجاوزات المؤسفة.... فيا آباءَنا الأجلاء، انتم قادة الشعب، ويترتب عليكم ان تبرهنوا عن مصداقية رسالتكم بمحبتكم وحياتكم واعمالكم. اما نفوذ المادة فقد استحوذ على العديد من أساقفة كنيستي، وكأن المادة هي الهدف الأفضل لحياتهم !
3- الكهـنــة
تحتاج كنيستي إلى مزيد من الكهنة ليخدموا في حقل المسيح الواسع. وهناك كهنة صالحون عملوا في كرم الرّب بإخلاص واستمرارية سنوات طويلة. ومنهم قضوا نحبهم، وآخرون ما يزالون يناضلون في سبيل الأمانة للانجيل وللقيم الروحية.
ان الدعوات الكهنوتية كثيرة في كنيستي، والحمد لله. ولكن هل ثمة من يواكبها حقًا في مسيرتها إلى الكهنوت، عبر سنوات طويلة من الدراسة، في ظروف ليست مثالية دومًا. وارى ان هؤلاء الشباب السائرين على درب الكهنوت عليهم ان يتلقوا تثقيفًا ثلاثي الأوجـه :
ا : روحيـًا
وهذا امر يقتضي ان يكون معهم كهنة من ذوي الخبرة والسيرة الصالحة، لكي يرافقوهم ويرشدوهم إلى حياة المحبة والفضيلة، ولكي يوجّهوهم ليتبعوا المسيح جذريًا في طريق التجرد والخدمة والتضحية. وعلى هؤلاء الكهنة، رؤساء كانوا أو معلمين أو مرشدين، ان يقدموا للشباب المتوجهين نحو الكهنوت مثال حياة كهنوتية رصينة. فلا يكفي ان يوفّروا لهم السكن والطعام والدراسة، بل عليهم ان يرسخوا حياة هؤلاء الشباب على المسيح، لكي يصبح المسيح حقًا محور حياتهم ومنطلق أعمالهم ومحط أمانيهم. كنيستي اليوم بحاجة إلى كهنة قديسين لكي يقوموا بالتبشير الجديد بالمسيح وبرسالة " أنجَـلَـة " المجتمع، الذي هو بأمس الحاجة إلى مثل هؤلاء الفعلة الغيورين.
قد تدعو الحاجة إلى إعادة النظر في الحياة الروحية في المعهد الكهنوتي البطريركي : التأمل، الصلاة الفرضية، القداس، القراءة الروحية، الصلاة الشخصية خلال النهار، الخ... فالصلاة يجب ان تحتل قلب حياة الاكليريكي، لأن الكاهن يجب ان يكون قبل كل شيء " رجل صلاة "، وإلا انتهت حياته إلى السطحية والتفاهة. وهل ثمة حاجة إلى التذكير بأن الكادر المسؤول عن حياة طلاب الكهنوت وتثقيفهم وروحانيتهم يجب ان يقدّم لهم المثل الصالح بحياته ورصانته والتزامه بأسس الحياة الروحية وبما يساعد على تقويتها وتنميتها. وإلا فستبقى الكلمات والارشادات ألفاظًا جوفاة ومنقطعة عن الحياة... وهنا أناشد المسؤولين عن طلاب الكهنوت ان يبذلوا جلَّ إهتمامهم بحياتهم الروحية التي هي الدعامة الأقوى لحياتهم الكهنوتية. قال الطوباوي يعقوب الكبوشي