Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

(كونوا واحدا).. بين الطوباوية والواقعية

قد يرى البعض في جانب من تعاليم المسيحية ونصوص العهد الجديد شيئا من الطوباوية والمثالية، ومن ذلك على سبيل المثال: "من ضربك على خدك.. أدر له الآخر"، و"أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مُبغضيكم، وصلوا لأجل المسيئين إليكم..".
المشكلة تكمن في طريقة تعاملنا مع هذه النصوص، والكيفية التي ننتقي بها ما ندعي إمكانية الالتزام به ونعتبره قابلا للتطبيق.. وسواه طوباويا أو عسيرا على التطبيق. وغالبا ما يكون هذا الانتقاء مبنيا على الأهواء والظروف وعوامل أخرى تتعلق بالبيئة والثقافة العامة.

ومن بين هذه النصوص والتعاليم التي صرنا أحوج ما نكون اليوم للتعامل معها بشكل واقعي وشعور عال بالمسؤولية.. دعاء يسوع في صلاته إلى الله الآب: "حتى يكونوا واحدا مثلما أنت وأنا واحد.. يو 17: 11"، فهل هذا النص تعليم طوباوي مثالي أم أنه طلب غاية في الصعوبة.. أم هو دعاء يمكن تحقيقه بشيء من نكران الذات والابتعاد عن الـ "أنا" والكبرياء والشخصنة!.

إن الخلاف واختلاف وجهات النظر أمر طبيعي جدا في العديد من المجالات، لا بل أنه صفة من صفات البشر بعدما أنعم الله عليهم بالعقل المفكر والإرادة الحرة.
وقد يكون هذا الخلاف أو الاختلاف ظاهرة صحية وإيجابية في بعض محطات الحياة ومفاصلها.. وبما يحقق واقعا أفضل وتطورا نوعيا في شأن من الشؤون.
ومع ملاحظة الفارق بين الخلاف والاختلاف، فإن الضرورة ومقتضيات الصالح العام تحكم أحيانا بأولوية تركهما جانبا وتوحيد الموقف أو الخطاب من أجل هدف أسمى ربما يتعلق أحيانا بمصير شعب كامل أو أمة بأسرها.

وبالعودة إلى هذا النص، ولو أننا نظرنا إلى واقع شعبنا في العراق اليوم بشقيه الإيماني "الديني" والقومي، لوجدناه، في موضوعة الوحدة، أحوج ما يكون للجنوح إلى التعامل مع هذا التعليم بواقعية.. والسعي لتجسيده بدلا من النظر إليه وكأنه تعليم طوباوي مثالي.
ولن نأت بجديد إذا تحدثنا عن أهمية الوحدة وتوحيد الجهد والخطاب والموقف.. لكن تطورات الأوضاع هو ما يأتي إلينا بجديد بين الفينة والأخرى. إذ ليس خافيا ما تعرض له شعبنا، إلى جانب المكونات الأخرى، من تداعيات ما بعد التغيير وما أفضت إليه من تضحيات بشرية ومادية كبيرة، رافقها ونتج عنها نزيف مستمر متمثل بالهجرة.. ثم وصل الأمر مرحلة التمثيل والوجود على أرض الواقع، والذي تعرض بدوره مؤخرا.. لملابسات خطيرة كان لا بد من تدراكها بشتى السبل القانونية والحضارية التي تم اعتمادها فعلا من قبل المؤسسات والفعاليات المختلفة، الكنسية منها والمدنية "القومية السياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها".. إلا سبيل وحدة الصف وتوحيد الخطاب الذي يبدو أنه صار عندنا غالبيتنا اليوم، رغم أحكام الضرورة، أقرب إلى الطوباوية منه إلى الواقعية.

إن ما شهده البلد مؤخرا، لم يكن، بالنسبة لشعبنا، أمرا يتعلق بالسياسة وموضوعة الانتخابات والتمثيل وتعرض الحياة للخطر وحسب، إنما أمر يتعلق بالوجود أولا ومن ثم الشراكة في الوطن الأم.. والمشاركة في الحقوق والمكتسبات بعد أن تم تأدية الواجبات على أكمل وجه.

ورغم أن مواقف القيادات المدنية والرئاسات الكنسية جاءت متقاربة إلى حد لا بأس به قياسا بالواقع المعروف، فإن توحيد الخطاب هذا جاء كتحصيل حاصل أملته ظروف معينة، أكثر من كونه بادرة مقصودة تم السعي إلى تحقيقها كخطوة أولى، وإن جاءت متأخرة إلى حد ما، ومن ثم العمل على تطويرها وإنضاجها بهدف تحقيق واقع أفضل يغلب فيه الصالح العام والنظرة بعيدة المدى على المصالح الشخصية والنظرة الآنية قصيرة المدى.

فعلى الرغم من أن فعاليات شعبنا المدنية "السياسية والثقافية" الفاعلة تتبنى في غالبيتها الأهداف والشعارات ذاتها، لكن كل منها ينهج سبيلا قد لا يلتقي مع سبيل الآخر في تحقيقها.
وواقع حال هذه الفعاليات يمكن أن ينطبق أيضا على مؤسساتنا الكنسية وإن اختلفت المعطيات.
فثمة مناسبات ومواقف شهدتها الساحة الكنسية مؤخرا وتابعناها عن كثب، كشفت عن أن النزعة اليوم إنما هي أقرب إلى التباعد والتقوقع على الذات والتمسك بالـ "كرسي".. منها إلى التقارب والانفتاح على الآخر أولا، ومن ثمة بلورة خطوات الوحدة وإن جاءت في حدها الأدنى ومداها الأضيق.. من خلال التركيز على ما هو مشترك وتفعيله والعمل به. وترك ما هو موضع خلاف جانبا.

الأمر قد يكون صعبا وهذا أمر طبيعي، لكنه ليس طوباويا لا سيما إذا تعلق الأمر بمصير شعب وأمة. إنها أمنية متجددة بالوحدة، رغم الفارق الكبير بين التمني.. والتوقع!.
Opinions