Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

لا إكراه في الدين

لقد أشرت في مناسبة سالفة الى العرف الذي سارت عليه وزارة المعارف في إيفاد طلبة المدارس لقضاء عطلة الصيف في كردستان في أيام العهد الملكي. في هذه الأيام يقتضي عليهم أن يثبتوا أنهم أكرادا ليسمحوا لهم بالدخول الى كردستان، أو يجدوا كفيلا لهم من أهل المنطقة يضمن رجوعهم الى بيوتهم في بغداد.

كان من الطبيعي لهذه السفرات السياحية أن تصادف أحيانا شهر رمضان المبارك. وهو ما حدث لي أثناء مرحلة الدراسة الثانوية. تضمنت تلك الحياة الكشافية الطلابية نشاطا يوميا مرهقا في مسيرات طويلة شاقة وتسلق الجبال الوعرة الى القرى المجاورة. وكان ذلك شيئا صعبا على أولاد أحداث يقومون بمثل هذا بمعدة خالية ومن دون وجبة طعام جيدة، أو يسمح لهم بشرب الماء في ذلك الصيف الملتهب. احتار المعلمون المسؤولون في ما يمكن لهم ان يفعلوه في هذا الموقف. عقدوا في ما بينهم جلسة استفتاء لم يسبق لهم أن عقدوا مثلها من قبل، وبدون ان يكون مفتي البلاد قد أعطاهم الحق في الإفتاء. تكلم احدهم فقال إن بين الطلبة تلامذة يهود ونصارى ولا يجوز لنا أن نحرمهم من الأكل. قال آخر، بل ربما يكون بين هؤلاء الطلبة الصغار من لم يبلغ بعد سن الرشد. ومن اين لهم ان يتحققوا من ذلك؟ ففي تلك الأيام كان المطلوب من التلميذ أن يعرف كل شيء إلا عمره الحقيقي.

صدرت الفتوى للطباخ الكردي من أهل المنطقة أن يعفي الطلبة النصارى واليهود من الصوم ويجهز لهم طعامهم، فلا إكراه في الدين. فرد عليه الطباخ قائلا: «كاكا أستاذ، استغفر الله! أنا ما أكره الدين». ولكن الطباخ الكردي كان رجلا على جانب كبير من الحكمة والمعرفة. فرغم ان عدد النصارى واليهود في المخيم لم يتجاوز عدد أصابع اليد، فإنه دأب على طبخ ما يكفي لمائتي تلميذ. كان يقف أمام القدر الكبير المنصوب على المنضدة ويسأل التلميذ: نصراني؟ فيهز التلميذ رأسه بإشارة قد تعني أي شيء، أو لا شيء. يعود فيسأله: «يهودي؟» فيعطيه نفس الإشارة من دون أن يعبأ بها أو يلاحظها الطباخ كاكا حسن، وهو يملأ أثناء ذلك الماعون بالرز والباميا واللحمة والسلطة ويضيف اليها قدحا مليئا باللبن وصحنا من الآيس كريم والمربى.

يظهر أن كاكا حسن قد مل في الأخير من طرح هذا السؤال: هل أنت نصراني؟ هل أنت يهودي؟ فخطر له شيء آخر. لقد كان طباخا حكيما كما قلت. ذهب الى مجلس المعلمين الذي تحول الى مجلس إفتاء وقال لهم بلهجته العربية المكسرة : «هازا شي مو صحيح. هازا كفر. الصحيح هو هازي التلاميز على سفر. هازي الأولاد بيت مال أبوها بالبغداد. وهنا في سرسنك في سفر. وفي السفر المسلم مو يصوم. الله في كتابه يكول هالشي. اكروا كتاب الله و شوفوا».

نظر المعلمون في وجه بعضهم البعض باستياء. كل دراستهم ومعرفتهم لم تنفعهم وهذا الطباخ الكردي البسيط يأتي ويعلمهم في أمور دينهم. ولكنهم تذكروا، و لم لا؟ فنصف الفقه وعلوم الدين كتبه علماء أكراد. وهنا تشجع المعلم سعيد أفندي فصرف كاكا حسن وأمره بعدم التجاوز على سلطات الإفتاء في المخيم. ثم قال، بالإضافة لذلك فهؤلاء الطلبة يقومون بسفرات طويلة مشيا على الأقدام الى الكنائس والقرى المسيحية في المنطقة. وهذا مما يشكل بوضوح عذر السفر المنصوص عليه. فلا جناح عليهم ان يأكلوا الباميا والرز واللحمة والآيس كريم، وهم على سفر. وهو ما كان. لم يعد كاكا حسن يسأل التلميذ: انت نصراني أو يهودي؟

وكانت أياما بقيت ذكرياتها عالقة في ذهني وأذهان كل من شارك في تلك المخيمات السلمية الآمنة، أيام السلم والأمان اللي فاتت وراحت.

عن جريدة الشرق الاوسط
Opinions