لماذا أدافع عن المسلمين وقرأنهم؟
جامعة يونشوبنك – السويدleon.barkho@ihh.hj.se
منذ فترة ليست بقصيرة وأنا أنشر مقالي الأسبوعي في جريدة الإقتصادية الغراء، وهي واحدة من أكثر الجرائد العربية ليس إنتشارا وتأثيرا فقط بل أهمية ورصانة. والمقال ينزل كل يوم جمعة وفي الجهة اليمنى من الصفحة الأخيرة وهذا أقصى ما يتمناه أي كاتب صحفي.
وهذه المقالات الأسبوعية فكرية وفلسفية ومتسلسلة أشتغل فيها بكتاب المسلمين، القرأن الكريم، ومواضيع مهمة أخرى، وهي عصارة جهدي الأكاديمي وملخص لما أنشره باللغة الإنكليزية من كتب ومقالات بعضها يدرس في أمهات الجامعات في الغرب.
وهذه المقالات، التي قد تضم إلى الأن أكثر من 60000 كلمة، أصبح لها تأثير بالغ لدى الكثير من الناطقين باللغة العربية. وكثير منها تنقله صحف أخرى ويظهر على عشرات لا بل مئات من المواقع الإلكترونية. ومعدل صفحات أي مقال على الإنترنت يتجاوز في كثير من الأحيان 30000 صفحة.
والمقالات هذه، كونها ذات بعد فكري عميق يرسم خارطة جديدة للعلاقات والحوار بين الأديان والمذاهب والشعوب مما لم يألفه الكثير منا، صار لها ردود فعل متباينة. فبعض الطوائف الإسلامية، على سبيل المثال لا الحصر، أهدرت دمي وتتهمني بالكفر ومحاولة التنصير. وبعض الطوائف المسيحية تتهمني بتفضيل الإسلام وقرأنه على باقي الأديان منها المسيحية التي أنتمي إليها.
أنا سعيد جدا لأنه رغم أن بعض مقالاتي تنزل مثل السياط على الكثير من المفاهيم والممارسات العربية والإسلامية في دول منها السعودية ، فإن إدارة التحرير لم تتدخل في تغير أوحذف حتى كلمة واحدة.
وسعادتي نابعة أيضا من الثقة التي لدي أن الجريدة لن توقف سلسلة المقالات هذه حتى أن تكتمل بغية تحريرها قبل نشرها في كتاب منفصل في نهاية العام القادم بإذن الله.
وقد يتسأل القارىء ما لنا ومقالاتك هذه. كلا، أن صدى هذه المقالات وصل إلى الكثير من ابناء شعبنا الكلداني الأشوري السرياني الواحد. وقد أثارها الكثيرون أمامي وكنت بإنتظار ظهور مقال او مقالات تنتقدني في مواقع شعبنا ولكن هذا لم يحدث لحد الأن رغم ان ذلك أمر محبب لدي. الأفكار التي لا تنتقد ولا تهاجم ولا تمتحن تموت دون أن تترك أثرا.
والكاتب الوحيد الذي تطرق إليها نقدا وكتابة وفي نطاق ضيق هو الأستاذ مؤيد هيلو الذي قرأ واحدا من هذه المقالات منشورا في موقع إيلاف الإخباري، فله مني كل الشكر والتقدير بغض النظر عن فحوى ما كتبه.
وشفويا كان لدي حوار معمق بالهاتف مع أحد الصحفيين البارزين من أبناء شعبنا الذي أثار بعض علامات الإستفاهم. وبين الحين والأخر نتحاور نحن الإثنان سوية في أمور إعلامية شتى إن من خلال الهاتف او إلكترونيا.
وأود أن أسترعي إنتباه قرائي وأصدقائي ومنتقدي الكرام أنني أكتب الأن ليس لتبرير مأ اكتبه. إنني أؤمن بما كتبته وما سأكتبه. ولا يتصور أحد أنني يوما ما سأعتذر عما كتبته وما سأكتبه والكتاب الذي سأنشره.
وأتمنى أن لا يعمد البعض إلى التشويش وإخراج عبارة او عبارتين او الإستشهاد بمقال او مقالين من هذه السلسلة الطويلة كي يبني مواقف محددة عليها. الموقف يبنى فقط بعد قراءة السلسلة بأكلمها والإنتظار حتي أن تكتمل.
وقبل أن أتحدث عن بعض الذي يحاول التشويش، متجنبا الشخصنة والمباشرة قدر الإمكان، أريد أن أوجز موقفي الفلسفي والفكري من صراع الحضارات والعقليات والأديان والمذاهب.
في كل كتاباتي أنا أرفض تقسيم البشر إلى أخيار وأشرار. التقسيم المزدوج للبشر – هذا أبيض وهذا أسود – أخطر كارثة تواجهها البشرية اليوم. بمعنى أخر ان الخير – الذي يتمثل اليوم خطابيا ويفرض علينا من خلال الإعلام والمؤسسات دينية كانت أم دنيوية – وصفة جاهزة للمذهب والدين والإيديولوجيا التي ننتمي إليها.
وبدا الكثير منا يرى أن وصفة الخير تنطبق على الغرب "المسيحي" وعلينا نحن المسيحيين ووصفة الشر تنطبق على الشرق العربي والمسلم. وهكذا بدأ الكثير منا يرى خيرا في الممارسات الإسرائيلية وشرا في ممارسات الفلسطينيين المضطهدين. وقس على ذلك ما يحدث في العراق أو أفغانستان، حيث يرى الكثير منا الخير في ممارسات الغزاة الأشرار وأعوانهم والشر فقط في ممارسات من يقاومهم.
وهكذا إن طارت طائرة بلا طيار من كلفورونيا وقصفت عرسا في أفغانستان او العراق او اليمن او فلسطين وفتكت بالأطفال والنساء والشيوخ والأبرياء قد يراه الكثير منا بعين إيجابية ولكن إن فجر مسلم ذاته منتقما ما حدث، كونه لا يملك الوسيلة ذاتها، فلا نراه إلا بعين سلبية واضعين إياه فورا في خانة الشر.
وإن أرسل الغرب المسيحي جيوشه الجرارة المدججة حتى أسنانها بأفتك الأسلحة – وبعضها يحمل شارات وعبارت مسيحية – للغزو والتدمير كما يحث في فلسطين والعراق وأفغانستان يراه البعض منا ضمن وصفة الخير. ومتى كان الصليب – رمز المصلوب الذي لم يفتح فاه لا بل غفر للذين صلبوه - علامة حرب وبطش وتدمير؟ كل هذا والعرب والمسلمون ليس لديهم جنديا واحدا في أصقاع الغرب المسيحي.
وأغلبنا ينظر إلى صدام حسين وزبانيته من منظر الشر – وهذه حقيقة وواقع. ولكن إن قلنا أن تصرفات الأمريكان وزبانيتهم في العراق فيها من الشر ما قد يرقى او يفوق ما قام به صدام حسين وقدمنا الأدلة لذلك لظن البعض أننا بعثيون.
هذا هو الرصيف الأول في المنحى الفكري الذي اؤمن به.
ونأتي الأن إلى الرصيف الثاني. أسس هذا الرصيف تنبع من نظرية أننا لا نستطيع فهم وإدراك الحياة دون مقاربات ومقارنات. ولنقارن العهد القديم من الكتاب المقدس وما يرد فيه من نصوص تدعو إلى العنف المفرط والنصوص القرأنية التي تدعو إلى العنف المفرط. وكأديمي وشخص متضلع في القرأن والكتب السماوية الأخرى ارى مقاربة كبيرة بين الأثنين.
إذا لماذا نعتير هذا الكتاب سماوي والأخر غير سماوي إن كانا متقاربان في الدعوة إلى العنف؟
أنا مسيحي ولكن مشرقي. بمعنى أخر أنني أقرب إلى إخواني العرب والمسلمين فكريا وذهنيا وحضاريا ولغويا وتراثيا من قربي إلى المسيحيين الغربيين. عاش أجدادي من كنيسة المشرق مع المسلمين لا سيما العرب منهم قبل وبعد أن يفلح الغربيون المسيحيون بتقسيم هذه الكنيسة وتشتيتها في فترة تعايش تمتد لأكثر من 1400 سنة، أغلبها تسامح وسلام؟
وإن كرم القرأن كتابي والنبي الذي اؤمن به فليس من باب العدالة أن أكرم كتاب المسلمين ونبيهم. ألبعض يريد من أكاديمي مثلي أن ينزل إلى مستوى بعض الجهلة والأميين وأنا أقود حملة للحوار والتعايش، بينما البشر في صراع مرير بين العقليات والأديان والحضارات المختلفة، أن أقول أن كتاب المسلمين باطل ونبيهم كذلك. حاشى والف حاشى. أكن لهم ولكتابهم ولنبيهم ذات المقدار لا بل كثر من الإحترام والتقدير والتبجيل الذي يكنونه لي.
ونأتي الأن إلى الرصيف الفكري الثاث. لا زال البعض منا يعتقد أنه بإمكانه الإتكاء على مذهبه اودينه و رجل دينه يوم الحساب. في يوم الحساب لا ينفع الإتكاء على مذهبنا ورجال ديننا وكتبنا. ما سيشفعنا هو أعمالنا. وإن كان هناك كتاب يوضح هذا الأمر بجلاء فهوالإنجيل.
والمسيحييون قبل غيرهم مدعوون إلى التسامح والإعتراف بالأخر. ألم يمض المسيح جل وقته مع الخطأة والمساكين. هل حدث وأن دان او حرم شخصا حتى من الذين كانوا يلقبونه "بعل زبوب" اي ان الشيطان يقيم فيه.
المسيحية بالنسبة لي ليست مايقوله رجل الدين مهما علا شأنه او مقامه. المسيحية هي الإنجيل. والإنجيل لا يمنح مفاتيح السماء لأي مذهب ولأي شخص. إنه يمنحها للذين تتمثل فيهم "المحبة والتسامح والعطاء (الإحسان) والغفران". هذه هي الزوايا الأربعة للمسيحية من وجهة نظري.
كلنا قد قرأ متي (25) لا سيما الأيات 31- 46 ولا بد وأن سمعها لأنها تتلى لدى مراسيم الدفن وبعض المناسبات والأحاد. هذه هي حقيقة المسيحية بالنسبة لي وعداها ثانوي. لن يقول الرب هل كنت :"كاثوليكي المذههب وكلداني القومية أم لا" ويقرر مصيري حسب الجواب. هذا موقف الجهلة والأميين. لن نتكىء إلا على اعمالنا يوم الحساب. وهكذا ربما يحدث أن يخرجنا الرب نحن الكاثوليك من ملكوته ويأتي غيرنا من مذهب ودين أخر ويتكىء معه في ملكوته إن كانت اعماله مطابقة لمتي (25) وأعمالنا بعيدة عن ذلك.
وقد تحدثت كثيرا عن صراع العقليات والديانات والأفكار والحضارت في شتى جامعات العالم. وما يسعدني أن الكنائس في السويد والدول الإسكندنافية بدأت تقرأ ما أكتبه. وأخر محاضرة ألقيتها كانت لجمهور من الكاثوليك السويديين وبعض الكهنة تدور حول المقالات التي تظهر لي في جريدة الإقتصادية.
ومحاضرتي القادمة ستكون في إستوكهولم وسيحضرها كبار رجال دين من الكنيسة السويدية في كنيسة سنت كونراد وبعدها لجمع من المسلمين والأئمة حول نفس الموضوع. والهدف من هذه المحاضرات هو تقديم أدلة من الإنجيل ان المسيح لما كان يعارض إقامة جامع بجانب كنيسة سنت كونراد. وسأدافع لسانا وقلبا وكتابة وسأقوم بما يمليه علي ضميري المسيحي لبناء جامع بجانب الكنيسة وإقامة مكان مشترك يلتقي فيه المسلمون والمسيحيون قبل وبعد صلاتهم للتحدث والحوار.
ولا أريد الغوص كثيرا في تفاصيل الفكر الذي أحمله ومن غير الممكن إجماله في مقالة واحدة ولكنني رفضت قبل أسبوعين عرضا سخيا جدا لإشغال كرسي الأستاذية في المعهد الكاثوليكي للفلسفة والحضارة واللاهوت في جامعة أبسالا السويدية التي تعد واحدة من أرقى الجامعات في العالم. وكان السخاء درجة أن احدد الراتب بنفسي. رفضت رغم تدخل أسقف السويد الكاثوليكي الذي أكن له كل التقدير والإحترام لما يمتاز به من روح تسامح وقبول الأخر.
مع كل هذا بدأ البعض من الكلدان الكاثوليك، وأعوذ بالله من شر الشخصنة، حملة جمع تواقيع للإيقاع بي لدى الأسقف الكاثوليكي الذي تدخل شخصيا كي أتسنم كرسي الأستاذية في المعهد الكاثوليكي ورفضت.
وكم يحزنني أن أرى البعض يقتنع بما يقوله هؤلاء الأشخاص وهم أبعد الناس عن الكنيسة ومشهود لهم بالسكر والعربدة والتزلف لرجال الدين كي يظهروا أنهم متدينون. أمثال هؤلاء الجهلة إكتسحوا ساحة شعبنا وهم عن لغته وتراثه وتاريخه وكنيسته غرباء.
وعذرا عن الإطالة