لماذا غاب العَلَمُ العراقيُّ في طهران؟
لم يظهر العلمُ العراقي في الإجتماعين اللذين جمعا رئيس الوزراء السيد نوري المالكي مع كل من السيدين علي خامنئي، مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية، والرئيس الإيراني أحمدي نجاد في طهران بتأريخ 19/10/2010 ، إذ أظهرت الصور التي نُشرت عن الإجتماعين خلوَّها من العلم العراقي وحضور العلم الإيراني فقط.وفي نفس السياق نُشرتْ صورٌ تُظهر عَلَمي إيران وكل من سوريا وفنزويلا عند إجتماع نجاد بالرئيسين بشار الأسد وهوغو شافيز كل على إنفراد.
كالعادة إنهالت التعليقات الطيبة والخبيثة والتنويهات والغمز واللمز التي غفلَ معظمُها المصلحةَ الوطنية وركز على المادة الدسمة المحببة لدى البعض وهي النيل من المالكي والإئتلاف الذي يقوده وربما أبْعَد من ذلك بسفاهة واضحة.
على كل حال، يبقى السؤال الهام قائماً: لماذا لم يرفع الإيرانيون العلم العراقي خلف رئيس وزراء العراق السيد نوري المالكي؟ وهل طالَبَ المالكي برفع العلم؟
بدون مقدمةأقول: إن هذه إساءة جديدة تندرج في سلسلة الإساءات التي دأبت الحكومة الإيرانية على إقترافها بحق رئيس وزراء العراق حتى لو لم يكن المالكي إذا كان ملتزماً بالسياسة التي ينتهجها السيد نوري المالكي الذي، بتقديري، يرأس حزباً وإئتلافاً لم يسمحا بتدخل الأجنبي بشئون العراق حتى لو كان الأجنبي دولةً لها فضل تحرير العراق من النظام البعثي الطغموي* الذي لم يعد قادراً على الإطاحة به إلا الله أو أمريكا (بغض النظر عن هدفها الخاص بها) ولها الفضل في توفير المناخ الملائم لتأسيس النظام الديمقراطي فيه؛ فما بالك بدول ليس لها ذلك الفضل على شعب العراق على أقل تقدير، رغم صلة العرق أو الدين أو المذهب؟
نعم، لقد أساء النظام الإيراني للسيد المالكي وحكومته عدة مرات والهدف كان إحراجه للتأثير سلباً على فرص نجاح إئتلاف دولة القانون في الإنتخابات العامة التي جرت بتأريخ 7/3/2010. أما الإساءة الجديدة فهدفها مختلف وسأشرحه لاحقاً بعد بيان سجل الإساءات السابقة:
- في عام 2007 (على ما أذكر) منعت السلطات الإيرانية طائرة السيد المالكي رئيس وزراء العراق من الهبوط في مطارات العاصمة الإيرانية.
- تزويد السلاح في مراحل سابقة لتنظيم القاعدة وبعض الميليشيات.
- حجب المياه عن العراق.
- قصف القرى الحدودية الكردية.
-إحتلال البئر رقم (4) التابع لحقل فكة النفطي.
-الضغوط التي مارستها، إيران، على بعض القوى السياسية لصالح السيد أياد علاوي وإئتلاف العراقية في الإنتخابات العامة الأخيرة ما شجع أطرافاً خارجية على ممارسة التلاعب الذي جرى ضد إئتلاف دولة القانون.
كان ذلك قبل أن تبدل إيران وسوريا موقفيهما كما سيرد لاحقاً.
ذكرتُ في الحلقة الثانية من مقالي المنشور بتأريخ 17/10/2010 بعنوان "الطغمويون يتفننون في الإساءة للعراق الجديد" ما يلي: "والأرجح أن الإيرانيين والسوريين أبلغوا الصدريين صراحةً بإحتمال شن إسرائيل حرباُ عليهم ما يقتضي وجود رئيس وزراء عراقي قوي ومستقل غير خاضع للسعودية التي قد تقف بجانب إسرائيل سراً، "نَقْبَلُه على مضض ويَقْبَلُه الأمريكيون على مضض، أيضاً، وهو المالكي"".
يعلم الإيرانيون أن العراقيين، والمالكي بالذات، أصبحوا على علم بحاجة إيران وسوريا الستراتيجية للعراق المتمثلة بوجود حكومة قوية بما يكفي لمنع التخاذل أو التراجع عن سياسة العراق المعلنة بعدم السماح لأن تكون الأراضي والأجواء العراقية ميداناً للإعتداء على الغير وخاصة على جيرانها. إن هذه الحاجة حَسِبَها الإيرانيون ضَعفاً حيال العراق. وإن نظاماً دكتاتورياً كالنظام الإيراني، يتَّسِم عادة بالمكابرة، لا يريد إظهار الضعف حيال جارٍ جعل منه بعضُ أبناءه وتحديداً الطغمويين ضعيفاً تسهل حتى إهانته. من هذا لم يرفع الإيرانيون علم جمهورية العراق بقصد الظهور بمظهر القوي عبر الإنتقاص من المالكي بالذات وبالتالي من العراق وسيادته. أعتقد أن حكام إيران أرادوا أن يُظهروا، أيضاً، أن معارضتهم لإئتلاف دولة القانون ورئيسه لم تنتهِ كإحدى تداعيات صراعهم مع الإسرائيليين والغرب عموماَ. فهم ينوون العودة إليها وما هذه الإساءة إلا تذكير بتلك المعارضة ولو بشكل خافت. أعتقد أن هذا السلوك هو ذاته السلوك الأمريكي أيضاً الذي أبقى أبواقاً تنفخ ضد الأحزاب الدينية الديمقراطية (على نمط: الأحلام!!...الأحلام تلاشت؛ ما بقى شيء إبهاالبلد عكب هذا الشعب الفقير!!) لرفع وتيرتها عند الحاجة المستقبلية رغم توقف جهود الوزن الثقيل لتشتيت وإفشال تلك الأحزاب منذ عقد الإتفاقية الثنائية.
لا شك، بتقديري، أن السيد المالكي قد أثارموضوع عدم رفع العلم العراقي مع المسئولين الإيرانيين. توقعاً، فإن الجواب كان تمسكاً بحجج واهية قد تخص نوع الزيارة إذ ربما قيل إنها زيارة غير رسمية يغلب عليها الطابع الحزبي؛ أو ربما طُرحت مسألة السيادة المنقوصة التي، بالمناسبة، طالما يتحدث عنها السادة قادة إئتلاف العراقية وآخرهم السيد عبد الستار الجميلي الذي تناولتُه في الحلقة الأولى من مقالي "الطغمويون يتفننون في الإساءة للعراق الجديد" المنشورة بتأريخ 15/10/2010.
أصبح الموضوع أمام السيد المالكي على هيئة خيار: أما إلغاء زيارته وفقدان فرصة توضيح السياسة العراقية التي ألحق الطغمويون بمظهرها العلني كثيراً من التشويهات أو التعالي فوق ضيق الأفق وتجاوز حماقة النظام الإيراني والتصرف كرجل دولة وتوضيح سياسة العراق الثابتة والمعلنة، خاصة أن تصريحات السيد أياد علاوي في الآونة الأخيرة وآخرها لفضائية أل (سي.إن.إن.) كانت في غاية الإستفزاز لإيران بالذات، إذ إتهمها بمحاولة قلب أوضاع الشرق الأوسط عن طريق زعزعة إستقرار العراق ولبنان وفلسطين وهو رأي طرحه قادة إسرائيل المتطرفون قبله؛ وهذا خروج عن إطار السياسة المعلنة للعراق وهي عدم التدخل في شئون الدول الأخرى. صحيح أن السيد علاوي لا يمثل السياسة الرسمية العراقية بل يطرح وجهة نظره ووجهة نظر إئتلاف العراقية إلا أن الموقف يُلزم رئيس الوزراء المالكي ووزير خارجيته السيد هوشيار زيباري بطمأنة إيران وغير إيران بأن هكذا تصريحات لا تؤشر إلى وجود نوايا خفية لتغيير السياسة العراقية المعلنة. أما التدخل الإيراني فالعراق ماضٍ لمعالجته بأسلوب بعيد عن المزايدات وبعيد عن توظيفه في محاولة كسب تأييد السعودية وإسرائيل مقابل توريط العراق في نزاعات هو في غنى عنها كصراع السلاح النووي الإيراني وأمن إسرائيل. وبالفعل فقد صرح رئيس الوزراء مؤخراً بما يشير إلى تحسن موقفي سوريا وإيران بشأن أمن العراق ودرء الإرهاب عنه.
أخيراً، أود أن أذكّر الطيبين، من الذين إتخذوا من هذا الحدث المزعج والمستفِّز من جانب إيران بحق العراق مناسبة للنقد الجارح، بأن الموضوع لا يبرر التهم التي يطلقها الطغمويون والتكفيريون من أن العراق "تابع" لإيران أو "ملحق" بها أو هو "ضيعة" منها إلى غير ذلك من التهم المفتقدة إلى الموضوعية والحس الوطني. حتى الصحف الغربية التي طالما كانت السباقة لإتهام بعض الأطراف السياسية العراقية ب "الولاء" لإيران تنبهت إلى خطئها في ضوء تجربة محاولة تشكيل الحكومة العراقية الجديدة. ففي 1/9/2010 كتبت صحيفة الغارديان البريطانية قائلةً "فشلت جهود إيران وجهود أمريكا في تشكيل الحكومة العراقية. ظهر أخيراً أن الوطنيين العراقيين لا يقبلون ضغوطاً إيرانية أو أمريكية". وبنفس النغمة تقريباً كتبت أمهات الصحف الأمريكية مثل صحيفة الواشنطن بوست وصحيفة الوول ستريت جورنال بتأريخ 5/10/2010.
عليه يقتضي الأمر من محبي الديمقراطية العراقية الوليدة، التي مازالت داخل دائرة الخطر، التأني والتدقيق وعدم السماح لحملة الطغمويين والتكفيريين الإعلامية الرامية إلى تقويضها أن تمر عبرهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
الطغمويون والنظم الطغموية: هم أتباع الطغم التي حكمت العراق وبدأت مفروضة من قبل الإحتلال البريطاني في عشرينات القرن الماضي، ومرت النظم الطغموية بمراحل ثلاث هي: الملكية السعيدية والقومية العارفية والبعثية البكرية-الصدامية. والطغمويون لا يمثلون أيا من مكونات الشعب العراقي القومية والدينية والمذهبية بل هم لملوم من الجميع ، رغم إدعائهم بغير ذلك لتشريف أنفسهم بالطائفة السنية العربية وللإيحاء بوسع قاعدتهم الشعبية. مارستْ النظمُ الطغمويةُ الطائفيةَ**والعنصريةَ والدكتاتوريةَ والديماغوجيةَ كوسائل لسلب السلطة من الشعب وإحكام القبضة عليها وعليه. بلغ الإجرام البعثي الطغموي حد ممارسة التطهير العرقي والطائفي والإبادة الجماعية والمقابر الجماعية والجرائم ضد الإنسانية كإستخدام الأسلحة الكيمياوية في حلبجة الكردستانية والأهوار. والطغمويون هم الذين أثاروا الطائفية العلنية، بعد أن كانت مُبَرْقعَةً، ومار سوا الإرهاب بعد سقوط النظام البعثي الطغموي في 2003 وإستفاد الإحتلال من كلا الأمرين، فأطالوا أمد بقاءه في العراق بعد ثبات عدم وجود أسلحة الدمار الشامل. كان ومازال الطغمويون يتناحرون فيما بينهم غير أنهم موحدون قي مواجهة الشعب والمسألة الديمقراطية؛ كما إنهم تحالفوا مع التكفيريين من أتباع القاعدة والوهابيين لقتل الشعب العراقي بهدف إستعادة السلطة المفقودة.
**
الطائفية:
للطائفية معنيان: أحدهما عقائدي وهي طائفية مشروعة إذ تبيح لائحة حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة حق إعتناق أية ديانة وأي مذهب ومعتقد ديني أو سياسي أو إيديولوجي شريطة ألا يدعو إلى الكراهية والعنف والحرب.
إن محاولة توحيد أصحاب المذاهب من الديانة الواحدة هو ضرب من الخيال. فالطريق الأسلم والحل الصحيح هو أن يحترم كلُ شخصٍ قوميةَ ودينَ ومذهبَ وفكرَ الآخر على ما هو عليه دون قمع أو إقصاء أو تهميش أو إكراه على التغيير القسري؛ ويتم كل ذلك في إطار الدولة المدنية الديمقراطية التي يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات.
أما الطائفية المقيتة والمدانة فهي الطائفية السياسية، بمعنى إضطهاد وإقصاء وتهميش طائفة على يد طائفة أخرى أو على يد سلطة طغموية لا تمت بصلة لأية طائفة. لو تعمقنا في موضوع الطائفية السياسية لوجدناها ترتبط بمصالح طبقية. والطائفي هو من يمارس الطائفية بهذا المعنى أو يؤيدها أو يدعو لها.
طائفية السلطة الطغموية ضد الشيعة وغيرهم هي التي حصلت في العراق إبان العهد الملكي السعيدي والقومي العارفي والبعثي البكري- الصدامي؛ ولم يحصل إضطهاد طائفة لطائفة أخرى. وعلى يد تلك النظم الطغموية مورست العنصرية، أيضا، ضد الأكراد والتركمان والقوميات الأخرى، كما مورس إضطهاد الأحزاب الديمقراطية واليسارية وخاصة الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي بسبب أفكارها الديمقراطية والوطنية والتقدمية. وقد حوربت الأحزاب الدينية الديمقراطية بوحشية خاصة أثناء الحكم البعثي الطغموي.
الحل الصحيح للقضاء على الطائفية السياسية يكمن بإعتماد الديمقراطية بكامل مواصفاتها اساساً لنظام الدولة وعدم حشر الدين في الشئون السياسية.
لا نجد اليوم في الدستور العراقي والقوانين ما ينحو بإتجاه الطائفية. وحتى برامج الأحزاب الدينية لا تحتوي على هكذا إتجاهات. وهو أمر يدعو إلى التفاؤل والتشجيع، آخذين بنظر الإعتبار ضرورة التمييز بين ما هو شأن سياسي وما هو شأن ثقافي تراثي شعبي قابل للتطوير في أشكاله الطقوسية.