لماذا وكيف افلح السريان وأخفق الكلدان في مهرجان الجوقات في السويد
جامعة ينوشوبنك – السويد
في أخر كتاب له مع عنوانه الثانوي "فساد السياسة والدين " (رابط 1) يتحدت الفيلسوف الأمريكي الشهير ريجرد برنشتاين بإسهاب كيف يستخدم السياسيون ورجال الدين مفاهيم إنسانية بريئة أتت بها الأديان الثلاثة – اليهودية والمسيحية والإسلام – للإساءة إلى الدين نفسه من خلال إنتقاء أيات ونصوص محددة دون غيرها او نصب أنفسهم وكلاء لله في الأرض. وكذلك يتطرق إلى الطريقة التي إستخدم ويستخدم بها السياسيون لا سيما ألأمريكيون منهم وتحديدا إدارة الرئس السابق جورج بوش للمأساة التي وقعت في سبتمر 9/11 لإقتراف أمور شريرة إن وضعناها ضمن سياقها العام لقاربت الشر الذي إقترفه الإرهابيون ضد أمريكا.
والكتاب رغم صغر حجمه – حوالي 100 صفحة – يعد فتحا في فهم الشر والإساءة من خلال نظرية يضع أسسها هذا الفيلسوف الكبير ويطلق عليها "صراع العقليات."
ما المناسبة
المناسبة هي ردة الفعل على المقال النقدي الذي كتبته حول مهرجان الجوقات والأخويات في السويد (رابط 2). والمقال جذب عددا قياسيا من القراء ووردني حوله عدد كبير من الرسائل والتعليقات. ولننظر كيف تتصارع العقليات في صفوف شعب مثل شعنبا رغم صغره وأركز على الشتات – أي تواجد شعبنا خارج أرض الأجداد في الشرق الأوسط.
إرفعوا القبعة للأشقاء السريان
اشقاؤنا من السريان الذين كانت لهم مشاركة متواضعة في المهرجان قدموا أداءا يرفع الرأس حيث كانت جوقاتهم الوحيدة التي أنشدت بالسريانية لغتنا القومية اما الجوقات الكلدانية كما أوضحنا فلم تكترث لتراثها الكنسي وهويتها الكنسية البتة وبدت أكثر عروبة من عدنان وقحطان.
وبعد المهرجان قمت بإجراء لقاءات وأحاديث كثيرة مع كل مكونات شعبنا التي شاركت في المهرجان ومن ضمنهم مسؤولي الجوقات والخورنات ورجال الدين المشرفين عليهم. وأنا أنقل ما توصلت إليه أطلب رأي قرائي الكرام وأنا أعلم ان قراء اليوم – رغم عصر الإنترنت والصحافة الجماهيرية – من الصعوبة بمكان زحزحتهم عن مواقفهم دون جهد ونزاهة وإستقلالية.
ولندرس الأن العقلية الكلدانية والعقلية السريانية من خلال محادثات وجدالات مطولة مع رجال الدين وأخرين لهم دور كبير في مصير شعبنا في الشتات والحفاظ على هويته من الضياع. وقد شرحت ما هي الهوية في المقال السابق (رابط 2). وهنا لا أستطيع التعميم. الفيلسوف برنشتاين نظريته "صراع العقليات" نظرية كونية – أي في الإمكان تعميمها. أما أنا فلست إلا معلما جامعيا بسيطا ولذا أتجنب التعميم وأقول أن ما سأسرده أستقيته من الوضع في السويد الذي قد ينطبق على مناطق أخرى او لا ينطبق.
الاسس النظرية
النظرية هنا في السويد تقول أن كل من وصل إليها يافعا من أبناء شعبنا وكل من ولد فيها من أبناء شعبنا لا يفقه اللغة العربية، اي يتحدث السويدية والسورث ونادرا وبإستثناءات قليلة جدا العربية. وهذا معناه ان دور العربية في مجتمعنا في السويد في طريقه إلى الزوال شئنا أم أبينا.
العقلية الكلدانية في السويد
رجل الدين المشرف له دراية كاملة بهذاالوضع ولكنه يتنكر له. وفي المحاججة يستند إلى منطق أي عقلية عرجاء وعوجاء وفي الإمكان إستخدام عنوان الكتاب الذائع الصيت لعالم الإجتماع الكبير على الوردي "مهزلة العقل البشري" كوصف لها والذي كتبه ردا على منتقدي كتابه الأكثر شهرة "وعاظ السلاطين." وكنت قد سألت رجل الدين المشرف الذي يتقن لغتنا القومية نطقا وكتابة لماذا تتشبثون بالعربية والعروبة وتروجون لهما بينما اولادنا وأحفادنا لايتحدثون بها وهم يهربون من الكنيسة بسبب ذلك، قال ما معناه نحن نقرأ ونعظ ونرتل بالعربيوأنتم إذهبوا إلى البيت وترجموا لأولادكم. أي منطق هذا حتى العروبي البعثي ذو النظرة الشوفينية للتعريب لا أظنأنه كان قد وصل إلى هكذا تفنن للترويج للعروبة وهذا في السويد. أن يبقى اولادنا وأحفادنا خارج الكنيسةلأن سيادته عروبي ومروج للعروبة والعربية. هذه هي البشارة حسب هذه العقلية.
والأغرب من هذا أن التعامل مع المقال كان بعيدا جدا عن فحواه. فأنا لم أتطرق لا إلى البشارة ولا إلى الإنجيل ولا إلى المسيحية كعقيدة وإيمان. ولكن أغلب ما سمعته كان إتهاما باطلا لي بأنني أنتهك التعاليم الكنسية وتعاليم الإنجيل وأن تلاميذ المسيح بشروا في كل اللغات ولهذا فإنهم لن يتخلوا عن العربية والعروبة وحتى في السويد وإن كان اليافعون والصغار يهربون من الكنيسة.
كل هذا ونحن نتحدث عن الهوية والأدب الكنسي وكل الدلائل في الدنيا تشيرأن كل الكنائس تتمسك بهويتها الكنسية لا بل ان الكنيسة الجامعة الأن تشجع وتحث الكنائس على ممارسة هويتها الكنسية وعدم خسارتها لا سيما الكنائس الشرقية وعلى الخصوص التي هي في الشتات.
والأنكى من هذا يستغل هؤلاء مكانتهم ومركزهم الديني للشروع بخطبة للهجوم على ما كتبته وإقحامه ضمن الهجوم على الكنيسة ومبادئها وإنجيلها ومسيحها. أي أن رجل الدين هنا يغتزل الكنيسة والمسيحية بشخصه. المأساة هي عندما يناصره البعض وينسى اننا كلنا سواسية، بغض النظر عن مناصبنا، أعضاء في جسد الكنيسة والمسيح وليس فقط رجال الدين وأن إتهام شخص بإنتهاك تعاليم المسيح لا يتم دون دليل ونقاش يضم خيرة المؤمنين من الإكليروس والعلمانيين وتحت إشراف الأسقف المخول، ويُمنح "المتهم" فسحة كبيرة للتعبير والدفاع عن نفسه. ولكن صاحبنا أنزل من التهم والأقاويل والأباطيل ما لم يأتي به الله من سلطان وكل هذا بعد مغادرة صاحب العلاقة المنبر إحتراما للمكان والحاضرين.
العقلية السريانية في السويد
العقلية السريانية هي على نقيض العقلية التي ذكرناها أعلاه فرجال الدين وأصحاب الشأن بينهم الكاثوليك ومنهم من الأشقاء الأرثذوكس يتفهمون واقع شعبنا في السويد ويحاولون جهدهم تربيته على هويته الكنسية ويذكرونه بالضياع الذي كان في أرض الأجداد وان التواجد في بلد مثل السويد هو فرصة سانحة لنهضة شاملة للهوية الكنسية المشرقية لا سيما اللغة والطقس والأدب الكنسي. ولأنهم يتفهمون هذا الواقع بعقلية متفتحة أسميها "العقل البشري السليم" مقارنة مع "العقل البشري الهزيل" الذي أشرنا إليه سابقا فإنهم أخذوا في إلقاء محاضرات والدخول إلى الإعلام الجماهيري مثل الفيسبوك ويوتيوب وغيره لرفع شأن هويتهم المنسية السريانية.
ومن خلال إتصالاتي مع عدد من الكهنة وأصحاب الشأن من الأشقاء السريان – الكاثوليك والأرثذوكس – إستغربوا موقف الذين يتكئون على الإنجيل والمسيح والصليب – كما كان شأن صاحبنا أعلاه – لإعلاء شأن العروبة بين صفوف شعبنا. على العكس رأوا في المقال تذكيرا للكل بأهمية تراث ولغة وأدب وإرث أعرق كنيسة في الدنيا وهي عيتا دمذنحا دسورياي بأسمائها ومذاهبها الحالية المختلفة. والإستغراب في محله لأن فقط الضعفاء وعديمي الحجة وفاقدي المنطق هم يهرعون إلى الإنجيل لبث أفكار ومواقف ونشاطات تقع ضمن هزلية العقل البشري. كلنا نعلم أننا في المسيحية لن نتكىء إلا على أعمالنا ولكن الظلام والظلامية والشر والإساءة تشرق وتزدهر عندما يروج بعض رجال الدين ومن أي دين كانوا أن الخلاص والفلاح في هذه الأرض او غيرها لن يحصل دون الإتكاء عليهم.
ولهذا جاءت إستجابة الأشقاء السريان لما ورد في المقال معاكسة تماما لبني قومي من الكلدان لا سيما رجال الدين.
ومما يقوم به أحد الكهنة السريان هو أنه أوصل رعيته إلى مغادرة كلمة "السلام عليكم" بالعربية وغيرها إلى "شلاما" او "شلاما عمخون" حتى في المراسلات الشخصية. وبعد أن كان بعضهم او ربما أغلبهم قد نسي هويته الكنسية هناك نهضة – رغم الصعوبات – بدأت تتغلغل في صفوف الشباب والشابات الذين بداؤا هنا في السويد، وبنهم، قراءة تراثهم وتاريخهم وكلما زادوا قراءة وسماعا له زادوا حبا وقربا منه.
ولغتنا القومية هي أقرب لغة إلى المسيحية لأنها لغة المسيح ومن هذه الأرضية ترون أنهم يبشرون بالمسيح وإنجيله لأن المسيح نفسه تكلم هذه اللغة ويرون الأن – وهذا ما إستقيته من خلال أحاديثي ولقأتي معهم – أنهم كلما زادوا قربا من إرثنا وأدبنا وطقسنا ولغتنا وموسيقانا وكتب صلواتنا السريانية زادوا قربا إلى المسيح وإلى الله.
وبداؤا بشرح الليتورجيا للكثيرين وصار الناس يتقبلونها وصارت أعداد غير قليلة تتهافت على ترتيلها رغم ان الكثير منهم لا يفهمها بل يستعين بترجماتها.
رجال الدين وأصحاب الشأن لدى السريان يرون ان من واجبهم تعليم الشباب والشابات هنا في السويد حب تراثهم وهويتهم وطقسهم السرياني الذي فيه حب المسيح وان واجبهم ومن ضمنه الكنسي، هو أن يفهم الكل – ابناء شعبنا – أنه لدينا تراث وأدب كنسي لا نظير له عمره بعمر المسيحية.
وصار لدى الأخرين من السريان ومنهم رجال الدين مفاهيم تراثية وكنسية تربط التراث والأدب السرياني بالمفهوم والهوية المسيحية ومفاده أن ضياع الترث والأدب الكنسي السرياني يرقى إلى خراب المسيحية المشرقية التي يجب ان نحافظ عليها ونحن في الشتات.
نتيجة العقلية السليمة
ونتيجة لهذه العقلية التي بدأت تتغلغل في صفوف شعبنا من المكون السرياني وفي السويد ظهرت جوقات وقف المسؤولون فيها على المنصة في المهرجان يلقنون الحاضرين ومنهم الكهنة الكلدان دروسا بليغة ليس في الهوية الكنسية بل في الهوية المسيحية أيضا ولا أظن أن صدى ما قاله أحدهم وهو يهاجم "دبابة العروبة والعربية" وهي تكتسح الهوية الكلدانية المسيحية والكنسية بالسويد ورغم المأساة ترافقها الهلاهل المدوية والتصفيق الحاد من أصحاب العقليات الهزيلة.
وكم كان بائسا ومثيرا للشفقة موقف الجوقات الكلدانية والكهنة الكلدان الحاضرين عندما أنشدت جوقة سريانية الترتيلة الكلدانية الرئعة والذائعة الصيت "بشمّا دبابا وبرونا" وكيف أن أغلب الحاضرين إندمج معهم وأخذ يردد خلفهم بينما لم ارى اي واحد من الحاضرين يردد خلف الجوقات اليعروبية الكلدانية حيث كانت كلماتها غريبة ومملة ورتيبة وسمجة كما لحنها.
هذا حقا صراع العقليات
نعم. كان المهرجان حقا برهانا ولو بشكل يسير على نظرية الفيلسوف ريجارد برنشتاين عن صراع العقليات. صراع بين عقلية – لا أريد ان أزيد في وصفها – ترى البشارة والمسيح والمسيحية والهوية الكنسية من خلال العروبة والتعريب والعربية رغم أن هذه العقلية متحجرة ومتخلفة وتتعارض مع الواقع كما ذكرنا أعلاه، يقابلها عقلية سليمة متفتحة ترى الواقع وتتعامل معه وتتغلب على تراكمات الماضي من خلال نهضة ترى في تراثها وأدبها الكنسي ولغتها وإرثها المسيحي المشرقي الطريق إلى البشارة والمسيح وكذلك سبيلا للحفاظ على الوجود المسيحي وهويته في بلد مثل السويد.
رابط 1
http://www.polity.co.uk/book.asp?ref=074563494x
رابط 2
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,616072.0.html