مأزق الهوية القومية وحيرتها المستمرة
بما أن الانسان كائن مدرك ويحس فطريا بكينونته ، لا شك في أنه قادر على اختبار واختيار انتمائه بإرادته. وطالما ارتبطت الكينونة بوجود معنوي وروحي ، نتوقع أن يرافقها وجود فكري وابداعي بعيدا عن الماديات. لكن هنالك من يمتلك وجودا ماديا يفتقر إلى وجود فكري ومعنوي وابداعي وكأنهم في عداد الأموات ، وإن تنفسوا. وربما كانت مقولة رينيه ديكارت " أنا افكر إذا أنا موجود " خير شهادة على سمو الفكر. صحيح أن الوجود المادي للجسد يسبق عمل الفكر، إلا أن الفكر هو الذي يحدد هوية هذا الجسد. ولذلك تأتيك اسئلة من كل صوب وحدب على شاكلة : من أين أنت ؟ ومن أنت ؟ وابن من أو بنت من ؟ وإلى أي قوم أو شعب تنتمي ؟ والأجوبة على مثل هذه التساؤلات تعطيك حتما اشكالا متنوعة من الهويات والانتماءات ، وإن كانت الأجساد تنتمي أو كانت منتمية إلى بقعة جغرافية محددة المعالم.وبناء على ما تقدم ، يسألني البعض : ماذا نعني بالقومية الكلدانية ؟ وهل هنالك قومية أو هوية كلدانية ؟ وإن وجدت على الأرض ، وليست مجرد مصطلح مصطنع يطلق على مجموعة إثنية ، فما هي الخصائص الروحية والنفسية والاجتماعية التي تتمتع بها هذه الجماعة ؟ كي نجيب على مثل هذه التساؤلات ، نأخذ أمريكا مثلا. أما صاغت عقدها الاجتماعي مع الثورة الامريكية في عام 1765 وهي سيدة العالم اليوم ، بل وتتحدث عن الشخصية الامريكية ؟ الا يجوز للكلدان الذين حملوا مشعل الحضارة البشرية في وادي الرافدين والعالم وانجبوا بابل والجنائن المعلقة وبوابة عشتار حاضرتهم ، ان يقولوا للملأ ها هنا نحن قاعدون ؟ إذا كانت الهوية الأمريكية رمزا للانتماء ، فلماذا لا تكون الكلدانية كذلك وهي الأعرق في التاريخ الحضاري ؟
يا لعجبي وأنا شاهد على الصراع الدائر حول الهوية في أرضنا !! غريب هو أمر ساحتنا المسيحية التي تتبارى فيها تنظيمات واحزاب سياسية ، وكأنها تمتلك مفتاح (الحل والربط) في تحديد الهوية القومية ، بينما الشعب المغلوب على أمره مغيب تماما في اتخاذ القرارات ، ولا يطلب من الله سوى ان يفتح أذهان العقلاء من رجال السياسة لما هو خير امتنا المسيحية في ارض العراق. وبصمت وحزن دفينين ينتظر القوم يوم الفرج من هولاء العقلاء ، لكن يبدو ان العقل والسياسة لا يتناغمان ، بل نرى ، أن المصالح الشخصية طافية فوق السطح والناس غارقة في أوهام وسراب وأحلام وردية.
لقد تشبعت الساحة بالمبادرات التي تشابهت وتقاطعت وتباينت وتباعدت حينا وتقاربت حينا آخر ، الأمرالذي اوصلنا إلى درجة الاحباط. ولم تكن حصيلة هذه المبادرات والدعوات سوى الفشل ، مع الأسف. يقال أن المبادرة أشبه بعود كبريت يشتعل مرة واحدة فقط ، أي أن المبادرة تطرح عندما تصل الامور إلى طريق مسدود. ولكن حينما تتكرر وتتلون على الساحة ، كقولنا في تسمية (كلدواشور) أو(كلدان سريان اشوريين) أو(سورايي) و( آراميين) وغيرها ، فهذا دليل على تكرار الفشل عينه.
وخلاصة ما أود قوله ، هو أن مبادرات كهذه هي التي باتت تعطل عملية التحول الديمقراطي والاعتراف بالآخر ، بوجوده وقناعته بافكاره وبتراثه وحضارته ، وبالتالي هويتة القومية التي يتناغى بها. هل ننتظر إقرارا من جهة معينة لتقول لنا : ها هي هويتكم ؟ إنني أرى أنه ليس من الحكمة بمكان أن نتحاور في أمر ثوابت معلومة بشأن الهوية القومية وهي موجودة أصلا فينا. ما يحيرني هو موقف بعض من يدعي الثقافة ، بينما السلوك يقول غير ذلك في ظل هذه الظروف الاستثنائية التي يعيشها شعبنا المسيحي في العراق ؟ أينكر أحد بأن التاريخ ، مهما طال أو قصر ، هو شرط من شروط الهوية لأي مجموعة بشرية ؟ لم هذا الفيض من المذكرات والبيانات والمبادرات التي تدعو إلى تسمية مركبة ؟ إنها ، بتقديري ، إضاعة للوقت والجهد. فالهوية في جوهرها هي مجموعة من الخصائص الروحية والوجدانية والمادية ، كما اسلفنا ، وهذه كلها متوفرة في الهوية الكلدانية ، كما في الهويات الأخرى التي نحترمها ونسعى إلى معاضدتها في المحافل لأنها الوجه المشرق الآخر لشعبنا.
wadizora@yahoo.com