Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

مؤشرات المستقبل: نحو حضارة كونية من الآن إلى نهاية القرن

jawadbashara@yahoo.fr
عندما نتحدث عن المستقبل ينبغي أولاً فهم واستيعاب الماضي والحاضر كمؤشر لما سيكون عليه المستقبل. ففي الماضي كان الإنسان يعتبر نفسه أهم عناصر الوجود ومركز العالم في حين أثبت له العلم الحديث اليوم أنه لا يتجاوز في حجمه الحقيقي، مقارنة بسعة الكون، أكثر من أصغر جزيئة أو جسيم من مكونات الذرة نسبة لعدد الذرات المادية الموجودة في الكون. وهو ليس أكثر من نملة نسبة إلى الكرة الأرضية. بيد أننا عند التمعن بمكونات الذرة باعتبارها الأساس الجوهري للمادة وبشكل خاص بالمادة المكونة لأجسادنا كبشر، نجد أنه لا يوجد اختلاف بيننا وبين مكونات الكون المادية إلا في الدرجة. وعندما أدرك الإنسان أنه على الأرض ليس أكثر من ذرة غبار أستطاع أن يقدر أهمية وعيه وقدرته على التفكير والتأمل والقيام بحسابات فلكية منذ مئات السنين. فقد توصل بتفكيره المجرد في الأرض التي يقطنها أنها ذات مدى RAYON قدر بـ 6378 كلم، وقطرها 12756 كلم، وحجمها 1083260 مليون كلم مكعب. ومهما بدت هذه الأرقام كبيرة إلا أنها لاشيء مقارنة بما سيكتشفه لاحقاً فيما يتعلق بالشمس والمجموعة الشمسية والمجرة الخ.. فمدار الشمس RAYON أكبر بـ 109 مرة من مدار الأرض وسطحها أكبر بـ 11881 مرة من الأرض وحجمها أكبر بـ 1300000 من حجم الأرض. والحال أن كل تلك الأرقام المتعلقة بالأرض والشمس لاقيمة لها لو قورنت بالقياسات الكونية . فالشمس ليست سوى نجم صغير وعادي بالمقارنة بنجوم مجاورة له في مجرة درب التبانة. فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أن نجمة مثل بيتلغوسBetelgeuse وهي متوسطة الحجم تزيد 300 مرة في قطرها عن قطر شمسنا وحجمها يزيد عنها بـ 27000000 مرة. ونجمة مثل آنتاريس Antarès يزيد قطرها على قطر الشمس بـ 487 مرة وحجمها يزيد بـ 113000000 على حجم الشمس و 37 مليار مرة عن حجم الأرض. أما نجمة كانوبوس Canopus فهي أكبر مليون مرة من شمسنا المتواضعة ولو قربنا الصورة لذهن القاريء لاستيعاب صيغة المقارنة فإن الأرض بالنسية لنجمة كانوبوس هي كالبرتقالة الموجود على الأرض . فأين هو الإنسان مقارنة بنجمة كانوبوس أو المجرة التي توجد فيها هذه النجمة بجانب أكثر من 200 مليار نجمة أخرى؟ قطر الأرض كما هو معروف 40000 كلم وتبعد عن الشمس بـ 149500000كلم حيث يحتاج ضوء هذه الأخيرة لثمانية دقائق للوصول إلى الأرض بسرعة 300000 كلم في الثانية . بمعنى آخر لو أن مركبة أرضية تسير بسرعة 100 كلم في الساعة فإنها ستحتاج إلى 173 سنة ونصف السنة لقطع تلك المسافة الممتدة بين الأرض والشمس. النجمة الأقرب إلينا بعد الشمس هي آلفا دو سونتور Alpha du Centaure التي تبعد 41100 مليار كلم ويستغرق ضوءها للوصول إلينا 35،4 سنة ضوئية . وبعملية حسابية بسيطة نكتشف أن الضوء يقطع في سنة واحدة وبسرعة 300000 كلم في الثانية 9460 مليار كلم. والحال أن سيريوس Sirius وهي أنصع نجمة في سماءنا تبعد عنا 81100 مليار كلم ويحتاج ضوءها إلى 8 سنوات ضوئية و58 يوم ضوئي للوصول إلينا. ما الغاية من إيراد كل هذه الأرقام والإحصاءات والحسابات الفلكية المذهلة؟ الجواب بسيط وهي أن الإنسان المغرور بنفسه هو أقل من لاشيء بالنسبة لهذا الكون اللامتناهي الأبعاد ومع ذلك يعتقد أن الكون برمته خلق من أجله بما يحتويه من مليارات المليارات من المجرات والنجوم والمجموعات الشمسية بما فيها من كواكب وأقمار وتوابع ، هذا فقط داخل كوننا المرئي الخاضع للحسابات الفيزيائية والرياضية فما بالنا بالعوالم والأكوان الخفية وغير المرئية وهي بعدد لا متناهي لا يمكن لحواسنا وعلومنا وأجهزتنا القياسية، مهما تطورت ، أن تسبر أغوارها وتخترق أسرارها؟ علماً بأن النظريات الكونية الحديثة أثبتت أن الكون المرئي أو الظاهر في حالة تمدد وتوسع مستمر وبسرعة تفوق سرعة الضوء بمليارات المرات وهذا يعني أن للكون بداية ونقطة انطلاق وسوف يكون له غاية أو نهاية قد تكون العودة إلى حالته الأولى أي إلى ماقبل البيغ بونغ BIG BANG أو الانفجار العظيم، وذلك بعد انعكاس الفعل الكوني وحدوث عملية التقلص والانكماش، أي إلى ما قبل الصفر وبدء الزمن الذي نعرفه . على أية حال سيتمخض القرن الواحد والعشرين عن نظرية كونية توحيدية أو موحدة théorie unifiée تجمع كافة النظريات الكونية العلمية التي أفرزها العلم خلال القرون الخمسة المنصرمة، وهي نظرية تامة وكاملة théorie totale et complet تكون قادرة على الإجابة عن جميع التساؤلات وتوقع كافة الاحتمالات والأحداث وتضع نهاية للفيزياء النظرية كما توقع هاوكينغ Hawking بموجب مبدأ الجاذبية أو الثقالة الكبرى supergravité de N=8 .

ولكن ما هي انعكاسات هذا التراكم المعرفي وكثرة النظريات العلمية وتطبيقاتها العملية؟ هناك أصوات ترتفع محذرة من هذا التقدم السريع في العلوم والتكنولوجيا المتطورة التي تفتح الآفاق نحو حضارة كونية ترسم وجه المستقبل البشري رغم تبعاتها الاجتماعية السلبية وما سيترتب عليها من نتائج، ويتساءلون إلى أين يقودنا ذلك؟ أول من طرح هذا التساؤل هو أولئك الذين نقبوا وراقبوا وتوغلوا في أعماق السماء بحثاً عن إشارات أو علامات أو دلائل عن حضارات لا أرضية أو كونية قد يكون بعضها أكثر تقدماً وتطوراً منا من الناحية العلمية، واقصد بهم علماء الفلك والفيزياء الفلكية Les astrophysiciens . فمجرتنا تضم أكثر من 200 مليار نجمة وهناك آلاف المليارات من المجرات في الفضاء الخارجي . وقام البعض منهم في تركيز وتكثيف جهودهم للتوصل إلى تقنيات أو تكنولوجيا وطاقة متطورة جداً على الأرض للحاق بركب التقدم التكنولوجي الذي حققته تلك الحضارات الكونية التي سبقتنا بملايين السنين وصارت تغزوا الفضاء وترحل أو تتجول بسهولة بين مجراته ونجومه وكواكبه. وبتطبيق قوانين الديناميك الحراري thermodynamique وقوانين الطاقة énergie توصل علماء الفلك والكونيات إلى تصنيف الحضارات الكونية إلى ثلاث فئات حسب استخدام كل منها للطاقة ولنوع تلك الطاقة . فقد صنف العالم الروسي نيكولاي كارداشيف Nikolaï Kardashev وعالم الفيزياء من برينستون Princeton و هو فريمان ديسون Freeman Dyson تلك الحضارات بالنوع الأول والثاني والثالث. وبالنظر إلى تنامي استهلاك الطاقة سنوياً فمن البديهي التكهن بنضوب بعض مصادر الطاقة مما يرغم المجتمعات على البحث عن البدائل والانتقال إلى المرحلة الأعلى والأكثر تقدماً لتجاوز النقص في الطاقة.

فالحضارة من النوع الأول هي تلك التي سيطرت على جميع أشكال الطاقة الأرضية . وهي قادرة على تغيير وتبديل المناخ، واستغلال وسبر أغوار المحيطات واستخراج الطاقة من أعمق أعماق الكوكب ومن أي مكان فيه في الجبال والبحار والوديان والسهول والأنهار. وبما أن استهلاكها للطاقة كبير جداً فسوف يتعين عليها استغلال كل الإمكانات والمصادر الكامنة للكوكب برمته في هذا المجال.. إن استغلال وإدارة مصادر الطاقة على هذا المستوى الكوكبي يتطلب درجة عالية من التعاون والتنسيق بين الأفراد والمجتمعات والدول والأنظمة وشبكة اتصالات متطورة جداً وهذا يعني بالضرورة بلوغ السكان مستوى عالي ومتطور ومتنوع من شأنه القضاء على كافة أشكال النزاعات والصراعات والخلافات الدينية والطائفية والعرقية والقومية .

الحضارة من النوع الثاني تعني السيطرة ، ليس فقط على الطاقة على الكوكب، بل وعلى الطاقة المتواجدة في النظام الشمسي المحيط بالكوكب . فدرجة استهلاك الطاقة من الأهمية بمكان أن إمكانات الكوكب ومخزونه غير كافية ويصبح على السكان لزاماً استغلال طاقة شمس المجموعة الشمسية لتشغيل أجهزتها ومعداتها وآلاتها الإنتاجية ومثل هذه الحضارة من النوع الثاني قادرة على إنشاء محطات فلكية ضخمة تدور حول الشمس مثل باقي الكواكب وتعمل على استغلال جميع ما تنتجه الشمس من طاقة وبالتالي بمقدور هذا الصنف من الحضارات الكونية استكشاف مكونات المجموعة الشمسية التي تنتمي إليها بسهولة وبدون معوقات تقنية والقدرة على الاستيطان داخل الكواكب غير المأهولة منها واستعمارها .

أما حضارة النوع الثالث فهي تلك التي استهلكت طاقة المجموعة الشمسية التي تنتمي إليها بما فيها من شمس وكواكب مجاورة وبات عليها التوسع باتجاه حشد النجوم والمجرات الأقرب إليها وتأسيس حضارة كونية Civilisation galactique وبالتالي فهي تحتاج لاستغلال طاقة المجموعات الشمسية التي يمكنها الوصول إليها بفضل تكنولوجيا عالية جداً ومعقدة ومتقنة تمكنها من التنقل بين المجرات كما سبق الإشارة إليها في أفلام الخيال العلمي من قبيل ستار تريك Star Trek وحرب النجوم Star War. فالطاقة هي الأساس المشترك لتلك الأنواع الثلاثة من الحضارات التي إما أن تسيطر على طاقة كوكبها أو طاقة شمسها أو طاقة مجرتها حيث ليس أمامها خيار آخر للحصول على الطاقة.وسوف تبلغ الأرض مستوى الحضارة من النوع الأول خلال قرنين أو ثلاثة أي في القرن الثالث أو الرابع والعشرين وستبلغ الأرض حضارة النوع الثاني خلال أحد عشر قرناً بيد أن بلوغ حضارة النوع الثالث ستحتاج إلى 10000 سنة على الأقل أو أكثر من ذلك وسيعتمد الأمر على إمكانية البشر في السفر بين النجوم والمجرات وذلك بحد ذاته لا يمثل أكثر من رمشة عين على مستوى الكون المرئي برمته.

يتبع




Opinions