ما الذي يجري في العراق ؟ وما السبيل إلى إدراكه ؟
حين عدت قبل أيام من زيارة للعراق, وجدت نفسي عاجزاً عن الإمساك بالقلم والكتابة عن أوضاع وطني الجريح, رغم التباين الصارخ بين منطقة وأخرى, سواء أكان ذلك على صعيد البلاد كلها أم على صعيد بغداد, أم على صعيد كل مدينة من مدن العراق المبتلى. القادم الجديد إلى البلاد يرى أشياء لا يراها بالضرورة المقيم الدائم فيها والغارق في مشكلات البلاد العامة والشخصية اليومية. وحين تتحدث مع القوى والأحزاب والأشخاص ستجد أمامك لوحة معقدة جداً وصعبة التفكيك. فالكل يسعى إلى استثمار الفرصة لتحقيق أقصى ما يريد على حساب الآخر, والكل يريد تعزيز مواقعه على حساب الآخر, والكل يريد, أن أمكن ذلك, إقصاء أو الخلاص من الآخر بكل السبل, والكل يدرك أن هذا غير ممكن وغير جائز, ولكنه لا يفوت الفرصة لممارسة عكس ما يدركه أو الإساءة للآخر. والكل خائب في مسعاه. صورة قاتمة يصاب الإنسان فيها بالدوار حين يتابع عن قرب حركة القوى والأحزاب السياسية والأفراد والناس والأسلاك المتشابكة في وسط الشوارع والغبار المتصاعد من كل مكان.الناس في العراق لم يفقدوا الأمل, ولكنهم يعانون كثيراً, ومسئولية رفع المعاناة تقع على عاتق الحكومة أولاً, وعلى عاتق كل الأحزاب والقوى السياسية ثانيا, وعلى الإنسان العراقي ثالثاً. ولا شك في أن أساليب الولايات المتحدة الأمريكية في عهد بوش الابن في معالجة الوضع تتحمل مسئولية كبيرة في ما وصل إليه العراق بعد سقوط النظام, وهي مشاركة في مسئولة تحسنه أيضاً. ومن باب تحصيل حاصل حين نقول إن كل ذلك هو نتاج التركة الثقيلة والمزرية للنظام الاستبدادي الشوفيني السابق.
لا شك في أن نتائج إيجابية تحققت خلال الفترة الأخيرة, وكان المفروض أن تتواص على مختلف المستويات دون تأزيم الوضع وتوتير العلاقات والأجواء وتشديد الخلافات بين الأطراف المختلفة. إلا أن هذا لم يحصل, بل تواصل الصراع دون تحقيق حلول تساومية ضرورية مطلوبة لمعالجة مشكلات البلاد. إذ حل الغرور والشعور بالنشوة والرغبة في الانفراد وفي تصعيد الخلافات بأمل حلها على خلفية" "إن اشتدت حلت" فحصل العكس. كما أن الطائفية المقيتة لا تزال تمارس بقوة في العراق وفي كل المستويات وبصيغ كثيرة مفضوحة ومستترة, وليس من طرف واحد, بل من كل الأحزاب القائمة على أساس مذهبي تمييزي واضح.
تلقت قوى القاعدة ضربات قاسية وكذا القوى البعثية من أعوان عزة الدوري المنهمكة بالإرهاب, وكذا قوى جيش المهدي المباشرة. ولكن الشعور بالرضى عن النفس في أوساط رئيس الوزراء والحكومة ولدى بعض القوى العسكرية وانتفاخ المستشار الأمني بما تحقق, وفر لهذه القوى المعادية, ومنها قوى القاعدة والبعث وقوى أخرى شريرة, التي دفعت بخلاياها قبل ذاك إلى أخذ قيلولة ضرورية وإيقاف جملة من عملياتها الإرهابية وإعادة ترتيب أوضاعهاً والبدء بتكوين تحالفات جديدة في ما بينها وبدعم مباشر وغير مباشر من أعداء العراق في دول الجوار أولاً, ثم لتبدأ من جديد وبزخم واضح عملياتها لتؤكد للمجتمع العراقي والعالم بأنها :
1. لم تنته بعد, بل هي لا تزال قادرة على متابعة الوضع وجمع المعلومات عن المواقع التي يراد ضربها واختيار الوقت المناسب لها, وإنزال أقسى الضربات بالناس الكادحين وزعزعة الأمن والاستقرار.
2 . وأن الحكومة وقواتها عاجزة عن الوصول إليها أو جمع المعلومات الاستخباراتية عن مواقعها وقواها وعملياتها.
3. وهي تريد تعطيل خروج القوات الأجنبية من العراق ليبقى شعارها الكاذب "أخراج القوات الأجنبية".
4 . وهي تريد أن تؤكد للمجتمع بأن القوات والإدارة الحكومية مخترقة من جانبها ولصالحها.
5 . وهي تريد أن تجرب إشعال الفتنة الطائفية في العراق من جديد, إذ ترى بوضوح أن الطائفية لم تزل تمارس دورها, وستمارس توجيه الضربات لأتباع الديانات الأخرى أيضاً وبقسوة بالغة.
6. وهي تريد استغلال الصراعات والخلافات بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان لخلق أجواء أخرى تستفيد منها لصالح عمليات إجرامية جديدة في مختلف أنحاء العراق.
** يتطلب الأمر أولاً إدراك أن قوى محلية وإقليمية ودولية لا تريد الخير للعراق وتريد إبقاء الإرهاب مستمراً, مهما حاولت القوى العراقية وبسذاجة كبيرة إبداء حسن النية لها ومدحها على قاعدة فاشلة"شيم ألمعيدي وأخذ عباته", إذ أنها تستخدم ذلك لتزيد من رمي الأحطاب في النار المشتعلة وإشاعة عدم الاستقرار.
** ويتطلب الأمر إعادة الثقة المفقودة تماماً بين القوى السياسية العراقية لا من خلال ابتسامة مبطنة ويد مصافحة, في حين تمسك اليد الأخرى بخنجر وتتآمر عبر مناورات بائسة, بل بالصراحة والشفافية والوضوح والحوار والاستعداد للقبول بالآخر وبالمساومة لحل المشكلات.
** ويتطلب الأمر وعي واقع الجماهير والبؤس المتراكم وتصاعد الشكوى من البطالة والحرمان والغنى الفاحش والفساد واللامساواة والتمييز الصارخ والموت غير المنقطع.
إن المنجزات المتحققة, وخاصة الأمنية, يمكن أن تصبح في خبر كان, وقد حذرنا من ذلك مراراً, ما لم تعي القوى الحاكمة والقوى الفاعلة وقوى المجتمع ما يجري في العراق وما يراد له وسبل التعامل مع هذا الواقع وبتجرد نسبي من المصالح الذاتية والكف عن تشديد الصراعات وحل المشكلات بالتفاوض والحوار السلمي الديمقراطي والإدراك بأن ما لا يدرك كله لا يترك جله.
26/4/2009 كاظم حبيب