Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

ما بين الصدق والادعاء *

معروفة هي حقيقة أن السيد المسيح له المجد لم يسع إلى تأسيس كنيسة أو دين جديد، ولم يهدف إلى تشكيل حزب أو فكر آيديولوجي أو ما شابه ذلك، إنما قدم منهجا حياتيا ينسجم وإرادة الله الصالحة في خلقه البشر، منهجا قائما على أساس الخلاص من معاناة الخطيئة والضياع والابتعاد عن الغاية السامية للخلق.

والرسل والتلاميذ الأولون المؤمنون به وبرسالته هم من تبنى هذه الرسالة المتوجة بدلالات القيامة، ليجعلوا منها قاعدة متينة لتأسيس الكنيسة المبنية على هذه القيامة المجيدة، والتي جاء تأسيسها هي الأخرى نابعا من الحاجة إلى إدامة رسالة الخلاص وفق نظام إيماني وطقسي بهيكل واضح، فكانت ولادتها من رحم هذه الحاجة الملحة.. حاجة الإنسان "مجتمعات وشعوب وأمم" إلى الخلاص والعودة إلى طريق الحق.

إذن.. فإن كل مؤسسة بشرية ولكي تحتفظ بمقومات وجودها والتجسيد الحقيقي لطموحات المؤمنين بنهجها.. لا بد أن تأتي ولادتها من رحم القاعدة "الشعب" ومعاناة الناس، فيكون المخاض عسيرا والعطاء وفيرا والأخذ نزيرا وربما الدم غزيرا على صليب القضية.

ومن هذا المنطلق، وإذا نظرنا إلى كنيسة اليوم وتأملنا في نهج الورثة وسيَرهم وسلوكهم، لا بد لنا شئنا أم أبينا أن نقارنه بهذه الحقيقة لكي نحظى بالتقييم الصحيح. فهل هم يسلكون بما تمليه الحاجة والمعاناة، وهل جسدوا فعلا حقيقة أنهم الورثة الشرعيون للرسالة.

هل توقفوا عند تقديم غذاء الروح للمؤمنين ووفقوا في ذلك فكانوا خير خلف لخير سلف، دون أن ينزلق البعض منهم إلى منزلقات لا ينبغي لهم أن يدخلوها كالمال وامتيازات المنصب ودهاليز السياسة.

لا يحق لكم أن تدينوا لكي لا تدانوا، هكذا يقول المخلص.. لكنني كابن، يحق لي أن أسأل وأتلقى الأجابة عن هذه التساؤلات التي هي في الواقع لسان حال كثيرين.

ثم.. ولكي نتحدث في أفـق أوسع، ينسجم وأحدى الغايات التي من أجلها اخترناه اسما لهذه المجلة.. لا بد أن نتبع طرحنا هذا عن المؤسسة الكنسية بالحديث عن المؤسسات العلمانية فندخل في فضاء الهوية الثانية للإنسان المسيحي في عراق اليوم، تلك هي الهوية القومية التي لا مناص ونحن نتحدث بشأنها، حديث متكرر، أن نستهله بالإشارة إلى عديد الفرق والأحزاب والمؤسسات التي تلتقي في الظاهر والقول.. وتختلف في الباطن والفعل، فتضيف إلى الشعب تشتتا فوق تشتت، ولا يتبقى للناس في الحكم على مصداقيتها إلا مدى كونها قد ولدت حقا من رحم المعاناة وحاجة الناس الملحة.

لقد ظهرت في المسيحية، ولا سيما القرون الأولى منها، بدع كثيرة منها ما ولد ميتا ومنها ما استمر فترة قصيرة ثم ما لبث أن اندثر، ومنها ما ترك تأثيرا إلى حين.

فهل ينطبق الأمر أيضا على فعالياتنا القومية التي رغم كل شيء.. ليس من العسير علينا أن نميز بين من هو صادق منها ومن هو مدعي، لكننا نفترض أنها في غالبيتها تسعى للخدمة حقا وتقدم التضحيات من أجل القضية التي تأسست من أجلها، ونرغب أن يقترن هذا الافتراض بما يثبت أنه حقيقة واضحة.

فالصادق من ينبع من وسط الشعب ويحمل قضيته ويقرن القول بالفعل ويقدم التضحيات ويعطي أكثر مما يأخذ ويصنع شيئا على أرض الواقع فيسد حاجة من حاجات الناس دون أن يتوقف عند الشعارات والخطابات فقط.

والشعب يريد تقارب المؤسسات وتوحيد الخطاب لتحقيق تمثيل أفضل وأكثر تأثيرا. وهو اليوم أمام تحديات كبيرة أبرزها وأكثرها إيلاما.. الهجرة التي نختتم بها مطاف هذا العدد. حيث يأتي العنصر البشري في مقدمة أسس وجود كل أمة، فماذا يتبقى بعد أن يتعرض هذا العنصر لاختلال يتمثل بالتناقص التدريجي الذي إذا استمر معدله كما هو اليوم فقد يكون هذا العنصر في طريقه إلى التلاشي بكل أبعاده المادية والمعنوية.

على من يرغب حقا بتخفيف معاناة هذا الشعب والحفاظ على وجوده وهويته.. أن يجتهد أكثر، وعلى من لا يندرج هذا الهدف ضمن مفكرته أن يفسح المجال للآخرين.. وذلك أفضل له من أن يكون عقبة.. أو حجر عثرة.



* افتتاحية العدد الجديد من مجلة الأفق (أوبقا).
Opinions