ما معنى إن قبلتم سأقبل يا مالكي؟
14 تموز 2011بعد التقلب المؤلم لموقف الحكومة بين الرفض الحاسم، والتميع الشديد من توقيع إبقاء قوات الإحتلال أو جزء منها وبين رفض أية تسميات والقبول الفوري الضمني تحت تسميات لا تعني شيئاً، يترك الشعب حائراً أمام الموقف اللامبدئي المؤسف لمن انتخبهم، تماماً مثلما حدث في معاهدة المالكي (الأولى؟) والحيل اللغوية التي استعملت لتمريرها عليه.
الكثير من العبارات الإعتيادية المفهومة في الحياة العامة، تصبح ملتبسة عندما تدخل عالم السياسة الدقيق والعملي، فعندها تأخذ هذه العبارات صيغة مشوشة لها أكثر من معنى محتمل، أو لا معنى لها أحياناً – أي لا يكون لها معنى سياسي، أو نتائج سياسية.
ومن العبارات الملتبسة التي أذكرها وكانت تحوي أكثر من معنى، العبارة التي وردت في رسالة لرئيس الحكومة العراقية نوري المالكي إلى مجلس الأمن في الطلب الأخير لتجديد بقاء القوات التي تعمل تحت مظلتها في العراق، والتي قال فيها "على أن يكون هذا هو التمديد الأخير للقوات". ولم يكن واضحاً هل أن رئيس الوزراء كان يقصد أنه يشترط أن لا يمدد مجلس الأمن بقاء القوات، ام أنه يعد مجلس الأمن أن الحكومة العراقية لن تطلب تمديداً ثانياً؟
في النهاية تبين أن العبارة تخدم الوضع الذي أدى إلى توقيع المعاهدة التي بدأها رئيس الحكومة بتوقيع “مذكرة تفاهم” سرية مع الولايات المتحدة (الإسم اختير لكي لا يكون المالكي مجبراً على استشارة البرلمان، ولدى الأمريكان خبرة طويلة في الإفلات من مسؤولية الكونغرس بهذه الطريقة) ، ووصل إلى الوضع في العراق أنه لدينا جيش أمريكي (تحت مظلة الأمم المتحدة) وأنه "يجب توقيع معاهدة لتنظيم انسحابه" حسب ما قال رئيس الوزراء المالكي حينها، لأن الحكومة قد افهمت الأمم المتحدة أنها لن تطلب تمديداً!
اليوم، وبعد فترة من الكلام الواضح عن رفض التمديد لأي جندي أمريكي بعد 2011 ، يعود السيد المالكي للكلام الغريب غير المفهوم وبعد حديث يتم إلصاقه لصقاً عن الديمقراطية وضرورة التشاور واتخاذ القرار، الخ، يقول بأنه إن اتفقت الكتل على تمديد البقاء فسوف يوافق، او يوقع معاهدة جديدة- لا فرق، لهذا الغرض.
وقد تبدو عبارة رئيس الوزراء هذه مفهومة لو كان يتكلم مع أصدقائه على المستوى الشخصي، أو لو كان الحديث عن مبادئ الديمقراطية والمشاركة الخ، لكن الأمر ليس كذلك. فعبارة "سأوافق إن اتفقت أغلب الكتل" أو إذا وافق 90% أو 80% ، عبارات ليس لها أي معنى سياسي محدد ومعقول في الإطار السياسي الذي قيلت فيه.
لاكتشاف الخلل، تخيلوا جميع الكتل السياسية تجتمع لتقول "سنوافق إن وافقت بقية الكتل" .. ثم ماذا؟ من الذي سيقول أنه "موافق" قبل أن توافق بقية الكتل، على الأقل لكي نرى إن كانت "بقية الكتل" موافقة أم لا..
وطبعاً، "سأوافق إن وافقت بقية الكتل" مساوية وتحتوي ضمناً "وسأرفض إن رفضت بقية الكتل". والآن ماذا سيحدث إن تجرأ أحدهم وقال: "أنا موافق"! ربما نتوقع أن يحدث تسونامي من الموافقات، لكن ذلك التسونامي ليس مبرراً حقاً. فموافقة كتلة واحدة لا تعني أن "بقية الكتل" موافقة. ولكي نوضح الأمر أكثر، تخيلوا أن كتلة، الصدريون مثلاً، قالت: "أنا أرفض". المفروض أنه يحدث تسونامي رفض هنا، إستناداً إلى نفس المنطق. والحقيقة أن الرفض قد يكون هنا أكثر منطقية من القبول في الحالة الأولى لأنه يعني أن الـ 90% او الـ 80% لن تحصل. لكن هذا لم يكن مقصوداً بشكل واضح. رئيس الوزراء لم يعد بدعم الرفض إن وجد أكثر من 20% من الرافضين، أو أية نسبة أخرى.
الم تضجر عزيزي القارئ من هذه اللعبة السخيفة؟ إن كنت قد ضجرت وأحسست بسخفها في مقالة فما بال من يعيشها فعلاً؟ ومن يجد أن مصير بلده يتعلق على مثلها من المراوغات الكلامية التافهة؟
دعنا نصرّ على الفهم ، على الأقل للخطوط العريضة لهذا اللعبة التشويشية المقصودة. الشيء المنطقي الوحيد لتفسير ذلك الكلام هو أن السيد المالكي سوف ينتظر أن توافق أكثرية الكتل قبل أن يعطي صوته..ويتوقع أن يكون القبول أو الرفض بأغلبية ساحقة بحيث لا يؤثر صوته عليها، ليقول : "هم الذين اتخذوا القرار"، فهو لم يتحدث عن موقفه إن تساوت الكتلتان مثلاً أو كان الفرق بينهما بسيطاً، ويكون صوته مؤثراً في النتيجة. إذن نفهم من عبارة رئيس الوزراء أنه يشترط أن يكون الحال بحيث أن صوته لا يؤثر على النتيجة، لكي يعطي رأيه! شرط غريب..لرئيس حكومة!
في خطابه في 11 مايس، تحدث السيد المالكي بإسهاب عن أؤلئك الذين تخلوا عن واجبهم في اتخاذ القرار عندما جاء وقت المناقشة حول توقيع المعاهدة قبل ثلاث أعوام تقريباً، وكيف أنهم كانوا يصارعون على حجم حقوقهم الدستورية واخذ رأيهم وإذا بهم يمتنعون عن تقديم رأيهم عندما حان وقت يتطلب تقديم الرأي والموقف. أليس موقف السيد رئيس الحكومة اليوم نفس موقف من انتقدهم في ذلك الخطاب؟
وبعيداً عن كل هذا، فالعبارة "سأوافق" بحد ذاتها، عبارة مبهمة بحد ذاتها في ذلك السياق السياسي. فهل المقصود بها، "سأقتنع" أم "سأرضخ" لرأي الأغلبية؟
إن كان القصد هو الأول، فهو امر غريب. فقناعات الإنسان لا تأتي من التصويت بالأغلبية. لا أحد ينتظر مثلاً نتيجة تصويت لكي يؤمن بالله أو يكفر به، ولا حتى أن يحب "اللون الأصفر" لذلك السبب.
أما إن كان القصد هو سأرضخ لرأي الأغلبية، لأن الديمقراطية تتطلب ذلك، كما يفهم من المقدمات التي تساق قبل أو بعد تلك العبارة في المناسبات التي تذكر فيها، فهي عبارة عن تصريح لا معنى له، لأن الرضوخ لحكم الأغلبية مسألة مفروغ منها، ولا يمكن لرئيس الوزراء مثلاً أن يعارض ذلك القرار ويعرقله حتى النهاية. يستطيع طبعاً أن يحل الحكومة، فيقوم البرلمان بانتخاب حكومة جديدة، توافق على قرار الأغلبية.
والحقيقة أن رئيس الوزراء ليس وحيداً في خطابه المبهم حول الموضوع، ولا هذه هي المرة الأولى التي يكون فيها الخطاب مبهما من قبل الكثير من سياسي البلد، إن لم يكن معظمهم، بل تتكرر هذه الظاهرة في كل موقف حرج، خاصة عندما يتعلق الأمر بإرادة امريكية، وكل إرادة أمريكية في العراق، أمر حرج. ومصدر الإحراج هو أن موقف الشعب يكاد يكون دائماً بالضد من تلك الإرادة، إلا أن لتلك الإرادة دائماً قدرة غير واضحة الحجم لدى الناس، على ابتزاز ممثلي الشعب والحكومة.
الساسة يتخوفون على انفسهم من القوة الأمريكية وتأثيرها، لكنهم يعلمون ايضاً أن الشعب مخيف إذا أصر على شيء، لذا ينتظرون وينظرون ويراقبون ردود فعل الشعب، وهل هو مصر على الثبات على موقفه أم "بيها مجال"؟
عندما كانت الهبة الشعبية شديدة ضد مشروع الصهيوني بايدن بتقسيم العراق، سارع الساسة إلى اتخاذ موقف الشعب وزايدوا عليه، حتى أؤلئك الذين كانوا يحبذونه، فما دام المشروع واضح الفشل، فلماذا يفضح السياسي نفسه؟ هذا ما يفكر به الكثير من السياسيين (بالتأكيد ليس كلهم) في العراق حالياً. فحتى أياد علاوي يرجو أن يتم القرار حسب رغبة أميركا دون أن يكون قد وسخ يديه به إن أمكن. والأمريكان يريدون أيضاً أن يتم القرار ببقاء قواتهم، لكن الشيء المثالي بالنسبة لهم أن يتم ذلك مع تصويت رجالهم (أياد علاوي ، النجيفي، المطلك.. الخ) ضده إن أمكن، فذلك يسهل تسويقهم فيما بعد ويساعدهم على الإحتفاظ بمؤيديهم الذين يقفون ضد الإحتلال بكل قوة. كما أن ذلك يعني بنفس الوقت أن وساخة توقيع المعاهدة ستصيب خصومهم، وتشتت صفوفهم وتصيب ناخبيهم بخيبة أمل يمكن أن تشل إرادتهم السياسية وتدفع بهم إلى عدم المشاركة في الإنتخابات القادمة، كما أن احتجاجهم على الأمريكان سيكون أضعف بكثير، وأقل مصداقية.
وقبل بضعة سنوات حين تم انتخاب الجعفري، تكرر مثل هذا الوضع. وبقي الساسة ينتظرون من الذي سيقرر الإستجابة للإرادة الأمريكية بشكل حاسم وضد الإرادة الشعبية. ولما لم يتجرأ أحد على ذلك، جاءت كونداليزا رايس فحسمت الأمر، فجاء "تسونامي الموافقات" على إزاحة الجعفري. وكما شكى المالكي في خطاب 11 مايس، تكرر الامر في توقيع المعاهدة، عندما هبط رجالات مافيا بوش على العراق بكثافة، فحسم الأمر لصالحهم أيضاً، وهاهم يهبطون بكثافة غير طبيعية الآن ليشاركوا في المعركة ضد إرادة الشعب العراقي وممثليه الذين يرون فيهم خطراً على البلاد وليس خط دفاع عنها.
نعود إلى ما بدأنا به: كيف كان يجب أن يتحدث رئيس الوزراء ليكون معقولاً ومفهوماً بدلا من "سأوافق إن وافقوا"؟ الطبيعي هو أن يقول كل مسؤول أو برلماني، وبضمنهم السيد رئيس الوزراء، قناعته الشخصية بالرأي الذي يراه يخدم البلاد أكثر، بغض النظر عن رأي الآخرين (الذي لم يعرف أصلاً بعد) وان يدافع عن تلك القناعة ويقدم أسبابها، وأن يعمل على إقناع الآخرين بها، وأن يستخدم ما يتيحه له الدستور من صلاحيات من اجل الدفاع عنها، سواء من خلال التصويت بالنسبة للبرلمانيين، أو من خلال رفض المشروع وقطع الطريق عليه، أو قبوله وعرضه على البرلمان ، بالنسبة لرئيس الحكومة. وقد يرى رئيس الحكومة أن أقلية تقف معه في الرفض أو القبول، ويقرر أن القضية قضية مبدئية، وأنه لا يتحمل المسؤولية التاريخية لمثل ذلك القرار، فيقيل حكومته ويقدم استقالته حسب العرف الدستوري، ليتم تشكيل حكومة جديدة تصوت على القرار من جديد وتوافق عليه وتتحمل مسؤوليته، قبل تقديمه إلى البرلمان - او ترفضه.
هكذا هو الأمر بسيط جداً، إن نسينا الضغوط التي تجعله صعباً، كما هو الحال دائماً مع أي شيء يتعلق بأميركا. فحتى "صداقتها" تبدو إجبارية وبالضغط!
لكن الغرائب لم تنته عند هذا الحد على كل حال. الغريبة الأخرى هي أن البلد يناقش ويجادل وتتبادل كتله السياسية التهم حول قبول أو رفض إتفاقية لم يكتب بعد حتى نص مسودتها الأولى! وهذه الأعجوبة الأخرى ايضاً ليست عسيرة على الفهم إن تفهمنا كيف تجري الأمور عادة مع أميركا. فالعراقيون يعلمون أن "النصوص" لا تعني الكثير في المعاهدات مع أميركا. و"الأسباب الموجبة" أيضاً ليست مهمة و"الوعود" باستفتاء شعبي مثلاً لن يتابعها أحد، لكنها جميعاً تفيد في تمييع الإرادة الشعبية لفرض رؤيتها في الموقف. ففي نص المعاهدة السابقة هناك بند شديد الصراحة يمنع تمديدها. وعلى الأغلب كتب هذا البند لإرضاء أو خداع الشعب الذي تجرعها بمرارة ، فكان لا بد من مساعدته على تحمل تلك المرارة من خلال تلك الألاعيب ومن خلال إعادة تسميتها بشكل يهدئ النفوس: "إتفاقية سحب القوات" ، وتظاهرات تؤيد المعاهدة، تطالب بسحب القوات الأمريكية ، وتصور معارضيها وكأنهم يريدون إبقاء القوات!
البند الخاص بعدم التجديد في تلك المعاهدة جاء بضغط من رئيس الوزراء حسبما فهمت، والذي رفضها في البداية بقوة. قال أنه لن يوقعها لو قطعوا يده. أراد رئيس الوزراء طريقة ليضمن أن المعاهدة لن تمدد، فمن الواضح أنه متأكد بأن القصد من "معاهدة سحب القوات" لم يكن لسحب القوات، بل لإنتظار فرصة أفضل لإبقائها بشكل رسمي، وهو ما يخشى على سمعته منه، خاصة إن بقت القوات بسببها لزمن طويل في العراق. كما يدل تثبيت مثل ذلك النص، بأنها "غير قابلة للتمديد" على عدم الثقة بأن الأمريكان لن يسعوا إلى التمديد بكل الطرق، ومنها الضغط، ويمثل ذلك النص استعداداً مسبقاً لمواجهة ذلك الضغط. لكن ذلك كله لم يكن يكفي كما هو واضح مما يحدث الآن. لقد اعترضنا حين توقعي المعاهدة بأن ما يوضع فيها من نصوص لن يعني الكثير مع دولة مثل الولايات المتحدة، المتخصصة في الضغط والتحوير والتحويل، لأي نص في أية معاهدة، أو حتى تجاهل النص كإجراء أخير، وهاهو التاريخ يثبت صحة ما ذهبنا إليه بوضوح تام.
ونتذكر ايضاً أنه كان هناك نص بإجراء استفتاء شعبي يتيح إلغاءها أو تقصيرها، كما يتيح تقصير فترتها إن ارادت الحكومة.. كل الإجراءات والإحتياطات الممكنة التي تعكس عدم الثقة الشديد بالحكومة الأمريكية والسعي لتجنب الضغط الذي قد تمارسه على الحكومة من أجل التمديد. لكن هنا أيضاً لم يكن ذلك فعالاً، والحقيقة أن أية محاولة جدية لم تتم بشأن ذلك، حتى من معارضي المعاهدة، لأنهم يخشون القدرة الكبيرة على تزوير التصويت كما حدث في الإنتخابات الأخيرة، وحينها سيتاح للولايات المتحدة أن تدعي أن الشعب يريد بقاءها!
مع مرور الوقت خف تركيز الأمريكان و"أصدقاءهم" على تحديد اسباب البقاء بشكل محدد، فيبدو أن أحداً لم يعد تنطلي عليه عبارات "التدريب" و "الفضاء المفتوح" و "البحرية" ، كما خف التركيز على حقيقة أن هناك الكثير من الدول التي فعلت ذلك، لذا يجب أن نفعل مثلها، وسكتت تماماً الأصوات التي كانت تكرر بلا خجل ضرورة إبقاء القوات لكي تحول العراق إلى اليابان وألمانيا، لأنها على ما يبدو أصبحت كلاماً واضح الكذب، ومثير للتوتر والحنق. لذلك يفضل الفريق الأمريكي في الوقت الحاضر الحديث بشكل عام مبهم عن القرار بجانبية "السياسي" من ناحية، و "المهني" من الناحية الأخرى، للإيحاء بأن "الجانب المهني" يطالب ببقاء القوات، وأن من يريد خروجها، لا يفهم في تلك "الضرورات المهنية" وأنه يريد خروجها لأسباب "سياسية" و تأثير "دول الجوار" ففي العراق لا يوجد من لديه شعور وطني، وفي العراق لا يوجد من يدرك الخطر الأمريكي ولا من يعرف تاريخها في أية بلاد لها فيها سلطة على الحكم.
نلاحظ أيضاً أن نفس الذين هللوا للمعاهدة، وأكدوا أنها لـ "سحب القوات" وصبوا اللوم على معارضيها لأن هؤلاء "لا يريدون سحب القوات"، أؤلئك الذين يبدأون خطاباتهم ومقالاتهم بعبارات مثل "ليس هناك عراقي وطني لا يريد خروج الإحتلال"، هم أنفسهم اليوم من يطالب بـ "عدم سحب القوات"، مبرهنين على أنهم كانوا حينها مشاركين في خداع الشعب، وتوريطه في اتفاقية يعلمون أنها ستمدد وتبقى، مهما كان زمنها المحدد ونصوصها الواضحة وأسمها المزيف.
أن نفس الذين يرون اليوم أنهم غير قادرين على تنفيذ الإتفاقية التي سعوا لتوقيعها لسحب القوات مع هذه الدولة العملاقة ، رغم وضوح نصوصها الشديد، يسعون اليوم بلا خجل لتوريط البلاد في معاهدة جديدة، ليلقوا بتلك الورطة الجديدة إلى الأجيال القادمة للعراق، لتكون قيداً إضافياً يقيد حريتهم ويقلل قدرتهم على رفض أو مفاوضة أية إرادة أمريكية – إسرائيلية قادمة تفرض على بلادهم. إن نفس الذين وقعوا الإتفاقية الماضية مقبلون اليوم على توقيع معاهدة تجعل سمعتهم وشرفهم معلقاً بالطريقة التي ستتصرف فيها الولايات المتحدة في البلاد وبشكل ليس لهم أية قدرة على التأثير فيه، ولا نفهم من أين أتتهم الثقة بأن الولايات المتحدة سوف تتصرف في العراق بشكل لا يمرغ شرفهم في الوحول إلى الأبد، وما هو الشيء الذي يجبرهم على تلك المغامرة بذلك الشرف، لمن كان له شرف منهم.
لكن توقيع اتفاقية تمديد قوات لن تكون نهاية البلد أو نهاية إرادة الشعب، رغم أنها ستسبب الكثير من الضرر والآلام والإنشقاق التي سيتحمل مسؤليتها كل من دفع باتجاه توقيع تلك المعاهدة القديمة والقادمة الجديدة. فحتى مصر التي استمر فيها التواجد الأمريكي الإسرائيلي وبأعمق ما يكون في البلاد، استطاعت أن تثور، وأن تقلب الطاولة على عملاء إسرائيل وأميركا، ولا يتساهل الشعب المصري اليوم بأية علاقة مع هاتين الدولتين التين امتصتا ثروته وإنسانيته بشكل مباشر، ولا العملاء الذين تسببوا بها من حثالات الشعب، ولا يخلو شعب من الحثالات. إن الإصرار على بقاء القوات والعلاقة المشبوهة مع الأمريكان تنهي أية آمال بعلاقة طبيعية للأمريكان ولعملائهم في هذا البلد، ويجعل من مسألة طرد آخر فرد منهم، مهمة وطنية عامة، وعداءهم لن يقتصر على "المتطرفين" من العراقيين، ولن تنفع أية أجهزة أعلامية في تصوير الأمر بشكل آخر مزيف، والدليل في مصر التي مازالت تغلي ضد عملائها الذين ستتخلى أميركا عنهم كما فعلت مع من قبلهم.
لقد قال وزير الدفاع الأمريكي المغادر قبل بضعة أسابيع في تعليق له على مسألة بقاء قواته في العراق: "العراقيون لا يحبونا، وذلك هو التحدي". وإذا اتفقنا بأن رأي الشعب هذا لا يمكن تغييره خلال أسابيع أو أشهر، فكيف يمكن فهم تلك العبارة إلا بأنها تعني تحدي الشعب العراقي وإرادته وفرض الإرادة الأمريكية عليه من خلال الضغط والإبتزاز على سياسييه ومن لديه استعداد لبيع ضميره رخيصاً؟ كل الألعاب وكل الحركات البلهوانية اللغوية والسياسية سوف تخمد بعد قليل. وبالرغم من انها قد تنجح في تمرير إتفاقية كريهة أخرى بالرغم من إرادة الناس، لكنها لن تخدم في تسهيل قبول التاريخ لها، وسيبقى العراقيون أجيالاً طويلة يتذكرون موقف كل سياسي وكل فرد من هذه اللحظة التاريخية لبلادهم.