مابين حاجة القارئ ولهفة الكلمة أين نضع القضيه
بإتساع رقعة رواج شبكة الإنترنيت , إنجلت فضاءات وفرص إختلط فيها الحابل بالنابل وبات يباع الأخضر فيها بسعر اليابس , في واحدة من هذه الفرص , يتجبّر مستخدمي الإنترنيت _ هواة الكتابة_على دگم ِ لوحة المفاتيح ( كي بورد) كي يطلق العنان مع لحظة نشوته (لا أتمنى أن أكون واحدا منهم) في أجواء تنقله بعيدا ولا تعيده إلى كرسيّه الدوّار إلا حين يصحو على صوت زحلقة أصبعه الضاغط على ايقونة الإرسال لترى كلماته الرنّانة طريقها إلى قرّاء ومتصفحي المواقع حيث يكرم الكاتب فيها أو يهانــــــ لا سامح الله .إحلال لوحة المفاتيح محلّ القلم ,هي نقلة ًجديرة أن نرى فيها الإيجابية ألتي تتلاشى عندها فوارق مهارة الكتّاب في إظهارشكل الكلمة ورسم حروفها وترتيب سطورها , لكن الأفكاروالطريقة التي يتم فيها عرضها تبقى هي الفارق الحيوي الذي يميز أحدهم عن الاخر .أما عالم المواقع الألكترونيه الهائل فهو بمثابة مكتبة أو دار نشر مشرعة الأبواب والمنافذ على عكس الجريدة ألتي تخضع موادها لمقاييس ماكنة الفئة أو السلطة , ممّا يجعل من مهمّة تقييس الكاتب لأفكاره ومفرداته اللغوية بنفسه تأشيرته النظاميه للظهور على هذه المواقع الأكترونيه ومنها الدخول الى عقول الناس وقلوبهم أو نفرها له.
مهما تباينت مستويات الأقلام, يكون جهد الكاتب في أفضل حالاته مقرونا برغبة جامحة تحثه على جذب القارئ إليه في رحلة أسطر مقاله مع دغدغته بين فقرة وأخرى كي يغور قليلا في ثنايا ما يخفيه وراء كنايات تعابيره وصورها البلاغية من افكار ومواقف, إذن تحديد ديمومة هذه الصحبة من عدمها يتوقف على مدى فلاحِه في كسب وقت القارئ وأسر ِ مشاعره بذكاء, والسبيل إلى ذلك ممكن وله وسائل متعدده, منها جرأة قول كلمة الفصل بحق مستحقيها دون أي تكلّف ٍ حتى وإن ضادده بأفكاره , أو في تصويرحالة تألّق الإنسان المتواضع عندما يبدع وهو في لحظات حرج وضيق بحال السنبله المثقله حين تنحني كلّما هجّت الريح صوبها ,وهكذا ففي صراحة الكلمة وإنصافها للحقيقة في حضرة القارئ , يكون الكاتب قد قلّد المبدع المعذبّ وسامه الذي يليق به من جهة وحملّ المقصرّ وزر ما يستحقه من ملامة وإنتقاد مع قليل من النصيحة من جهة أخرى , بمعنى أنه أفلح في شدّ ألقارئ إليه وتمّكن من لملمة ما بددّته أثقال المظالم من آمال لتعود إلى الروح حياة جديده .
ما ذكرناه أعلاه هو حزمة صغيرة من جملة عوامل تآصير العلاقه ما بين الكاتب وقارئه وبين الإثنين وقضيتهما المشتركه , على إعتبار أنّ القارئ الواعي هو أشبه بالزبون الذي لايجذبه بريق أغلفة البضاعة المدوّره كي نقول لن تخدعه ثقافة (مجرّد لنكتب) ملئ الصفحات ايضا , وهو في بحثه الدؤوب عن كل جديد ينقله إلى ما يليق به في حاضره ومستقبله , مطلوب منه دائما التأكد من جديّة الكاتب في إحترامه لعقول قرّائه المراد سحبهم معه في مركبته وهو شرط لا مناص من توافره ,لكن مثل هذا الشرط لايتسنّى لكل من أمسك بيراعه نافخا بمشروعه الشخصي أو ممّجدا ً بشخص سلطان العشيرة أو في تلميع واجهة حزب العائلة أن يحققه , لقد ثبت أنّ هذا الصنف يستحيل على الناقد إعطاءه رقما إيجابيا في قائمة تصنيف الكتابة والكتبه.
إذن إلإستخدام الجريئ والمتوازن لمفردة الفكره المنعتقه من شرنقة الإنغماس في مديح الأشخاص وتلميع صورة أبن العائلة على حساب مصير ومستقبل الشعب , في حال لو تحقق هذا التحررّ والإنعتاق , يكون الكاتب وبجدارته قد إقتنص فرصة الإمساك السلس بيد القارئ الواعي وأسر ِ عقله كي يصطحبه معه في رحلة تحدّي متصاعد يصل إلى إجتياز تلك الموانع ألتي صَعبَ على الأخرين عبورها أو حتى الدنو ّ منها ,وهذا يذكرّنا بالمفكرين والفلاسفة العظام وكيف تم ّ إحراق كلماتهم بسبب قوّتها وجرأة إطلاقها بعد إلتقاطها من أرحام عامة المعذبيّن , كما مزقت الكثير من كتبهم لمجرّد أنهم حاججوا في صفحاتها تبختر السلاطين ونفاق جلاّسهم.
في مرور سريع على ما تطرحه أقلام إخوة لنا(كلدواشورييونسريان) حين تناولهم عناوين لمواضيع حساسة هي أكبر وأسمى من أن تطالها أفاعيل حب وأحكي وأكره وأحكي(عذرا للقارئ أنا لست كاتبا محترفا, لكنني أقول ما تعلمته), و سلبيّة الحالة ألتي أنا بصددها تؤكدها العديد من المقالات ألتي لو أخضعناها لأبسط فلترة مهنية لفرضت علينا لزوم تبادل الإعتذرات فيما بيننا على الأقل , وهذا فعلا ما نحن بحاجة أليه اليوم قبل غد , لأن عشوائية تهافتنا في بدايته إزدانته علّة محبّة الظهور على حساب مراعاة دافع الكتابة و عن ماذا يجب أن نكتب ومتى يجب أن نكتب؟ و بعد أن يتعرف كل منّا على:: - الحقائق التي طرحناها ؟ وكم زيف كشفناه؟ وكم آفة كافحناها؟وكم هوّة ردمناها,وكم عورة عرّيناها, وكم مبدع أجزيناه, وكم صديق كسبناه, وكم عدو ٍ روّضناه, وكم خطر عن أهلنا منعناه, وكم من جروحه ضمّدناها, وكم ضالّ هديناه ؟ سيكون الإعتذار الأهم والأولى هو للقارئ ألذي حصرناه في زاوية الحيرة أثناء هيجاننا ونحن نقحم أنفسنا على أننّا نحن(الكتّاب) من يقرر مطلقية الصح والخطأ من نسبيته ونحن من ينفي نسبية صحة إلمختلفين معنا ,وإلا بأي وازع مهني او أخلاقي يمتدح ألجالس على كرسيه نفسه وهو يصف تهجمّه المتشنّج وتسقيطه المتعمّد لأبناء جلدته ومؤسساتهم واصفا كل ذلك بالنقد البنّاء بينما الدلائل تجمع على زيف إدعائه حتى في تقمّصه برداء الدفاع عن شعبه ؟
من السهولة بمكان أن يرضي الكاتب أصدقاء له أو أطرافا من عائلته او مناصري حزبه او طائفته ,لكن الفشل سيكون ذريعا متى ما إحتكمنا إلى المعايير الفكرية والإنسانية الحاضرة في تقييم الكتابة , هنا أنا لا أدعّي لزوم حيادية الكاتب فيما يطرحه كي يحقق نجاحافي مهمته , وإلا كيف يتسنى له إدعّاء تحملّه لهموم المجتمع ونحن من جانبنا نحرّم عليه التأشير إلى ما يعكر صفوحياة الإنسان ومنعه من تشخيص الشعارات ألتي لا يلتزم بها أصحابها,هذا يوصلنا بكل بساطة إلى مربط الفرس عبر سؤالنا : لمن يجب أن ينحاز الكاتب؟
في الأعراف الكلاسيكيه و هكذا المعاصره, لم يجمع المفكرون على أنّ لحرية التعبير حق إستباحة فعل أو قول كل ما تمليه عواطف الإنسان العادي ومكاسبه الشخصية عليه , فكيف لنا أن نجيز للكاتب المثقف إستباحتها لنفسه وهو مثقف كما نصفه أو يصف نفسه , خاصة وأنه المؤتمن على القلم الذي نعرّفه بسلاح إنساني تستدعيه أخلاقه إلى تبنّي الوظيفة النبيله في إنماء عقلية القارئ وترويضها على رفض الواقع المريض وكيفية معالجته عبر إزاحة كافة الرواسب التي أنتجت حالة الركود والخنوع .
ثقة الكاتب بنفسه وتحلّيه بفضيلة محبته للناس هي ألزوّادة ألتي تعزز وتغني ما يعتمده من مخزونه المعلوماتي ووسع خياله لتضيف إلى مصداقية طرحه صفة الإبداع الذي لا يحدّه عامل الأنانية ولاتتحكم به إفرازات اللحظة ألتي لا ينتق منها سوى الذي يخدم رغبته ,إذن إنحياز الكاتب لابد أن يكون الى ما يحقق الخير للجميع في تقريب وجهات النظر وليس حالة الإستمالة إلى حيث كفة القوي ألتي تسخرمن عقول الناس التوّاقة للعيش مع المجموع بإعتدال , هذا الإنحيازالحميد هو الذي من شانه أن يبني العمود الفقري الذي يحفظ للمقالة هيبتها وتأثيرها في نظر القارئ ويعكس الصورة الأمينة لكاتبها وأفكاره .
في الإختتام بعديا عن تكرار ما أسلفنا , لنؤكد ثانية وثالثة على أن ذاك الذي يتصور بأن الإبداع والرقي في الشهره يمكن نهله مِن منبع إسترضاء الأقوياء ومحاكاتهم فذلك خداع للنفس يغرق صاحبه و سرعان ما يرتطم بصخرة عودة أصوات الناس بعد تغييبها , ومن يجازف في تسخير طرحه المزركش في النيل من الذي يخالفه بالرأي بتسقيطه وقمعه هو الأخر واهم , لأنّ الأفكار والاقوال السلسة والمعقدة كلها قابلة للأخذ والرد ما دامت تصب في صالح المجموع إلا الفاقدة للأصول والضوابط المعمول بها , وأصوات العامّة هي التي تحكم في النهاية .