ماذا يحدثُ في العالَم العربي..!؟
قال تعالى:(و لا تركنوا إلى الّذين ظلموا فَتَمسّكم النّار و ما لكم من دون الله من أولياء ثُمّ لا تُنصرون)[1]...تشهدُ الأقطارُ العربية منذ فترةٍ مظاهرات و انتفاضات ضدّ الحُكّام الّذين تفرعنوا على شعوبهم و أذاقوهم الويلات و الاضطهاد.
لقد اقتدى الحُكّامُ العرب بأساليبِ الطُّغاة الّذينَ سَبَقُوهُم عَبْرَ التاريخ.
و كأنّ اللهَ تعالى يَعنيهم بقوله :
(كَذّبتْ قبلهم قومُ نوحٍ وعاد وفرعون ذو الأوتاد)[2] .
فالطواغيت الّذين قبلهم من أمثال : (فرعون) و (هامان) و (قارون) و (نَمرود)، كانوا القدوةَ لـ(حُكّامنا) في اضطهاد النّاس.
(إنّ فِرعونَ و هامانَ و جنودهما كانوا خاطئين)[3].
و استخدمَوا نفسَ الإرهاب الجسدي و الفكري و إرهاب الدّولة في قمع الشعوب العربية و الإسلامية.
فكما كان فرعون يقول : [(أنا ربُّكم الأعلى) ..
(و قال فرعونُ يا أيُّها الملأُ ما علمتُ لكم من إلهٍ غيري)[4]..
(قال فِرعونُ ما أُريكم إلاّ ما أرى و ما أهديكم إلاّ سبيل الرّشاد)[5]..
كذلك فعل (صَدّامُ) و (زَينُ العابدين بن عليّ) و (القذافي) و (حُسني مبارك) و (عليّ عبد صالح) و مَن لفّ لفّهم..!
فلم تَعُدْ الشُّعوبُ تتحمّل ظُلْمَ الحاكمين و الأمراء و الرؤساء و استهتارهم.
وإنّ زُمرةً تعيشُ على الجريمة، لا يُنتظرُ لها إلاّ أنْ تغرقَ و تختنق في بُركةِ الدّماء التي أراقتها..!!
و الظُلمُ، معناهُ :
* إعطاء الحقّ إلى غير صاحبه.
* و أنّهُ وضعُ الشيء في غير موضعه الصحيح و اللائق به.
* و معناهُ الاعتداء على القانون الطبيعي للحياة.
* و هو التجاوزُ على ضمير الإنسان و فطرته.
* و هو اعتداءٌ على المجتمع أو الحضارة أو الأفراد.
..و يُعتبرُ الظلمُ من أهم عوامل انحراف و سقوط الحضارات العريقة و القُوى الكُبرى.
إنّ الظلم جرثومةٌ قتّالةٌ مُهلكةٌ، لا يُصيبنا من طرحها و نشرها سوى الفقر و الحرمان و الجهل و التخلّف و القسوة و الخشونة و الإجرام و سفك الدّماء.
يا ظُلمُ.. يا جاني على الأحرارِ تشريداً و نَكدا
أحَسِبتَ أنّكَ مستطيعٌ أنْ تَرُدَّ الحُرَّ عبدا..!؟
يا ظُلمُ..زِدْ تجريحنا حتّى يُثير القدحُ وَقْدا
و الظلمُ على مرّ التاريخ، يُعتبرُ العامل الرئيسي للانحطاط و السقوط و الضياع.
..الظلمُ.. نارٌ ملتهبة لا تعرف الرّحمةَ و الشفقةَ و العقل و العاطفة و الوجدان و الحرية و الفضيلة، بل هي تأخذُ بكُلّ هذا لتُحوّلهُ إلى رَمادٍ و رُكام..!!
يقول تعالى : (و لَقَدْ أهلكنا القُرُونَ مِنْ قَبلِكُمْ لَمّا ظَلَموا و جاءتهم رُسُلُهم بالبَيّناتِ و ما كانوا لِيُؤمنوا كذلكَ نَجزي القَوْمَ المُجرمينَ * ثُمّ جعلناكم خلائفَ في الأرضِ من بعدهم لِننظُرَ كيفَ تعملون)[6].
و قال تعالى : (و كم قَصَمنا من قريةٍ كانتْ ظالمةً و أنشأنا بعدها قوماً آخرين)[7].
و قال تعالى : (و ما كان رَبُّكَ لِيُهلكَ القُرى بظُلمٍ و أهلُها مُصلحون)[8].
و قال تعالى : (و تلكَ القُرى أهلكناهم لمّا ظلموا و جعلنا لمهلكهم موعداً)[9].
و قال تعالى: (و كذلكَ أخذُ رَبّكَ إذا أخذَ القُرى و هي ظالمةٌ إنَّ أخذَهُ أليمٌ شديدٌ)[10].
ما حدثَ في العَالَم العربي، قد يكونُ بداية حقبة جديدة، تنقلهُ من ضفةٍ إلى أُخرى، إذا أحسنَ قائدو التغيير استثمار الفرص التاريخية.
فثوراتُ الشُّعوب لم تكُنْ ضدّ الأنظمة فحسب، بل كانتْ أيضاً ضدّ الأيديولوجيات التي خنقتْ الدُّول و المجتمعات، تارةً باسم محاربة العدو الصهيوني ، أو باسم القومية، أو الدّين، أو الاشتراكية ، أو الماركسية، أو البعث، أو العسكرتاريا المُغلّفة بغطاء مدني أو حزبي أو طائفي أو عشائري.
لقد سقطتْ أنظمةٌ.! و ستسقط معها أيديولوجيات أيضاً، لأنّ المواطن العربي قد حُرِمَ من أبسط حقوقه السياسية و الاجتماعية و الثقافية. و قد قال رسول الله(ص) : (( جُبِلتْ القُلوبُ على حُبّ مَنْ أحسنَ إليها، و بُغض مَنْ أساء إليها)).
أتذكرُ أنني عُلّقتُ في زنزانات الأمن العامة في بغداد، مع التعذيب الشديد، بسبب سماعي لإذاعةٍ (غير إذاعة النظام الصدامي)، و أذاقوني الصعقات الكهربائية لأنني قرأتُ كتاباً حول (عليّ بن أبي طالب)..!!
و سجنوا أبي ـ الّذي جاوز الثمانين ـ لأنّهُ يقول كلمة الحقّ من على منبر الإمام الحسين(ع).!
و اعتقلوا والدتي، بين قبور الموتى.!! لأنّ ولدها ليس (بعثي) ..! و لأنّهُ هرب من كيد الحُكّام الأوباش القَتَلة..!
والمفروض ـ بنظرهم ـ أنْ يستسلم لبطشهم و جبروتهم.!!
سأصرفُ وجهي عن بلادٍ غدا بها لساني معقولاً و قلبي مُقفلا
و إنّ صريح الرأي و القول لامرءٍ إذا بَلَغَتْهُ الشّمسُ أنْ يتحولا
إنّ نظام الطُّغاة ، كان قد أعطى الشعوب العربية {حُقنةَ تخدير}، ليعيش عصر التنازلات من أجل أوهام، أخبروهُ بأنّ أيديولوجيتهم أرقى من مطالبه الشخصية.!!
و أنّ (القائد الضرورة المُنتصر) أفضل من ( المواطن المسكين المهزوم) ..!!
..حَدّثوهُ عن الوحدة و الحُرية و الاشتراكية، و أقنعوهُ بـ(الإعلام الموجّه) و (الإكراه الأمني) و( الحصار الاقتصادي) و (التعذيب الوحشي) ..أنّ كُلّ هذه العناصر مُجسدةٌ في ((القائد))..و ما أدراك ما ((القائد))..؟!
فهو المجدُ و القوّةُ و الرمزُ و العِزّة..!!
هو ـ الأوحد ـ الّذي يؤرقُ مضاجعَ الغرب و الصهيونية و الاستعمار، و يُوقفُ زحف مؤامراتهم..!!
و هو : النظيفُ..العفيف..الشريف..التّقي..النقي..!!
و صارتْ حُريةُ التعبير (خيانةً) ، بنظر الحاكمين.!
و أصبحتْ المطالبةُ بـ(وظيفةٍ) و (راتب) و (مكانة اجتماعية)و (مدارس أفضل) و (قطاعات صحية)و (اقتصاد أقوى) خارج جدولة الأيديولوجية التي يتبنّاها النّظام، و كُلُّ مَنْ يطالب بها فهو(مشبوهٌ) و (خطيرٌ) و (عميل) و (مرتزق) و من(الجرذان) و (الأوبئة)..!!
لقد ولّى زمان التزلّف للطُّغاة.!!
إذا كان سِلماً : أنْ نَعيشَ أذلّةً فإنّا نَرى مَوْتَ الكَرامةِ أسلما
و إنْ كان حرباً: أنْ تُصانَ حُقوقُنا فما أروعَ الهيجا.! و ما أبخسَ الدّما.!
لِنحرزَ إحدى الحُســـــنيين : شهادةً نفوزُ بها، أو أنْ نسودَ و نحكما[11]
كانتْ الشعوب العربية تهتفُ للملك : (( يا مَلِكنا أنتَ حصانْ ، و إحنا على ذيلك ذبّانْ..!!)).
و تهتف للرؤساء : ( بالروح بالدم نفديك يا (هدّامْ..)...!!).
أمّا الآن، فقد اختلف الأمرُ..!
فهي تهتف بكُلّ بُطولةٍ و جُرأةٍ و شَجاعةٍ : ((إرحلْ..إرحلْ يا جبان..!!)).
لقد قَدّمَتْ الجماهيرُ الثائرة في تونس و مصر و ليبيا و اليمن و البحرين و عٌمان و الأردن و المغرب و الجزائر دماءها الزكية، كي يفهم الحاكم أنّ أصواتها العالية و قَبضاتها المرتفعة، إنّما تعني كسر حاجز الخوف لاستعادة حقٍّ مخطوفٍ ، و دَورٍ مُصادَر.
لا يسلمُ الشرفُ الرّفيعُ من الأذى حتّى يُراقَ على جوانبه الدّمُ[12]
لقد أفهمتْ الجماهيرُ العربيةُ الحُكّامَ، بأنّهُم لا يقلّون عنه وطنيةً.! و أنّ كرامتهم التي أُهينتْ، بتهميشهم و إقصائهم و اعتبارهم في حضيرة (الجهل) و ( اللا آدمية) ، قد نَهَضَتْ اليومَ و هي تُمرّغُ أنفَ ظالميها و جلاّديها.!!
إذا الشّعبُ يوماً أرادَ الحياة فلا بدّ أنْ يستجيب القَدَرْ
و لا بُدّ لِلَّيلِ أنْ ينجلي و لابدّ للقيد أنْ ينكسرْ..!!
فلا الأُفقُ يحضنُ ميتَ الطُّيور و لا النّحلُ يلثمُ ميتَ الزّهَرْ
و مَنْ لا يُحبُّ صُعودَ الجِبالِ يَعِشْ أبدَ الدّهرِ بينَ الحُفَرْ[13]
أو كما قال المتنبئ:
و مَنْ تكُنْ العلياءُ، هِمّةَ نَفسِهِ فَكُلُّ الّذي يلقاهُ فيها مُحبّبُ
في هذه الأيّام، نرى كيف صارتْ خطاباتُ الرؤساء الثورية، كاريكاتوريةً ، و محلَ تَندُّر.!
فقد كتبَ بعضُ المواطنين على جدران عاصمته، بدل :( ملك ملوك أفريقيا) و هو لقبٌ اتّخذه طاغيةُ بلاده، كتب : (( قِرْدُ قُرودِ القِردة))..!! مع صورةٍ كاريكاتورية للرئيس"الأُضحوكة"..!!
و نرى، كيف صار الحزب الحاكم، مَسخاً مشوّهاً لأفكارٍ لا محل لها من الإعراب.!
و الأجهزة الأمنية صارتْ في موقع الخائف الذليل، بعدما كانتْ تبطشُ و تقتل و تحكم.!
و (وُعّاظُ السلاطين) ، فرّوا في الجحور ، يختبئون فيها ـ خوفاً و جُبناً ـ كالفئران..!
يقول أحدُ الكُتّاب[14]:
..و ليس أقبح ممّنْ يَضَعوُنَ التّيجانَ على رؤوسهم (لِيُفسدوا فيها) ، إلاّ مَنْ يضعون العمائمَ على رؤوسهم، لِيُفُتوا فيها، و يعيشون تحت أُبط السلطان، يُلمعون مجوهرات تاجِهِ، و يُطهرّون رِجسَهُ بألسنتهم..!
ليس أقبح من خطابات الزُّعماء، إلاّ خُطباء المنابر، و هم يدعون لهم ـ للطُّغاة ـ بطول العُمر، و كثرة الرّزق، حتّى يُرزَقوا من زكواته، و صدقاته، و هداياه، و دولاراته..!!
ليس أقبح من كُلّ قوانين، قرارات الحُكّام و الطُّغاة إلاّ فتاوى كهنة و رُهبان الإسلام، الّذين يُجهزّون فتاواهم حسب الطلب، للحرب فتوى، و للسلم فتوى، و للحُبّ فتوى، و للكراهية فتوى، وللطاعة فتوى، و للتمرد فتوى..!
فقط، اضغطْ الرقمَ المُناسب، لتحصل على فتواك.!
بالأمس، كان القرضاوي يترحمُ على صدّام و ابنيهِ، و اليوم يأمرُ بقتل القذافي.!
بالأمس أصدر ما يُعرَفُ بمجلس العُلماء فتاوى بحُرمة المظاهرات و الإعتصامات، و اليوم يُفتون بالجهاد و قتل الحاكم و الخروج عليه، و كأنّ بقية الملوك و الحُكّام ليسوا مجرمين و قَتَلة، كـ(مُعمّر)..!!
و لكنْ من أجل عين السُّلطان ، يلعنُ ألف غيره..!
ألف عام و يزيدُ، يمارسونَ نفسَ الدّور، و يعيشون بنفس الطريقة، لا فرق إنْ كان خليفةً ، أو والياً، أو حاكماً، أو مَلِكاً، أو رئيس جمهورية، أو عمدة بلد، يَدعُونَ له و يَلعَنُونَ شَعْبَهُ (الفَسَقة) ..(الفَجَرة) ..!! ، الّذين بسبب كُفرهم و فجورهم يُمنعُ القَطرُ من السّماء، و تهتزُّ الجبالُ، و تفيضُ الأرضُ، و تثورُ البراكين..![15]
إنّ مطالبات الشعب العربي قد تمحورتْ حول أمرين:
الأول: حُرية سياسية.
و الثاني: عدالة اجتماعية.
فالنّاسُ يُريدونَ المُشاركةَ الحَقيقيةَ في السُّلطة من جهةٍ، و تحسين مستوى المعيشة من جهةٍ أُخرى.
نحنُ نقول:
لا يكفي أنْ تسقطَ الأنظمة، بل من الضروري أنْ تتوارى الأيديولوجيات خلف المصلحة الحقيقية للوطن و المواطن.
فالنظامُ الجديدُ قد يتماهى مع ما سبقهُ، إنْ لم يعتبر الرئيس و رئيس الحكومة و الوزراء و النواب أنّهم بمعنى ما ((موظفون)) و تحت الحساب لخدمة البلد و أبنائه ، و لفترةٍ محددة، درءاً للمفسدة المطلقة.!
و إنّهم ليسوا التاريخ و الجغرافيا و الدّين..!
بل يمكنُ أنْ يتركوا بصمةً على صفحة التاريخ إنْ هُم تَنَزّهوا عن الشُّبهات و التسلّط و القمع و الاستنفاع و التنقيع، و اعتمدوا سياسةَ تَطويرٍ حَقيقيةٍ في كُلّ المجالات، و انطلقوا في عملهم من قاعدة أساسية اسمها : ((الإنسانُ أولاً))..!! أو ((أنسنة الإنسان)) ، كما يقولون..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] هود:113.
[2] ص:12.
[3] القصص:8.
[4] القصص:38.
[5] غافر:29.
[6] يونس:13 ـ 14.
[7] الأنبياء:11.
[8] هود:117.
[9] الكهف:59.
[10] هود:17.
[11] الأبيات للمرحوم داود العطّار.
[12] الشعرُ للمُتنبئ.
[13] الشعر لأبي قاسم الشابي التونسي، من قصيدته الشهيرة.
[14] و هو جعفر رجب، في صحيفة "الراي" الكويتية : عدد : 2/3/2011م.
[15] إلى هنا انتهى كلام الكاتب" جعفر رجب".