مبارك عليك يا شعب مصر.. وعليك بمبارك!!
قلنا في مقال سابق أن انتفاضة شعب تونس.. لن تتوقف عند حدود تونس، وستنطلق جذوتها إلى دول أخرى مجاورة أو قريبة.. أو إقليمية!!.وذكرنا في المقال المعنون (ثورة الياسمين، اشتعل الفتيل ولن ينطفيء إلى حين).. والمنشور في هذا الموقع ومواقع أخرى الأربعاء الماضي 26 كانون الثاني 2011.. إن انتقالة نوعية وتغيير جذري في التاريخ السياسي والسلطوي والديمقراطي للمنطقة قد انطلق، بعد أن سقط الحاجز النفسي عند الشعب المغلوب على أمره، وزال الخوف من سطوة الدكتاتور.
وتوقعنا أن تتحول الاحتجاجات في مصر، والتي كانت قد انطلقت قبل يوم أو يومين من نشر المقال أعلاه، إلى انتفاضة.. ومن ثم ثورة، وأن تتصدر مصر عناوين الأخبار في الأيام التالية، وهو ما حصل بالفعل.
ومع أن بعض الكتّاب الأكارم، سواءً من الأسماء المعروفة أو المستعارة، حاولوا في مقالات لهم هنا أو هناك التنظير والتذاكي وإدعاء الحذاقة في التحليل السياسي من أن مصر ليست تونس، وأن ما حصل في تونس لن يتكرر في مصر، وإن العقلية العربية كذا وكذا.. وإن القوى الكبرى لن تسمح بأن تؤول الأمور لصالح (الجماعة)!!، لكن الأحداث على أرض الواقع لم تزل تشير إلى أن التغيير يبقى احتمالا كبيرا قائما في مصر أيضا، كما في تونس، دون أن يكون الأمر بالضرورة فرصة (للجماعة) للاستيلاء على السلطة.
دعونا نستعرض التطورات الأخيرة خلال الأيام القليلة الماضية:
ـ إعلان على شاشة الفضائيات مساء الخميس الماضي عن كلمة للرئيس مبارك بعد قليل. لكن هذا القليل امتد لساعات وجاءت الكلمة في مطلع فجر الجمعة 28 كانون الثاني بعد أن تلقى (السيد الريس) التمام العسكري من قادة الجيش في السيطرة على المفاصل المهمة في الدولة.
ولم تكن الكلمة من رئيس جمهورية منتخب بقدر ما كانت من حاكم عسكري وقائد أعلى للقوات المسلحة، ذلك أن ما تضمنته من تهديد ووعيد بالمحافظة على الأمن والنظام وبالتالي.. الكرسي، كان أكبر بكثير من ما تضمنته من ترغيب بشأن تحقيق مطالب الشعب المنتفض.
لا بل أن مبارك لم يلق حتى التحية على الشعب في كلمته هذه فاستهلها كالآتي: (بسم الله الرحمن الرحيم.. الأخوة المواطنون.. أتحدث إليكم في ظرف دقيق...)!!.
ـ أعقبتها بعد دقائق كلمة الرئيس الأميركي باراك أوباما والتي كانت مقتضبة جدا وألقاها وكأنه يقف على حبل مشدود مربوط بين قمتين: الأولى: حقيقة كون النظام الحاكم في مصر من أبرز حلفاء الولاياة المتحدة في المنطقة، وعنصر فعال في واحدة من أكثر قضايا العالم تعقيدا وخطورة.. وتلك هي القضية الفسطينية، والثانية: الاحتقان الكبير الحاصل عند الشعب المصري والمنفجر على شكل انتفاضة لم يكن السيد أوباما في تلك اللحظة قادرا على توقع واستقراء ما ستؤول إليه.. في ضوء مباديء الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تتباهى الولايات المتحدة بحمل لواءها.
وهكذا تحدث أوباما باقتضاب وحرص شديد محاولا انتقاء كلماته بدقة، وتحقيق الموازنة الصعبة لهذه المعادلة العسيرة، وكان ذلك قبل نحو خمسة أيام، وتحديدا فجر الجمعة 28 كانون الثاني 2011.
ـ في هذه الفترة كان خطاب الفضائيات المصرية الموالية للنظام.. تصر على وصف المتظاهرين.. بالشباب، وبطريقة كأنها تريد بها القول إنهم مجموعة من الصبية والفتيان المراهقين.
ـ إن حجب شبكة الإنترنت وقطع خطوط الهاتفي الخليوي عن الشعب وإغلاق مكاتب بعض الفضائيات كان عامل ضعف واضح.. ومؤشر من مؤشرات نهاية القمع وكبت الحريات.
ـ في حينه، وفي ظل هذه التطورات.. توقعتُ كمتابع، وقلتها للعديد من الأصدقاء.. إن مبارك سيعتمد على اللواء عمر سليمان كخطوة أولى لإنقاذ الموقف، لأنه رئيس جهاز المخابرات منذ سنوات، وهو بالتالي مطلع على كافة الشؤون الداخلية والخارجية للدولة، فضلا عن توليه الملف الفلسطيني الإسرائيلي المهم، وكان اعتقادي أنه (السيد الريس) سيكلفه تشكيل الحكومة الجديدة، وقد صدقَ توقعي في محور وخاب في الثاني، فقد اعتمد (الريس) على سليمان، لكن كنائب لرئيس الجمهورية بعد ثلاثين عاما من شغور هذا المنصب.
ـ ومن بين ما توقعته أيضا، وحيث أن الشعب المصري شأنه شأن الشعوب الشرقية، إنما هو شعب عاطفي، فإن النظام الحاكم سيقوم باستغلال هذا الأمر من خلال توظيف بعض نجوم مصر في الفن أو الرياضة لتهدئة الخواطر، ومن أبرز هؤلاء الزعيم عادل إمام.. وقد صاب توقعي هذا وخاب أيضا.. إذا ظهر الزعيم على أكثر من فضائية وأدلى بدلوه في الأمر.. لكنه لم يدافع عن النظام، بل أبدى تضامنه مع الشعب ومطاليبه.
ـ انضمام عدد كبير من القضاة وعلماء الأزهر في مصر إلى التظاهرات الاحتجاجية مؤشر آخر واضح على أن الأمور سائرة إلى التغيير لا محالة.. وإن حكم الرئيس مبارك لم يعد مبارك!!.
ـ تعيين سليمان نائبا للرئيس كان إقرارا بانتهاء فرصة التوريث للنجل الأكبر جمال نهائيا.
ـ إقالة الحكومة وتعيين نائب لرئيس الجمهورية إجراءات لم تكن بمستوى طموح ومطالب الجماهير المنتفضة المستمرة في عدم الاكتراث بحظر التجوال (حظر التجول خطأ لغوي شائع). وكذلك الحال مع إعلان التشكيلة الوزارية الجديدة وخطاب نائب الرئيس بالأمس وما تضمنه من وعود في مقدمتها الحوار مع المعارضة وبحث الإصلاحات، ذلك لأن الأوان قد فات.. وفي ذيلو سبع لفات!!!.
ـ الشعب مُصر على تغيير النظام لا تغيير الوجوه.. والهتاف المحوري للجماهير (الشعب يريد إسقاط النظام)!.
ـ اعتراف رئيس مجلس (الشغب) المصري بالخروقات التي شهدتها (انتحابات) هذا المجلس دليل آخر على ما ستؤول إليه الأمور.
ـ تحليق الطائرات المروحية العسكرية (الهيليكوبتر) في سماء القاهرة فوق رؤوس المتظاهرين قد يكون أمرا يمكن التغاضي عنه، إذ ربما يندرج ضمن إدعاء السلطة توفير الأمن لهم، لكن تحليق الطائرات المقاتلة (الإف 16) في سماء القاهرة نهار الأحد 30 كانون الثاني 2011 واليومين التاليين وعلى ارتفاع منخفض فوق رؤوس حشود المتظاهرين والمعتصمين ولا سيما في ميدان التحرير بالقاهرة، إنما يندرج وفق القوانين والمواثيق الدولية ضمن خانة إرهاب الدولة.
فما المقصود من ذلك؟؟.. هل يريد الحاكم أن يقول للشعب أنني سأقصفكم بالطائرات!!!!.. أم أنه نوع من استعراض العضلات.. المرتخية بفعل تأثيرات الشيخوخة.
ـ وفي تطور لاحق.. الجيش يعلن ما يمكن اعتباره الوقوف على الحياد.. ويقر بمشروعية مطالب الجماهير وحرية التظاهر السلمي، وهو مؤشر ينطوي على معان عديدة قد يكون لها الدور المهم في ما ستؤول إليه الأمور.
ـ راعي المسيحيين الأقباط في مصر، قداسة البابا شنودة.. مؤمن تماما، شأنه شأن معظم الرعاة عندنا في الشرق، أن حكم الأرض مدعوم من السماء!!، وقد أعلن يوم الأحد دعمه للرئيس مبارك!، وقوله له في اتصال هاتفي: (كلنا معك والشعب معك). لا تعليق!!.
ـ تطور واضح في الموقف الأميركي والغربي من الأحداث خلال الساعات الأخيرة: دعوة إلى انتقال سلمي نحو الديمقراطية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة تكون إحدى نتائج ما حدث، اتصالات أوبامية بقادة الدول المجاورة والإقليمية دون الاتصال بالباشا الرئيس، وتصريحات أوروبية تلقي بالكرة في ملعب صاحب الفخامة (خلصت فلوسك سيادة الريس)!!.
ـ قد لا تكون نهاية مبارك بالضرورة مثل نهاية بن علي بالهرب إلى خارج البلاد مع العائلة وما خف وزنه وغلى ثمنه. لكن الواضح إنها النهاية فعلا، وإن عهده انتهى.. ويمكن أن يكون السيناريو بالاستقالة أو التقاعد لأسباب صحية.. وإكمال ما تبقى من مشواره في الحياة في فيللا فخمة بحي فاخر من أحياء القاهرة.. هو والعائلة. وثمة أسماء مرشحة لتولي الفترة الانتقالية: محمد البرادعي، عمرو موسى إذا اختار مغادرة الأمانة العامة لجامعة الدول العربية لتولي المسؤولية في بلده.. وهو أمر قد لا يكون متاحا، عمر سليمان نفسه إذا استطاع كسب ثقة الشعب في كونه لا يمثل بالضرورة رمزا من رموز النظام (السابق).. إنما هو مواطن ومسوؤل نزيه يريد خدمة وطنه وشعبه.
إن ما يقودنا إلى الاهتمام بهذا الشأن (ثورة تونس ومن ثم انتفاضة مصر) إنما هو أمر ينبغي ترسيخه والترويج له، وهو قائم على جملة من الحقائق في مقدمتها إن الله خلق الإنسان حرا وأعطاه من الكرامة الشيء الذي يليق به كأسمى خلائقه، وهو قيمة عليا غنيا كان أو فقيرا، وزيرا كان أم غفيرا، وإن ثقافة الديمقراطية وما تقوم عليه من مباديء احترام كرامة وحقوق الإنسان والشعوب وإرادتها وخياراتها يجب أن تتحقق في التجسيد الحقيقي لكلمة الديمقراطية (حكم الشعب).. ذلك أن عهد الدكتاتورية والقمع والاستبداد ومصادرة الحريات وانتهاك الكرامة الإنسانية وإقامة الدولة البوليسية أمور لم تعد منسجمة ومقبولة مع واقع الحال اليوم، وعصر التكنولوجيا والإنترنت والديجيتل والموبايل والفضائيات والتويتر والفيس بوك والويكيليكس!!!.
وإن تجربة تونس ومصر إنما هي درس يجب الاستفادة منه من قبل جميع الدكاترة (جمع دكتاتور على ما أظن، وأرجو أن لا تكون جمع دكتور)!!.
كتبت هذا المقال في ظهيرة الثلاثاء 1 شباط 2011 فيما تشهد القاهرة تظاهرة نقترب من المليونية، ربما تكون القمة والذروة في الأحداث، وقد يكون لها القول الفصل في ما سيحدث.
إن رحيل مبارك عن الحكم صعب.. وبقائه فيه أصعب، وفي هذه الحالة: لا بد أن تبقى إرادة الشعب هي الحكم.. فينهزم الصعب أمام الأصعب!!.
كلمة أخيرة: بغض النظر عن أي شيء، فإن ثلاثين سنة من الحكم غير الموفق، وشيخوخة وسن تجاوز الثمانين.. وحدهما كافيان بالتنحي، فما بالنا بإرادة الشعب؟!. و لنا بهذا الشأن عودة.. قد تكون يوم الجمعة المقبل!!!!!.