متى خر بت البصرة ...؟
اتصل بي صديق من نيويورك يسألني عن جملة ( بعد خراب البصرة ) التي تتردد في وسائل الاعلام العربية عند الحديث عن احداث البصرة الاخيرة التي اندلعت في نهاية اذار 2008 بعد ان فاجأ رئيس الوزراء نوري المالكي اهاليها والعالم بالزحف اليها لوضع حد لما اعتبره فسادا وتجاوزا على مصالح البلاد والعباد .
قلت لصاحبي : ان جملة بعد خراب البصرة / هي صيغة تطلق على من يقوم بامر ما بعد فوات الاوان وهو مثل عراقي قديم يدل ايضا على القيمة والاهمية التي يعطيها العراقيون للبصرة بالنسبة للعراق ككل .. فهي ثغره الوحيد , وهي عاصمة النفط العراقي واجود انواع التمور وهي مفتاح المستقبل , وهي قبلة العراقيين وموطن حبهم وان لا شيء ذو قيمة بعد خراب البصرة ..!!
قال : ان معنى المثل واضح من السياق والدلالة ، ولكن متى وكيف نشأ هذا المثل وهل خربت البصرة فعلا يوما ما ؟!
اثار هذا السؤال اهتمامي وصرت اسأل من التقيه من العراقيين عن اصل هذا المثل الدراماتيكي فكانوا جميعا يخبروني بمعناه ودلالته ولا احد يعرف اصله التاريخي الذي يعود الى القرن الهجري الثالث وبالتحديد الى سنة 270 هـ ( 883 م ) عند القضاء على حركة الزنج التي قامت في البصرة عام 255 هـ بقيادة الثائر والمتمرد علي بن محمد .وهو رجل طموح ومغامر يكتنف نسبه واصله الغموض بفعل تقلباته الكثيرة والسريعة وحياته التي بدأها شاعرا في بلاط الخليفة في سامراء ..ثم ظهر فجأة في البحرين قائما بحركة ساعيا من ورائها للوصول الى الحكم ، وعندما فشل بالاساليب المدنية ظهر كقائد ديني مدعيا نسبا علويا محاولا ان يستثمر ما للشيعة من عطف وتأييد بين الناس ، ولكن الاراء تختلف عن سبب تركه البحرين ولجؤه الى البادية مستقطبا الاعراب مدعيا انه علوي وان اسمه يحيى بن عمر مكنيا نفسه ابو الحسين ! ووحاول ثانية بانصاره الجدد السيطرة على البحرين لكن محاولته فشلت هذه الرمة ايضا فتوجه هذه المرة الى البصرة !
وكان المجتمع البصري منقسمًا على نفسه، فحاول أن يستغل هذه الخلافات لحركته معتمديا على العبيد الفقراء الذين يعملون في المستنقعات المجاورة والاهوار القريبة ولكنه لسبب ما يؤجل حركته ويسافر الى بغداد وهناك استنبط نسبًا علويًا جديدًا فانتسب إلى أحمد بن عيسى بن زيد، وحاول الوصول إلى السلطة مستغلاً الأوضاع المضطربة في بغداد انذاك ، ولكنه لم يتمكن بسبب سيطرة الاتراك على الاوضاع ، فعاد إلى البصرة في عام 255هـ ليتزعم حركة ثورية مدعيًا أن الله أرسله لتحرير العبيد وإنقاذهم مما كانوا يعانونه من بؤس ، مستغلا فكرة المهدي المنتظر فاستثمرها بذكاء، ضاربا على وتر حساس في نفوذ جماعة العلويين الذين برح بهم الشقاء، فكانوا يأملون في ظهور مهدي منقذ يزيل عنهم الغمة، ويفرج عن أيامهم كربتها، وركز كثيرًا على عراقة أصله وكتبها على نقوده وسمي نفسه "المهدي علي بن محمد" المنقذ . وحارب من أجل العدالة الاجتماعية والمساواة، وتحرير العبيد والمضطهدين من حياة البؤس والفاقة ، كما فعل قبل ذلك بالف سنة تقريبا سبارتاكوس الذي خاض ثورة (سنة 71 ق.م.) ضد سلطة النبلاء في روما لتحرير العبيد وتحقيق العدالة الاجتماعية
وقد خاض سبارتاكوس معارك عنيفة ضد الجيش الروماني حقق في معظمها انتصارات كبيرة ولكنه اندحر في النهاية وسقط في المعركة وتم صلب المئات من العبيد في الساحات العامة
وكما تشابهت نهاية قائدي الثورة في البصرة وروما بقتلهما في سوح المعارك تشابهت المحركات والدوافع بالرغم من الفارق الزمني ( حوالي الف سنة ) والفارق المكاني ( روما- البصرة ) .ولو سردنا بعض محركات حركة الزنج التي يذكر بعضها المؤرخون واصفين الاحوال السيئة الى تحيط بحياة الناس يومها الا نجد لها تشابه بما يشكو منه الناس في ايامنا هذه ، فمن حيث الاسباب السياسية يتحدث المؤرخون عن تردي اوضاع الحكومة المركزية ( الخلافة ) وتصاعد نفوذ الاجانب ( الاتراك انذاك ) والصراع الظاهر والخفي بين المتنافسين على السلظة والمترفين والفاسدين والاثرياء ! ومن الناحية الاقتصادية يذكرون تردي الاوضاع وارتفاع الاسعار وظاهرة التكوين الطبقي داخل المجتمع الإسلامي وظهور طبقة طفيلية استحوذت على معظم الموارد وبلغ التناقض الاجتماعي مداه، مقارنة بنمط حياة العبيد القاسية والسيئة حبث يعملون في تجفيف المستنقعات وإزالة السباخ عن الأراضي، لقاء وجبة طعام متواضعة.
لقد انطلقت حركة الزنج من واقع الألم والاضطهاد الاجتماعي والاقتصادي بين مستنقعات البصرة وسهولها، وكانت بدايتها ناجحة انسجمت فيها أهدافها مع أفعالها لكن النزعة الفوضوية التي طبعتها في مواجهتها مع الخصوم أدت إلى تقلص أبعادها الاجتماعية، مع افتقارها إلى برنامج يصوغ تطلعات وأهداف القائمين بها، ويوضح العلاقة بين القيادة والأتباع، وكان رجالها يستهدفون الانتقام لا الإصلاح، ولم يستطع قائدها أن يحرر ذاته من هاجس الزعامة ، والهيمنة فلم ينجح في كسب قطاعات كبيرة من المجتمع العراقي فأصبح العبيد بمفردهم ضعفاء رغم عددهم الكبير.. ولم يستطع قائدها ان ينظم صفوفه لبناء مجتمع مستقر امام تسارع الأحداث، وتصميم العباسيين على القضاء عليها، فكان من الطبيعي ان تفقد الحركة قدرتها على الاستمرار والبقاء مما دفعها إلى نهايتها المحتومة،
ضمن هذه الاحداث العنيفة والمتلاحقة متى حدث خراب البصرة الذي يستند اليه المثل الشائع عربيا ( بعد خراب البصرة) والذي اصبح الان معروفا عالميا ؟ّ
اليكم اصل الحكاية :
سيطر علي بن محمد على البصرة (255 ـ 270هـ) وامتد نفوذه الى رقعة واسعة تشمل الأهواز ومنطقة ميسان الحالية وذي قار الى حد واسط والمناطق المحيطة بها ، ، وكان شديدا مع اعدائه الى حد التطرف وعامل أسرى الحرب معاملة الرقيق، ووعد أتباعه بأنه سيملكهم المنازل والعبيد، اي تحوليهم من أرقاء إلى ملاك للعبيد. وهذا التناقض يفرغ الحركة من أية صبغة عقائدية، ويجعلها مجرد حركة مسلحة ضد النظام ، كما يجعل من قائدها رجلاً مغامرًا طموحًا إلى السلطة حتى باساليب غير واقعية وغير مقبولة الى حد انه بدأ يهدد بغداد،
هنا شعر الخليفة المعتمد احمد بن المتوكل (256 – 279 هـ ) بخطر حركة الزنج فعهد المعتمد إلى أخيه الموفق طلحة بن المتوكل بمحاربة الزنج ؛ فاصطدم مرارا بهم في عدة واقعات , ولكنه في احدى السنوات وردته اخبار عن تمرد في بلاد فارس فترك الموفق البصرة وتوجه بجيشه الى ايران ، فانتهز علي بن محمد الفرصة واعاد سيطرته الكاملة على البصرة وضواحيها ، واطلق لجماعته من الزنج العنان يستولون على ما يشاءون من املاك ونساء الاثرياء ووجهاء المدينة حتى عم الخراب !
عندها عاد الموفق بجيشه من ايران ودارت معارك عظمى بينه وبين جماعة الزنج انتهت باندحارهم ومقتل زعيمهم علي بن محمد واستسلم من بقى من أتباعه!
يقول السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء ( ولما قتل هذا الخبيث دخلوا برأسه بغداد على رمح وعملت قباب الزينة وضج الناس بالدعاء للموفق ومدحه الشعراء وكان يوما مشهودا ... بالقضاء على حركة الزنج )
وأُسْدِلَ الستار على هذه الحركة التي قضَّت مضاجع الخلافة العباسية، وكلفتها الكثير من الجهد والأموال والأرواح ولكن الناس قالت : نصر بعد خراب البصرة !!
فذهبت مثلا .
=========================== فيصل الياسري