متى نتحرر من لغة الشعارات في العراق؟
jawadbashara@yqhoo.frفي الوقت الذي تستعد القوات الأمريكية للانسحاب من المدن العراقية إلى ثكنات وقواعد أعدت لها سلفاً، استعداداً للرحيل النهائي والشامل في نهاية سنة 2011 بموجب محتويات الاتفاقية الأمنية الموقعة بين الجانبين العراقي والأمريكي، بدأ الإشاعات والتشكيكات وحرب الشعارات تستعر بين الأوساط السياسية العراقية. فالمعسكر الذي كان يتاجر ويزايد بموضوع إخراج قوات الاحتلال من العراق بكل الطرق والوسائل وبأسرع وقت ممكن، صار اليوم يبدي تخوفه من خروج القوات الأمريكية من العراق، والأطراف التي أتهمت بأنها عميلة وموالية للمحتل، هي اليوم التي تحتفل بتحقيق المرحلة الأولى للانسحاب الكلي للقوات الأجنبية من العراق، المتمثلة بانسحاب تلك القوات من المدن العراقية وسحب الملف الأمني منها وعدم السماح لها بالقيام بأي نشاط عسكري بدون إذن أو طلب مسبق من جانب الحكومة العراقية، فهي التي وقعت الاتفاقية الأمنية وهي التي أعلنت هذا اليوم عيداً وطنياً وعطلة رسمية. فرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي يرغب في أن يقترن اسمه، قبل خوضه الانتخابات التشريعية أو البرلمانية القادمة في نهاية عام 2009، بعملية الانسحاب المأمولة واستعادة العراق لسيادته وقراره السياسي والاقتصادي والعسكري والدبلوماسي، حتى لو كان ذلك تدريجياً وبهدوء وبدون استفزاز للأمريكيين وقرع طبول النصر الزائفة، فقرار سحب القوات هو أمريكي بالدرجة الأولى بقدر ما هو قرار عراقي ورغبة عراقية معلنة وصريحة. فالمغامرة الأمريكية في بلاد وادي الرافدين، والتي بدأت في 19 آذار 2003 مع بدء عمليات القصف الجوي، وتكرست بتدفق القوات البرية والدبابات والمدرعات التي احتلت العراق وأسقطت نظام الطاغية المقبور صدام حسين، شارفت اليوم على الانتهاء، وستنتهي تماماً خلال عامين على أقصى حد. هذا لا يعني بالطبع أن العلاقات الخاصة والمتميزة مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي تتمناها كل دول العالم، حتى تلك التي تعلن عداءها لأمريكا عبر الشعارات والصراخ والزعق الإعلامي الفارغ، ستنقطع بين ليلة وضحاها وتعود أمريكا شيطاناً أكبر وعدواً للشعب العراقي والشعوب العربية والإسلامية كما كانت ماكنة الدعاية الصدامية والإسلاموية تردد، على مدى عقود طويلة. خاصة بعد استبدال الإدارة الأمريكية العدائية السابقة بزعامة بوش الابن بإدارة باراك أوباما العقلانية البراغماتية المتفهمة للمعادلات الإستراتيجية القائمة والظروف الدولية المستجدة، والتي تستخدم خطاب تصالحي وتمد اليد حتى لأكثر الخصوم تطرفاً كإيران وكوريا الشمالية وسوريا. الدوائر الإعلامية الغربية تعرف ذلك وتعمل على تحليله وفهم مايدور في الخفاء ووراء الكواليس، خاصة وأنها تعرف أن الغالبية من العراقيين يعتقدون أن وجود القوات الأجنبية في شوارع المدن يشكل مصدر خطر عليهم وعنصر جذب للنشاط الإرهابي الأعمى. وقد سبق لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أن صرح لصحيفة لوموند الفرنسية في 17 حزيران وبثقة كبيرة بالنفس :" لن يتدخل الأمريكيون بعد الأول من تموز بأية معارك ، أو مواجهات عسكرية مع الإرهابيين والعصابات الإجرامية ولن يشاركوا في عمليات حفظ الأمن ، لقد انتهى ذلك العهد". وستنتهي معه بالطبع الدوريات العسكرية الأمريكية في شوارع وأسواق المدن بالقرب من المدنيين الذين يتعرضون لخطر النيران سواء من الجانب الأمريكي أو من جانب الإرهابيين. وكذلك من المفترض أن تتوقف عمليات القصف الجوي للأماكن الآهلة بالسكان ووقف كافة أشكال المداهمات العشوائية، كما نصت على ذلك الاتفاقية الموقعة في نوفمبر 2008 بين بغداد وواشنطن. هذا على الصعيد النظري، أما عملياً فالواقع يوحي بشيء آخر ويقول أن من الممكن، في حالة خروج الأمور عن السيطرة العراقية، اللجوء مرة أخرى للقوات الأمريكية والطلب منها بشن هجمات جوية وعمليات قصف جوي والاستعانة بالمروحيات والسمتيات أو طائرات الهليكوبتر الأمريكية لقمع عمليات التمرد المسلحة أو التجمعات الإرهابية التي تستولي على مدن أو مواقع داخل العراق وتأخذ السكان المدنيين رهائن، وذلك باعتراف عدد من المسؤولين العراقيين من مستوى رفيع كوزير الدفاع العراقي عبد القادر العبيدي والناطق باسم وزارة الدفاع اللواء محمد العسكري، واللواء عبد الكريم خلف، وبعض النواب في البرلمان كعباس البياتي وغيرهم، حيث سيكون هذا الصيف هو الاختبار الحقيقي لقوى الأمن والجيش العراقية لكي تثبت أنها قادرة لوحدها على حفظ الأمن والاستقرار في البلاد وانها مستعدة لذلك. كانت أوامر الرئيس الأمريكي أوباما واضحة وصريحة بخصوص سحب القوات المقاتلة الأمريكية التي لن تغادر العراق إلا بحلول آب 2010 وقوامها حوالي 50000 مقاتل، ومن ثم إبقاء عدد يتراوح بين 35000 و 50000 جندي لأغراض الدعم اللوجستي والتدريب وتأهيل الكادر العراقي العسكري والأمني وذلك لغاية 31 ديسمبر 2011 وهو التاريخ النهائي لخروج آخر جندي أمريكي من العراق، ماعدا بضعة آلاف سيبقون بصفة مستشارين عسكريين وأمنيين في بعض الثكنات والوكالات الأمنية. فإذا كانت المعارك التي شنتها العناصر الإسلاموية السنية المتشددة والمتعصبة أو التكفيرية في غرب العراق ، في الفلوجة والأنبار وغيرها من المواقع، وكبدت الأمريكيين أكثر من 4300 قتيل وأكثر من 30000 جريح، قد انتهت بهزيمة الإرهابيين والتكفيريين وحلفائهم من الصداميين، بفضل التحاق قوات الصحوات بالمعسكر الحكومي، وإذا كانت الحرب الأهلية التي عولت عليها نفس تلك القوى الطائفية القميئة بين المكون الشيعي والمكون السني للشعب العراقي، قد أحبطت ولم تقع، إلا أن الصراعات والتنافسات بين مختلف القوى السياسية المتنوعة بمختلف انتماءاتها، ما تزال قائمة ولها امتدادات عنفية ومظاهر مسلحة، كما شهدت على ذلك العمليات الإرهابية الأخيرة ضد المدنيين الأبرياء العزل للضغط على الحكومة العراقية وتوصيل رسائل لها بلغة التهديد والوعيد بعد انسحاب القوات الأمريكية مهما كان عدد الضحايا الذين سيسقطون جراء تلك العمليات الإرهابية الآثمة والقذرة والجبانة، ووفق نفس التكتيك الذي اتبعته القوى الإرهابية والتكفيرية والصدامية في عامي 2006 و 2007 والقاضي بقتل أكبر عدد ممكن من المدنيين الشيعة في عمليات دموية في أماكن مكتظة بالسكان كالمساجد والأسواق الشعبية، باسم سنة العراق، بغية حث الشيعة على إعادة تشكيل ميليشياتهم المسلحة التي سوف تتعهد بالانتقام من إخوة لهم، أبرياء من أهل السنة، لاسيما في مناطق التواجد المشترك بين السنة والشيعة والعرب والأكراد والتركمان، في بغداد والموصل وديالى وكركوك، حيث رسم أعوان وعملاء القاعدة في العراق هذا السيناريو الجهنمي للنيل من الوحدة العراقية وإجهاض العملية السياسية مستغلين الفراغ الأمني الذي سيتركه انسحاب القوات الأمريكية. فالوضع الأمني لم يستتب كلياً رغم التحسن الملموس الذي تحقق على يد قوات الأمن والشرطة وقوات الجيش العراقية. حتى المسؤولين الأمريكيين يعتقدون بأن التحسن المنجز في العراق على الصعيد الأمني ما يزال هشاً وأن المصالحة الوطنية لم تحقق الخطوات المرجوة منها رغم الادعاءات الحكومية والرسمية والشعارات المرفوعة كما يقول الأمريكيون. لذلك حاول هؤلاء ألأخيرين، وعلى رأسهم نائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، الاتصال ببعض القوى المسلحة والقوى السياسية غير المسلحة المعارضة وبعض أجنحة حزب البعث المنحل المقيمة في سوريا واليمن، لجس النبض ومعرفة مدى استعدادها للانضواء تحت مظلة العملية السياسية الجارية في العراق.
القوى المناوئة للعملية السياسية تتهم الأطراف الحكومية وحليفاتها بتبعيتها لإيران، والسماح لهذه الأخيرة بالتدخل في الشأن العراقي الداخلي بلا رادع ، سيما بعد هيمنة الجناح المتشدد والمحافظ في إيران على مقاليد السلطة كلياً بعد نتائج الانتخابات الرئاسية في إيران وفوز أحمدي نجاد المشكوك فيه، حيث سيكون لذلك الأمر تداعيات عنيفة ومؤثرة على المشهد العراقي بلا ريب. فهناك العديد من القوى والميليشيات المسلحة العراقية الشيعية المنتشرة في جميع أنحاء البلاد، تتلقى الدعم والتسليح والتمويل والتدريب والتوجيه من طهران مباشرة، كما كان الحال و ما يزال مع جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر المقيم في إيران، وهناك علاقات تاريخية تربط بين إيران وقوى سياسية كبرى وفاعلة على المسرح السياسي العراقي كالمجلس الأعلى ومنظمة بدر الحليفة لإيران. وبوسع طهران التدخل مباشرة لبث الفوضى والاضطرابات في العراق عندما يناسبها ذلك وهي قادرة على تأجيج ملفات حساسة كملف كركوك وملف الحقول النفطية المتنازع حولها، وملف المياه، وغير ذلك. كما يمكنها استغلال الحذر والارتياب القائم بين المكون العربي والمكون الكردي في العراق وتعميق الخلافات بينهما بدلاً من المساعدة على حله عن طريق الحوار والتفاهم تحت مبدأ صيانة المصلحة الوطنية العليا للعراق. وقد تأزمت الأوضاع من جديد في الآونة الأخيرة بين السلطة المركزية وحكومة الإقليم خاصة بعد إعلان مشروع دستور كردستان العراق الذي أثار الكثير من اللغط والجدل وردات الفعل المعارضة. ويرتبط كل ذلك بموضوع ترسيم الحدود الإدارية للأقاليم ، وتقاسم الثروة النفطية والعقبات الموجود في طريق إقرار قانون النفط والغاز الجديد وتمريره في البرلمان العراقي الاتحادي، حيث الخلافات العربية الكردية عميقة في هذا الشأن وهناك اختلافات في التفسير الدستوري وفي مدى صلاحيات الأقاليم في إبرام الصفقات حتى بدون علم أو موافقة الحكومة الاتحادية في المركز. فمنذ بداية شهر حزيران 2009 قررت حكومة كردستان تصدير نفط الشمال مباشرة عبر الحدود التركية بالرغم من معارضة بغداد وغضبها واعتبارها العقود المبرمة بين شركات أجنبية وحكومة الإقليم غير شرعية وهذا الوضع أدى إلى شل الإنتاج النفطي ومراوحته في مكانه وعدم القدرة على ترميم وتحسين وتطوير وتوسيع البنى التحتية في هذا القطاع الحيوي الأمر الذي من شأنه زيادة القدرة الإنتاجية للعراق من مليون ونصف المليون برميل في اليوم إلى ستة ملايين برميل يومياً، خاصة وأن الشركات النفطية العالمية تتردد في الاستثمار داخل العراق لاعتبارات أمنية وقانونية ولقلة المردود المالي حيث يرفض العراق الموافقة على عقود المشاركة وهو الأمر الذي لا تعارضه حكومة كردستان، والحال أن العراق يعوم فوق بحيرة من النفط حسب تعبير رئيس الوزراء العراقي في كلمته بمناسبة منح تراخيص الاستغلال النفطي في ثمانية حقول نفطية وغازية كبيرة يوم الثلاثين من حزيران الماضي حيث أبدى رئيس الحكومة العراقية الأستاذ نوري المالكي ثقته بتوافد الشركات الكبرى للاستثمار والعمل في العراق حيث تعيد بغداد فتح أبوابها بعد أن أغلقتها طيلة أكثر من ثلاث عقود منذ تأميم النفط سنة 1972 لأنها تعرف أن العراق يمثل ثالث احتياطي نفطي مثبت في العالم إن لم يكن الثاني بعد العربية السعودية. يبدو أن الشركات النفطية العالمية ترغب باستغلال حاجة العراق للاستثمارات المالية الأجنبية في القطاع النفطي وحاجته كذلك للتكنولوجيا المتطورة لترميم وتحسين وتوسيع الطاقة الانتاجية للبلد وتجديد البنى التحتية النفطية فرفعت من سقف مطالبها ورفضت العروض العراقية المتمثلة بعقود الخدمات وليس عقود المشاركة لأن العراق غير مستعد للتفريط بثروته الوطنية لإشباع نهم وأطماع الشركات الدولية العملاقة المحتكرة للسوق النفطية العالمية، فيما عدا شركتين نفطيتين الأولى بريطانية والثانية صينية وافقتا على العرض العراقي لاستغلال حقول الرميلة التي تمثل 18 مليار برميل احتياطي جاهزة للاستغلال الفوري بينما تماطل الشركات الفرنسية والألمانية والإيطالية وغيرها في حين تحاول روسيا العودة بقوة للسوق العراقية وذلك أمام حذر وريبة الشركات الأمريكية العملاقة المتخصصة في الصناعة النفطية والتي تريد احتكار السوق العراقية مستغلة النفوذ السياسي والعسكري والدبلوماسي الذي تتمتع به الولايات المتحدة في العراق في الوقت الحاضر. كانت الشركة البريطانية قد طالبت بمبلغ 4 دولارات تقريباً على البرميل الواحد كمردود خدمي تقوم به ولم تحصل من العراق سوى على 2 دولار للبرميل الواحد وهذا المبلغ خاضع بدوره لاستقطاعات ضريبية متعددة تفرضها شركة النفط الوطنية العراقية صاحبة الحقول ليبقى في نهاية المطاف دولار واحد لكل برميل مستخرج في المقابل تتعهد شركة النفط البريطانية برفع سقف الإنتاج العراقي من مليون برميل إلى 2،85 مليون برميل في اليوم من الآن ولغاية سنة 2015 . وهناك خمسة حقول نفطية عراقية عملاقة ستتنافس عليها 29 شركة نفطية عالمية. لا تزال الشركات العالمية تضغط وتناور للحصول على عقود مشاركة بينما يصر العراق على تقديم عروض تتعلق بعقود الخدمة مقابل مبالغ محددة وثابتة. كما تتخوف الشركات العالمية النفطية من غياب التشريعات القانونية الحامية لاستثماراتها في العراق وتنتظر التصويت على قانون النفط والغاز وإقراره من قبل البرلمان العراقي لأنها تجد فيه بعض هذه الضمانات المأمولة وهو القانون الذي لا يزال قيد الدرس والمراجعة البرلمانية بالرغم من الضغوط الأمريكية والدولية على إقراره، فلمن ستكون الكلمة الفصل في المشاريع ؟ هل لشركة النفط العراقية الوطنية أم للشركات الدولية المتعاقد معها؟. على الجميع أن يفهم أن العراق يمثل سوقاً واعدة ليس فقط في الإنتاج النفطي بل في جميع المجالات الأخرى خاصة وهو في بداية مرحلة إعادة البناء والتعمير لكل شيء فيه مما يعني سوقاً استهلاكية مربحة لكل الشركات والدول التي تتعاون معه بصدق وإخلاص وعدم استغلال جشع لاحتياجاته الآنية خاصة اعتماده على التكنولوجيا الأجنبية في الوقت الحاضر للنهوض بقدراته الذاتية فيما بعد وتقول التقديرات أن احتياطي العراقي المثبت من النفط يتجاوز بكثير رقم 115 مليار برميل المعلن حالياً. وأنا أنصح شركة توتال الفرنسية بقبول العرض العراقي الحالي كي تفتح في مقابل ذلك للشركات الفرنسية الأخرى في جميع المجالات والتخصصات آفاقاً واعدة وأرباحاً كبيرة ستجنيها من تعاملها مع العراق مستقبلاً ولا تترك السوق العراقي النفطية تستغل من قبل الشركات المنافسة لها فليس بوسع المالكي اليوم أن يقدم أكثر مما قدمه لأنه يراعي مشاعر ومطالب الرأي العام العراقي الذي لن يسامحه على التفريط بثروة بلاده وليس من حق أي شركة مهما كان موقعها وقدراتها أن تفرض شروطاً مسبقة شبه تعجيزية لمشاركة العراق بثروته النفطية فهي ملك للشعب العراقي وحده لايشاركه فيها أحد.