Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

متى يكون الذبح مختلفاً عن القتل بالرصاص؟

17 تشرين الثاني 2010
كتب فراس الغضبان رداً على مقالة لي (1) كنت قد رجوته ثم طالبته فيها بإخبار القراء بمصادر قصة ملفقة وحشية كان قد نشرها حول مجزرة كنيسة سيدة النجاة، لكن رد الغضبان لم يتضمن الجواب عن سؤالي، بل متخذاً موقف الهجوم.

باختصار القضية هي أن فراس الغضبان الحمداني كتب حادثة ملفقة من الفها إلى يائها، خلال ساعات فقط من نهاية المجزرة، حول تفاصيل ما جرى في الكنيسة ووصف عمليات ذبح وفصل رؤوس لأشخاص معينين بالإسم، تبين فيما بعد أنهم قتلوا بالرصاص من خلال الشهود الذين تحدثوا في الإعلام وآخرين تحدثوا لأهلهم ولم يعترض أي شخص من الناجين على تلك الروايات على حد معرفتي. ولأنني أردت الكتابة بالموضوع ولأنني أبحث عن مصادر دائماً لما أكتب، رجوته إعلامي بمصدر قصته، فتجاهل طلبي المتكرر مما أثار الشك لدي بأن القصة مختلقة من أساسها وأنها ربما تم تسريبها من مصدر ذو علاقة بالإرهاب نفسه.

لم يجب الغضبان على السؤال البسيط، لكنه رد بمقالة عنيفة (2). معظم ما جاء في رد الغضبان لا علاقة له بموضوع النقاش، وما كان ذو علاقة، كان في معظمه مغالطات سهلة الدحض، مثل قول الغضبان ما يفهم منه أنه حصل على معلوماته بشكل مستعجل و "من شهود عيان كانوا في حالة شبه إغماء وفقدان للأعصاب والوعي". وعن هذا أقول إن كان هذا صحيحاً فكان عليه أن يشكك بأقوالهم ويتفحصها مع الوقائع ويسأل السلطات مثلاً، او الناجين الأكثر تماسكاً. وهو يعود بعد ذلك ليؤكد أن "اغلب الرهائن الذين كانوا داخل الكنيسة تحدثوا عن حالات الذبح.. الخ" ولو كان هذا صحيحاً لأشار الغضبان إلى واحد من هؤلاء. ويبرر عدم نشر أقوال هؤلاء من قبل الكنيسة "حتى لا تكون سببا كبيرا في رعب المسيحيين العراقيين وهو سببا مقنعا "(كما كتبها) وفي هذه الحالة نستغرب أن يؤكد قناعته بأن مثل تلك الأقوال سوف "تتسبب في رعب كبير للمسيحيين العراقيين" لكنه لا يتردد فينشرها قبل أن يقوم بأية محاولة للتأكد منها!

كتب الغضبان فيما كتبه: "لا فرق عندي إن يكون الذبح بالسيوف والخناجر أو باستخدام الرشاشات المتوسطة المهم إن الرصاص أو السيوف قامت بحصد رؤوس المسيحيين وقتلتهم بعد ترويعهم".

هل كلام الغضبان صحيح؟ وهل أنه لا فرق بين الأثنين؟ قبل أن نجيب عن هذا التساؤل، علينا أن نسأل: من وجهة نظر من؟ فإن كان من وجهة نظر ضحايا الجريمة الإرهابية أنفسهم فأنا مع الغضبان تماماً، في أن الفرق ليس كبيراً، فالموت واحد، رغم أن ذلك لا يبرر استبدال الرصاصات بالخناجر في نقل القصة.

وإن كان السؤال مطروحاً من وجهة نظر ذوي الضحايا، فهناك فرق! هناك فرق واضح في الألم أن تعلم أن أباك قد قتل فوراً برصاصة في رأسه ، على وحشيتها الشديدة، من أن يكون قد ذبح ذبحاً. والفرق نفسه بالنسبة لمن يسمع الخبر من خارج تلك الدائرة. ويعلم الصحفي قبل غيره، أن نشر صور لأناس ذبحوا وفصلت رؤوسهم يستدعي تنبيه الناس قبل أن يفتحوا الملف وينظروا إلى الصور، لما تثيره تلك المشاهد من الم شديد قد يبعث على التقيؤ. ليس الأمر نفسه بالنسبة لصور قتلى بالرصاص.

لقد لفت نظري قبل عدة سنوات، وفي مناقشة على الإنترنت، أن نصوص القرآن المترجمة الى الإنكليزية التي استخدمها محدثي، كانت تستعمل كلمة (slay) لترجمة كل كلمة "قتل" ترد في القرآن بدلاً من (Kill) الأكثر صحة، وحين نبهته إلى ذلك قال أن الفرق ليس مهماً. كلامه صحيح من ناحية النتيجة العملية، لكن الفرق مهم في تخيل الصورة، مهم "سينمائياً".

الكود السينمائية أيضاً لا تسمح بمشاهدة مشاهد العنف ذات الدم والذبح، للأطفال دون سن معينه، لكن القتل بالرصاص يختلف تماماً من هذه الناحية رغم أنه لا يختلف في جريمته ونتائجها، وأركز على عدم التقليل من تلك الجريمة بأي شكل، وأن الحديث هنا فقط عن الطريقة التي يستلم بها المشاهد تلك الجريمة وكيفية تأثيرها النفسي عليه.
في سينما الرعب هناك مقولة معروفة تقول: اللحم والدم يبيع التذاكر، وكلما كان اللحم والدم أكثر كلما بيعت تذاكر أكثر. (3)
فهي حقيقة علمية إذن أن الدم الذي يسيل من الرقبة المقطوعة يثير الرعب أكثر إذن، وكلما ازدادت مشاهد الدم، ازداد الرعب.

وبالنسبة للإرهاب، ولهذا السبب بالذات، فالفرق مهم أيضاً، بل هو مركزي وأساسي. فالإرهاب يعتمد تماماً على مرحلة ما بعد ارتكاب الجريمة. مرحلة نشر الرعب والخوف الذي رافق الجريمة. ما يقرر نجاح الإرهاب من فشله ليس عدد الضحايا، بل هول الجريمة كما يستقبلها الإنسان وعدد من ينقل ذلك الهول. ولا يتورع الإرهابيون انفسهم عن المبالغة بوحشية جريمتهم والحرص على نشر أخبار الجريمة ومبالغاتهم بها، كما حدث مثلاً في مجزرة دير ياسين الفلسطينية. فالإسرائيليون لم يكونوا مهتمين بالقتل بل بنتائجه على سكان بقية القرى بعد العملية، ولنأخذ رسالة إينشتاين عن الموضوع لمجلة نيويورك تايمز 1948 :
"ان ما حدث في قرية دير ياسين العربية مثال على سلوكهم المثير للاشمئزاز. تقع هذه القرية على أحدى الطرق الرئيسية، ومحاطة بأراض يهودية، ولم يكن لها أي دور خلال الحرب، لا بل انها رفضت المحاولات التي قامت بها المجموعات العربية المسلحة لاستخدامها كقاعدة لها. في التاسع من نيسان ( حسب نيويورك تايمس ) قامت العصابات الإرهابية بمهاجمة هذه القرية المسالمة، والتي لم تكن تشكل أي هدف عسكري في القتال، وقتلت الغالبية من السكان، رجال ونساء وأطفال، بلغ عددهم 240 شخص. وقد أبقوا على بعض الأحياء ليتم استعراضهم فيما بعد في شوارع القدس. لقد روع معظم المجتمع اليهودي لهذا العمل، وبعثت الوكالة اليهودية ببرقية اعتذار الى الملك عبد الله، ولي العهد الأردني. لكن الإرهابيون كانوا أبعد من ان يشعروا بالخجل من فعلتهم، بل على العكس انهم يتفاخرون بمجزرتهم، إذ سعوا الى نشر الخبر على نطاق واسع، وقاموا بتنظيم رحلة للمراسلين الأجانب الى دير ياسين ليقفوا بأنفسهم على حجم الدمار."

ويروي الفلسطينيون الذين عايشوا المجزرة أن الإسرائيليين لم يسعوا إلى إخفاء الجريمة أو التقليل منها بل على العكس، أضافوا قصصاً لتزيد من الرعب الناتج عنها، فالرعب هو الناتج النهائي الذي كانت تبغيه العملية كلها وليس القتل. وبالفعل، نجحت الخطة، فسارت الجيوش الإسرائيلية في مناطق القرى العربية بعد ذلك "كما تسير السكين في الزبدة" حسب وصف أحد الإرهابيين. إن مشاهد العنف الأكبر هي التي صنعت الفرق وليس القتل نفسه.
وكذلك فعل الإرهابيون في كنيسة سيدة النجاة، والذين لم يكونوا يريدون القتل لذاته، بل حرصوا على ترك عدد كافِ من الشهود، كما أوضحت في مقالتي السابقة (4) . فكلما كان الشهود أكثر، وكلما كانوا مرعوبين أكثر، كان نشر الإرهاب أسرع وأقوى.

ولبشاعة الجريمة فضل إضافي آخر للإرهاب، فالبشاعة تشل العقل عن التفكير، وتجعله مشغولاً بالإشمئزاز لا يستطيع الوقوف طويلاً عند مشاهد الجريمة ليحللها. لا مكان للأسئلة والتحليل، ومن يطرح الأسئلة سيمكن اتهامه بأنه لم يتأثر بالجريمة بشكل كاف، أو حتى أنه يبحث عن طريقة للدفاع عن الإرهابيين، ويمكن دائماً أن ننهره على "قلة إحساسه" وندعوه إلى "إدانة الجريمة" بدلاً من التفكير في التفاصيل والإنشغال بالتحليل. لذلك فكلما سالت دماء أكثر، أو كلما فهم الناس ذلك من الإعلام، انخفض التفكير وانخفض معه احتمال اكتشاف الحقائق حول تلك الجريمة. التفكير والتمحيص يتطلب التركيز والنظر بهدوء، بينما يحرص الإرهاب الدموي على أن تدفع الناس أبصارها وأفكارها بسرعة، بعيداً عن مشهد الجريمة وحتى تخيلها أو التفكير فيها.

وفي قضية مجزرة الكنيسة كان هناك سبب آخر هام ليكون هناك فرق بين القتل بالرصاص من جهة وذبح الرقاب وفصل الرؤوس من الجهة الأخرى. فقد تم تثبيت صورة الإرهابيين الإسلاميين من خلال افلام يتم عرضها بشكل مستمر في مختلف وسائل الإعلام بشكل محدد، يقوم فيها هؤلاء الإرهابيين بذبح ضحاياهم ذبحاً. وقد كان إرهابيي كنيسة سيدة النجاة واضحي الحرص على تثيبت هوية التطرف الإسلامي على أنفسهم، رغم أنهم قاموا ببعض الأخطاء في ذلك، ، كما ورد في مقالتي. وصورة القتل بالخناجر وفصل الرؤوس كانت الجزء المكمل الضروري لذلك الإرهاب الإسلامي، ومن المحتمل جداً أنه كان في خطتهم القيام بعمليات الذبح فعلاً، لكنهم فشلوا في تنفيذها لسبب ما. فتلك الصورة تذكر فوراً بالإرهاب الإسلامي حتى بدون تعليق، بينما لا تثير صورة القتل برصاصة في الرأس سوى صورة إرهاب المافيا الغربية! ومن هنا فأن الصورتين، الحقيقية من جهة، وصورة الذبح للغضبان، من الجهة الأخرى، تحملان رسالتين مختلفتين بشكل هام بالنسبة إلى المتلقي. يبدو أن من كان وراء تسريب القصة الملفقة وإيصالها إلى الغضبان، يدرك الفرق، وأنه أراد إرسال الرسالة الثانية بالتحديد، محملة بأشد الصور دموية وبشاعةً، ومطابقة للصورة الإعلامية عن الإرهاب الإسلامي، لتحقق تأثيراتها المرجوة.

هذا هو الفرق أيها الغضبان، ومن أجل ذلك الفرق أردنا أن تكشف لنا مصدر قصتك الملفقة لعلها توصلنا إلى شيء. والكرة في ملعبك!


(1) يا فراس الغضبان الحمداني: نريد أن نعرف من اين لك القصة الملفقة عن قطع الرؤوس؟
http://almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=20899

(2) صائب خليل يدافع عن جرائم الإرهابيين في كنيسة النجاة
http://almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=20988
و http://www.qanon302.net/news.php?action=view&id=3225

(3) Flesh and blood sells; more flesh and blood sells better
http://www.imdb.com/title/tt0199528/usercomments

(4) مجزرة "سيدة النجاة": نقاط مريبة http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=20785

Opinions