محاولة لمقاربة اقليم كردستان وسنغافورة
بقراءة عنوان المقال يتبادر الى الذهن تساؤل : لماذا لا احاول مقاربة العراق مع سنغافورة ؟ بدلاً من اقليم كردستان . فأقول : إن بوصلة العراق لا زالت تائهة عن منارة التقدم والتطور ، وإن المواطن العراقي لا زال في داخل اسوار جمهورية الخوف ، وإن وحش الأرهاب ما فتئ يعيش في مخيلتهم ، وإن حملات الحكومة رغم انها حققت بعض النتائج ، لكن كما هو معروف فإن الوحش لا يمكن ترويضه بمداعبته . فالعراق لا زال امامه قطع اشواط كثيرة للوقوف مع المتسابقين والانطلاق في مضمار التقدم بين الأمم ، والمعروف ان للعراق فرص مواتية اكثر من غيره وينتظره مستقبل زاهر ، إذا خرج من حالة اختلاط المفاهيم وضياع المقاييس بين اختيار طريق التصنيع والنهوض والتطور وبين مفاهيم صناعة الشعوذة وترويج الغيبيات والبكائيات وعذابات القبور ومحاربة الرياضة وتحريم الموسيقى وتغييب السينما والفنون ...لهذا سنبقى في كردستان العلمانية التي اختارت البناء والنمو والتطور منارة ترصد بوصلتها وتوجهها نحو الوجهة الصحيحة الخلاقة . بقي ان نعرف لماذا اخذنا سنغافورة كمثال يقتدى به .
بدايات سنغافورة تتحدث عن جزر موبوءة بمرض الملاريا ويسكنها صيادو السمك وقد طغى عليها الفقر بسبب قلة مواردها الطبيعية ، وقد طردت من الأتحاد الماليزي لكونها عالة على هذا الأتحاد .
بدأت سنغافورة كبلد متخلف وأراد رئيس وزرائها ( لي كوان يو ) ان ينتشلها من مستنقعها ، الى روضة البناء والتقدم اراد ان يأخذ بيدها من العالم الثالث الى العالم الأول . وكان الطريق عسير على السلوك ، إذ كيف تنهض ببلد وشعبه يعاني من الأمية والتأخر والقذارة بحيث تقرأ داخل المصعد عبارة ( ممنوع البول في المصعد ) كيف توقض هذا الشعب من سباته لتوصله الى دائرة الأمم المتقدمة ، فحينما استلم لي كوان يو السلطة في عام 1975 وأول اعماله قام ببناء عمارت وشقق سكنية لذوي الدخل المحدود لكن هؤلاء طفقوا يجلبون معهم دجاجهم وأغنامهم الى الطوابق العليا اما اصحاب الشقق في الطوابق السفلى فحولوا شققهم الى محلات بيع السكائر والحلويات والخردوات .
شن رئيس الوزراء حربه الأولى مع القذارة وفرض الغرامات العالية لمرتكبي هذه المخالفات فأصبحت بلاده مضرب للامثال في النظافة وبنفس المستوى شن حملاته على الفساد وعلى الجهل وباتت جامعاتها ودور التعليم اهم المراكز التعليمية في العالم وبعد ذلك كان اتجه نحو البناء والصناعة والأقتصاد فكان تألق سنغافورة اقتصادياً وأحرزت مكانة مرموقة اتغدو واحدة من اهم النمور الأقتصادية في العالم .
نأتي الى تجربة اقليم كردستان الذي يتطلع ويسعى بخطى حثيثة لتحقيق التقدم ، وبينما كان هذا الأقليم يعاني من الفقر والمرض والجهل وكذلك العزلة والتهميش ، فكان وصول صحفي اوروبي من المغامرات الى كردستان العراق من المغامرات المحفوفة بالمخاطر ، ويعتبر ذلك حدثاً مهماً بالنسبة الى كردستان ، والسبب ما كان يفرض على المنطقة من تعتيم اعلامي ، وحصار اقتصادي وأهمال صحي وتربوي .. ناهيك عن جعل الأقليم ساحة مفتوحة للعمليات العسكرية التي تطال حتى القرى النائية .
اليوم يشار الى نموذج اقليم كردستان بالبنان كتجربة رائدة ينبغي دعم التجربة اولاً والعمل على تعميمها على كل اجزاء العراق . لا مراء ان البدايات كانت متواضعة ، لكن الأستقرار الأجتماعي والسياسي الذي خيم على الأقليم ، والذي يعود بشكل رئيسي على النهج العلماني الليبرالي الذي تنهجه حكومة الأقليم ، وبعد ذلك القوانين والضمانات القانونية لرؤوس الأموال المستثمرة هذه الجوانب شكلت القاعدة المتينة في جذب المستثمرين .
يصرح هيرش محرم رئيس هيئة الأستثمار في اقليم كردستان ان حجم الأستثمارت الأجنبية والعربية في الأقليم خلال 18 شهر المنصرمة بلغت 18 مليار دولار ، وإن شركة داماك الإماراتية وحدها قد وقعت عقداً مع حكومة اقليم كردستان لانشاء مدينة سياحية في اربيل ، ولا ريب ان السياحة تعتبر ركناً هاماً لجذب السياح وهي صناعة وطنية مربحة وإن طبيعة كردستان ومناخها وتضاريسها وجبالها الجميلة تعتبر من المناطق السياحية ويمكن ان تحتل مراكز متقدمة في جذب السياح بعد إكمال هذه المشاريع .
إن حكومة اقليم كردستان التي وضعت امامها منهجاً اقتصادياً تنموياً ، وإن تطوير اقليم كردستان يعني تطوير جزء من الوطن العراقي ، وهكذا يكون تطور الأقليم يعني تطور العراق ، ومن هذا المنطلق يسعى رئيس وزرائها الأستاذ نيجرفان بارزاني بالعمل الدؤوب وبمرونة سياسية ملفتة ان يحل كل القضايا العالقة بحكومة المركز في بغداد .
إن وضع المصلحة العليا للوطن العراقي كهدف منشود لكل الفرقاء سيزيد احتمالات الحل لكل القضايا العالقة ومنها مسالة عقود النفط التي ابرمتها حكومة الأقليم مع الشركات الأجنبية ، وأمور اخرى مهمة عالقة وفي مقدمتها قضية كركوك التي كانت بمثابة بركان آيل الى الأنفجار في أية لحظة وما هو مطلوب اليوم هو حل المشكلة بعقلية متفتحة وروح ديمقراطية وتغليب مصلحة الوطن .
إن محاولة التقريب بين اقليم كردستان وسنغافورة ليس بالأمر اليسير فأمام الأقليم طريق طويل ينبغي سلوكه ، فإضافة الى الجانب الأقتصادي وجذب الأستثمار ،والحراك السياسي والدبلوماسي لربط الأقليم عبر قنوات دبلوماسية بالمجتمع الدولي ،فأمام اقليم كردستان جوانب مهمة ينبغي تحقيقها ، منها تعزيز الجبهة الداخلية في تثبيت الأمن والأستقرار وتعزيز الأسس الديمقراطية والتسامح بين المكوناة المجتمعية في الأقليم ، والعمل الدائب على مكافحة الفساد الأداري والمالي ، ومن ثم العمل على تقديم الخدمات الضرورية للمجتمع ، الكهرباء ، البنزين ، والوقود بأنواعه والخدمات الصحية والتربوية .. هذه الأشياء وغيرها تجعل من اقليم كردستان واحة خضراء ومساحة نموذجية بالمنطقة يشار اليها بالبنان ، إن ما يبعث على التفاؤل هو اختيار الأقليم الجادة الصحيحة للنهوض بالأقليم ووضعه مع الركب الأنساني الحضاري ، ليبرهن للعالم ان الأنسان الكردي له رغبة وإرادة للمساهمة الجادة في بناء الحضارة الأنسانية .
بقلم : حبيب تومي / اوسلو
habeebtomi@yahoo.no