محنة رئيس الوزراء العراقي ... ومحنة الشعب به!
يعيش رئيس الوزراء العراقي في المرحلة الراهنة من حياته السياسية محنة كبيرة يمكن رؤية أو تلمس أبعادها منذ الآن, وهي نتاج منطقي لفعل مجموعة من العوامل الذاتية التي تسبب هو بها دون غيره, وبعضها الآخر ناشئ عن عوامل موضوعية مؤثرة لم يستطع تجاوزها فقادته إلى ما هو عليه الآن. وسيصل إلى محطته الأخيرة متناغماً مع القول المعروف " ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع ", وحين يقع أرضاً سوف لن يجد من يساعده على النهوض, عندها لن تقوم له قائمة أخرى في السياسة العراقية لأسباب تكمن في طبيعة شخصيته المعقدة وطبيعة الأوضاع السائدة في العراق. وسوف لن أكون متشفياً به, إذ كنت أتمنى أن يسير في درب آخر, ولهذا سيصح عليه قول "بيدي جرحت أيدي وسموني جريح الأيد". والسؤال الملح الذي يحتاج إلى جواب هو: ما هي العوامل الذاتية والموضوعية التي وضعت رئيس الوزراء في مثل هذه المحنة المتشابكة؟ينحدر المالكي من حزب إسلامي مذهبي يعتمد الطائفية في نهجه ويرفض الديمقراطية في رؤيته الفلسفية ويتبنى الفلسفة الميتافيزيقية والفكر الغيبي. وحين تسلم رئاسة الوزراء من سلفه ورئيس حزبه السابق والمماثل له في الفلسفة والهدف والوجهة الطبيب إبراهيم الجعفري أدرك إلى حد ما الأخطاء التي ارتكبها الجعفري حين فتح الأبواب على مصراعيها لدخول أعداد غفيرة من أعضاء وأعوان المليشيات الطائفية الشيعية المتشددة والمسلحة إلى وزارتي الداخلية والأمن الداخلي وأغرق الوزارات التي كانت بأيدي وزراء شيعة بأعوان الأحزاب الإسلامية الشيعية, وكذا صار الحال في الوزارات السنية حيث امتلأت بالسنة أو الكُردية بالكُرد, ووقعت في فترة حكمه أسوأ التفجيرات الدموية في بغداد وجسر الأعظمية وسامراء وغيرها, ولأنه كان يقدم الخطب الجنجلوتية دون أن يعي ما يريد أن يقوله على نمط خطب ميشيل عفلق المهووسة من حيث بنية الخطاب وتيهه.
وفي ضوء دروس سلفه قرر بعد فترة وجيزة من رئاسته لمجلس الوزراء أن يواجه الميليشيات الطائفة المسلحة والمهيمنة على مناطق مهمة من العراق, التي كانت تضعف دور القوات المسلحة العراقية ودوره في الحكم, بسياسة تحترم للقانون. كما أعلن بعد فترة قصيرة عن رفضه للطائفية السياسية والمحاصصة في الحكم وعن رغبته في اعتماد مبدأ المواطنة في الحياة العامة والذي وجد تعبيره في إعلان تشكيل "دولة القانون" لضمان المسألتين: التصدي للميليشيات التي تتجاوز على القانون واعتماد مبدأ المواطنة. وخطا خطوات واضحة على هذا النهج لفترة غير طويلة وحقق نتائج إيجابية ملموسة على طريق ضمان نسبي أفضل لأمن المواطنات والمواطنين في المناطق الساخنة من العراق وفي انتخابات المحافظات 2009 والانتخابات العامة 2010. ولكن لم يحقق خطوات إيجابية مطلوبة في المجالات السياسية والاقتصادية والخدمية والاجتماعية والثقافية, بل ما زال الشعب يعاني حتى الآن من محن كثيرة وعواقب مؤذية.
بعد انتهاء الانتخابات الأخيرة وحصول المالكي على نسبة مهمة في الانتخابات في مقابل قوة مساوية له أو أكثر قليلاً للقائمة العراقية, تشبث بطريقة بعيدة عن المسؤولية والتواضع بتشكيل الوزارة الجديدة وأبدى استعداداً غريباً على المساومة مع كل القوى التي لم يجد سبباً للتحالف معها قبل ذاك أو من تحالف معها من أجل أن يبقى في السلطة. وهنا يمكن تشخيص إلى بعض مواقع المساومة:
- مساومة صارخة مع التيار الصدري بحيث أصبحت المجموعة مؤثرة بقوة على الحكومة وعليه شخصياً.
- مساومة واضحة مع القائمة العراقية على حساب الدستور والديمقراطية في تشكيل المجلس السياسي بما يؤدي إلى إضعاف البرلمان وهو الضعيف والمشكوك في مصداقيته أمام الناس أساساً, ولكنه نكث بالتعهد الذي تم الاتفاق عليه مع العراقية والتحالف الكردستاني .
- مساومة مع التحالف الكردستاني على مسائل لا يلتزم بتنفيذها, سواء أكان شخصياً لا يريد ذلك, أم تحت ضغوط أخرى, في فترة وجوده على رأس الحكومة مما يزيد من التوتر بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية.
- مساومة مع بعض المرجعيات الدينية التي ترفض الديمقراطية والثقافة الديمقراطية وتسعى إلى وأدها, كما في علاقة نائبه في حزبه الدعوة الإسلامية ووزير التعليم العالي مع الشيخ بشير النجفي في الموقف من التعليم والمرأة والاختلاط بين الجنسين في الجامعات...الخ.
- مساومة مع حزبه بالذات في التشدد في الجانب الديني والابتعاد عن مفهوم المواطنة الحرة والديمقراطية لحساب الهوية الطائفية والدينية التي تتجلى في عدم اعتماد الديمقراطية كفلسفة بل كأداة في وصول حزبه إلى السلطة عبر قائمة دولة القانون وليس قائمة الحزب ذاتها, وفيها الكثير من المخاتلة.
- مساومة وافق معها على قبول تعيين وزراء يعرف أنهم لا يتمتعون بالكفاءة أو أن بعضهم متهم بالفساد, كما جاء في اتهامه الأخير لصولاغ الزبيدي بما يفترض تقديمه للمحاكمة مباشرة إن صح ذلك. ولكن المسؤولية لا تقع على عاتق صولاغ وحده, بل وبالأساس على عاتق رئيس الوزراء المسؤول عن خزينة الدولة, وبالتالي لا ينفع ظهوره على شاشة التلفزيون وتهديده بلجنة تحقيق, بل عليه أن يقدم النتائج للشعب. وعليه أن يتذكر صرخات القوى النظيفة في المجتمع من إن الفساد عام وشامل ولكن بشكل خاص لدى بعض القوى التي تشارك في الحكم وحوله.
- مساومة مكشوفة مع إيران في تشديد الكفاح ضد القوى الديمقراطية والتيار اللبرالي الحر والاستجابة للقوى العراقية المؤيدة لإيران والتي تلتزم بمقلدها (مرشدها) علي خامنئي.
هذه المساومات وغيرها أضعفته في واقع الحال وقادت بدورها إلى عواقب وخيمة, منها:
* تأخر طويل في تشكيل مجلس الوزراء والذي لم يستكمل قوامه حتى هذه اللحظة.
* بروز فراغ سياسي واختلالات في عمل الوزارات وأجهزة الدولة وخاصة الأمنية منها.
* تخلف في وضع وطرح برنامج للتنفيذ بما قاد إلى تفاقم النقمة والتذمر من سياسة المالكي في مجال نقص الخدمات, وخاصة الكهرباء, ومكافحة الفساد والبطالة والفقر, إذ سادت أجواء تساومية غير سليمة على قواعد بائسة مثل "غطيلي وأغطيلك" وداريني وأداريك و"بدربك حبيَّب ونتقاسم سوية" في التعامل مع المال العام.
* العجز عن حماية أتباع الديانات الأخرى في العراق كالمسيحيين والصابئة المندائيين ودور عبادتهم وهجرة الكثير منهم على خارج الوطن تحت ضغط قوى الإرهاب والقوى الطائفية المتشددة, إضافة إلى عدم حل فعلي لمشكلة الكُرد الفيلية التي أصبحت قضية يتلاعب بها ويوعد بها كل الحكام دون فائدة.
* بروز ضعف شديد في ممارسة الحكومة وممارسته لصلاحياتهما في الواقع العملي, فلم تعد له وجهة واضحة فهو حائر بين مدينتي "نعم" و "لا". وهو ما تلمسه المواطن والمواطنة بشكل مباشر. وبسبب هذا الضعف العام الذي رافق عمل رئيس الوزراء توجه, في محاولة يائسة منه, إلى تشديد المركزية في الحكم وحصرها بيديه والسيطرة على الهيئات المستقلة مثل البنك المركزي وهيئة النزاهة..الخ, وأَجبر بطريقة غير ذكية المحكمة العليا على إصدار قرار يناسب رغبته, قاد ذلك إلى صدور احتجاجات دستورية متعاظمة أدت بالتالي إلى تراجع المحكمة عن قرارها ومنحت هذه الهيئات الاستقلالية عن رئيس الوزراء, وهي في جوهرها تعزيز للمحكمة, ولكنها برزت في الوقت نفسه ضعفها أمام الحاكم والسياسي.
* إلا إن الإجراء الأسوأ الذي اتخذه المالكي بسبب تفاقم ضعفه وضعف حكومته وعمق محنته الراهنة برز في الموقف من مظاهرات الشبيبة وفئات الشعب الأخرى التي طالبت بتغيير الأوضاع الراهنة ولم تكن متوجهة صوب إسقاط النظام أو الحكومة الراهنة. فالأساليب التي مارسها تميزت بالتعسف والقمع بمختلف أنواعه ابتداءً من التهم إلى التحريض ضد المتظاهرين ومروراً بتقطيع أوصال المدن لمنع المتظاهرين من الوصول إلى فرض منع التجول وانتهاءً باستخدام خراطيم المياه والعصي الكهربائية والاعتقال والاختطاف والرمي بالرصاص الحي صوب المتظاهرين والقتل والجرح الفعلي للمتظاهرين, إضافة على اعتقال الصحفيين والإساءة لهم وضربهم واحتجاز بعضهم حتى الآن. لقد تميزت إجراءات رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة بالتطير الفعلي وفقدان الأعصاب, وإلا لما استنجد بالمرجعيات الدينية لتحريم المشاركة في المظاهرات الشعبية السلمية التي يمنحها الدستور كحق مشروع للشعب.
* وأخيراً تفاقم تطيره وأصبح يتعامل مع الأمور السياسية بصورة أمنية مشبوهة بحيث أمر بقرار (منه), أي من القائد العام للقوات المسلحة فرض إخلاء الحزب الشيوعي العراقي وحزب الأمة العراقية وجريدة طريق الشعب من البنايات التي يعملون فيها دون غيرها من الأحزاب الدينية التي تحتل عشرات البنايات ولا هو والوزراء وكل كبار المسؤولين الذين يحتلون بيوت الحكومة التي كان يقطنها صدام حسين وطغمته المجرمة خلال 24 ساعة. مما جلب لنفسه لقب "المستبد بأمره" بكل استحقاق!
يدرك رئيس الوزراء أن دول الشرق الأوسط, ومنها الدول العربية بشكل خاص, وكذا إيران, تعيش مخاضاً حقيقياً يمكن أن يخرجها من ظلمات الاستبداد والقهر والحرمان والبطالة والفقر والبؤس والفساد ومصادرة كافة حقوق الإنسان. بعضها حقق نتائج طيبة تبشر بالخير, كما في حالة تونس ومصر, وبعضها الآخر يواجه صعوبات وصراعات دموية كما في ليبيا واليمن, ولكن كلها ستحقق في الغالب الأعم نتائج طيبة لشعوب هذه الدول. وهذه الحقيقة بدأت ترعب رئيس الوزراء العراقي وبقية حكام المنطقة, رغم إن المتظاهرين في العراق قد أعلنوا بوضوح عن أهدافهم التي تتعلق بالحريات العامة التي بدأت تحاصر بشراسة في العراق بأشكال مختلفة, وكذلك المطالب الأساسية التي تمس تعديل الدستور وإصدار قانون الأحزاب وقانون جديد للانتخابات, إضافة وقبل كل شيء إلى معالجة نقص الخدمات التي تعاني منها الجماهير بقسوة بالغة والبطالة والفساد السائدين في البلاد وأوضاع الأرامل والأطفال والمدارس...الخ. إن مواجهة هذه المطالب بالطريقة التي تعامل معها حتى الآن سترفع دون أدنى ريب من سقف مطالب الشعب وتضعه في موقع لا يحسد عليه.
إن صراعاً داخلياً حاداً يعيش فيه رئيس الوزراء ويعاني من وطأته, وهو عاجز كما يبدو لي عن التفكير بهدوء وموضوعية وعقلانية لما ينبغي له أن يتخذه من إجراءات تتسم بالموضوعية والعقلانية والاستجابة الواعية لمطالب الشعب الرافض للسياسات الراهنة, كما إن مستشاريه أبعد ما يكونوا عن تقديم النصح السليم له لما ينبغي له أن يمارسه في هذه المرحلة العصيبة عليه, ولكنها المؤذية للشعب كله.
إن الأوضاع الداخلية التي خلق بعضها بنفسه وتلك التي نشأت بفعل سياساته ومواقفه من جهة, أو سياسات ومواقف القوى المتحالفة معه في الحكومة من جهة أخرى والضغوط الخارجية التي تتجلى في انتفاضات شعوب الدول العربية وبعض دول المنطقة من جهة ثالثة, والضغوط المتعاظمة من جانب الشارع العراقي العادلة والمشروعة من جهة رابعة, عمقت وستعمق أكثر فأكثر, بما لا يقبل الشك, محنة المالكي وأزمته السياسية الراهنة. فهل من طريق له للخروج من محنته الشخصية ولكنها في الوقت نفسه أزمة فعلية يعاني منها العراق؟
إن الطريق الوحيد أمامه هو الاستنجاد بالشعب والاعتماد عليه دون غيره. وهذا يعني الاعتذار له عما بدر منه حتى الآن, ثم الاستجابة السريعة والواضحة لمطالب الشعب العادلة والمشروعة ووفق جدول زمني محدد, ثم التناغم مع مظاهرات الشعب وتأييدها من أجل الضغط على الوزراء والأحزاب الحاكمة للموافقة على ما يريده الشعب من تغييرات جادة وصادقة, وليس كما برز في الاجتماع الأخير لمجلس النواب الذي رفض الكثير من المقترحات المعقولة.
ولكي يتحقق ذلك عليه أن يقتنع بصواب مطالب الشعب أولاً وقبل كل شيء, فهل هو قادر على ذلك؟
الشكوك تحوم بقوة حول قدرته على ذلك, بل يراهن البعض الكثير ويؤكد عجزه عن فهم الواقع الذي يعيش فيه واستيعاب العواقب الوخيمة وإصراره على سلوك درب الصد ما رد في التعامل مع المتظاهرين المحتجين على سياساته. وطائفة أخرى ترى وتعتقد أن رئيس الوزراء غير مؤمن أصلاً بمطالب الناس ويراها منطلقة من مواقع البعث والقاعدة وقوى الإرهاب التي تريد الصيد بالماء العكر! وطائفة ثالثة تريد له أن يرى الأمور بعينين أخريين غير اللتين نظر بهما حتى الآن للأوضاع الجارية في البلاد. إن النتائج لا تظهر بالنوايا الحسنة, بل بالأفعال, وحتى الآن لم نعش أفعالاً حسنة من جناب رئيس الوزراء. فمتى سيحصل ذلك؟ وإلى ذلك الحين ستستمر المظاهرات المطالبة حتى لو عطل المجلس النيابي جلساته وغادر الكثير من أعضائه إلى الأردن ولبنان وبريطانيا وغيرها من الدول.
إن أوضاع المالكي الشخصية الراهنة لا يحسد عليها, ولكنه خلقها بنفسه وليس هناك من يتعاطف معه ما دام لا يريد أن يتحرك صوب الشعب ويفهم مطالبه ويستجيب لإرادته ويحقق مصالحه.
ولا يحق لنا أن نتسامح مع من يوافق على قتل الناس في الشوارع لأنهم تظاهروا أو يأمر باعتقال الصحفيين ويعرضهم للإهانة لأنهم كتبوا ونشروا ما يرضي ضمائرهم الحية والمسؤولة, أو أرسل من يغلق مقرات الحزب الشيوعي وحزب الأمة العراقية وجريدة طريق الشعب لغيظه من مشاركتهم في التظاهرات وتأييدهم لمطالب الشعب العادلة, ولا سحق لنا أن نتسامح مع من يسرق أموال الشعب ثم يكتشف رئيس الوزراء ذلك فجأة وبقدرة قادر!
9/3/2011
كاظم حبيب