Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

مدرسة نصيبين

المقدمة

النـزوع إلى الثقافة قديم في كنيسة المشرق قدم الاصالة الرافدية، لم توقفه الاضطهادات ولم تخنقه الصعاب، ولو انها أخرت وعرقلت المسيرة، وأتلفت الكثير من الإرث الحضاري، ودوافع التوجه الثقافي إيمان بالحكمة وانفتاح على الحق انفتاحاً كونياً. وقد تكرس هذا النزوع الحضاري في تاريخ كنيسة المشرق في تبني الرهبانية حركة ثقافية واضحة والعمل على فتح المدارس قرب الكنائس والاديرة، حتى قيام كليات بل جامعات ومستشفيات مستقلة، أشهرها ولا ريب مدرسة الرها - نصيبين، ثم مدرسة جنديسابور، وثمة مدارس اخرى ذات شأن.
ولا نظننا نغالي ان اطلقنا تسمية جامعة على مدرسة نصيبين، وذلك خلال القرنين الرابع والخامس الميلاديين. فهي من حيث عدد الدارسين يومذاك، ومن حيث الاختصاصات وتنوع المعارف والضبط العلمي، والنظام التدريسي والمناهج تتمتع بكل السمات الاساسية التي تؤهلها لحمل هذا اللقب.


مدرسة نصيبين
في مدينة نصيبين فتحت أول مدرسة في الشرق المسيحي أسسها مار يعقوب النصيبيني الذي كان أسقفاً على المدينة وذلك سنة 309م، ومن الجدير بالذكر ان لمار يعقوب الفضل الأول في انشاء مدرسة نصيبين التاريخية الشهيرة التي طار صيتها وبرز فيها أشهر علماء ومؤلفي طقوس الطوائف السريانية عامة وطقس كنيسة المشرق (الكلدو - أثورية) خاصة.
فكان نبراس الفضيلة والعلم يشع ضوءه منها مدفقاً انواره على آفاق الكون بأسره مدة أجيال عديدة، ومن البارزين فيها مار أفرام السرياني ومار نرسي الملفان، وهما معلمان كبيران، وليس أسقفين، وقد برز من اساتذة وتلاميذ هذه المدرسة ومنذ القرن الخامس الميلادي وما بعده، العديد من كبار ادباء السريانية وعظماء الاشخاص الذين تبأووا أعلى المناصب في كنيسة المشرق. نذكر أشهرهم، فمنهم ايليا برشينايا، عبديشوع الصوباوي، يشوعياب بن ملكون، يهبالاها الثاني، مكيخا الثاني، فقد كانوا أساقفة على نصـيبين ومنهم من أصبحوا جثالقة على كنيسة المشرق.
نظام مدرسة نصيبين
ان مدرسة نصيبين كانت جامعة حقيقية منظمة ومقيدة بقوانين وضوابط، يسوسها رئيس يدعى ربان (رَبَن) أي معلمنا، ويسمى أيضاً (مفَشقًنًا) أي المفسر لأن من أخص وظائفه تفسير الاسفار الالهية، وفي شرحه اياها كان يعتمد على ثيودوروس المصيصي وعلى مار افرام الملفان. فشرح ثيودوروس للكتاب المقدس يسمونه فوٌشًقًا أي التفسير، وشرح مار افرام يدعونه مَشلمًنوٌةًٌا اي التقليد، وإنما سُمي تقليداً لانه يعتقد ان واضعه بالاصل كان مار ادي مؤسس كنيسة الرها ثم انتقل شفاهاً إلى أن دونه مار افرام ومار نرساي في مؤلفاتهما، فالذي دونه مار افرام في مصنفاته كان يدعى مَشلمًنوٌةًٌا دمًري اَفرٍيم أي تقليد مار افرام، واما الذي دونه مار نرساي فيسمونه مَشلمًنوٌةًٌا داِسكوُلٍا أي التقليد المدرسي، ولهذا يطلق كتبة السريان الشرقيين اسم التقليد على تفاسير الكتب المقدسة فقط.
وكان المفسـر في شرحه الكتب الالهية يعلم أيضاً
الفلسفة اضافة للمنطق أحياناً. كما نرى ذلك من التفاسير التي وصلت الينا. ومن بعد المفسر يأتي معلم القراءة والمهجي (مَقريًنًا وَمىَجيًنًا) وترد اسماؤهم مراراً في قوانين المدرسة، وبرحذبشبا يشير إلى ذلك في مقالته اذ يقول عن قيورا: "وهذا كله منوط بالقضية ذاتها أي أن يأخذ بجميع الأعمال منها التفسير والقراءة والتهجي". (وىًنًا كلٍى بليٌل ىْوًا برخمةًٌىُ دَؤبٌوٌةًٌا: اَيكًنًا دىو نٍاخوُد لكٌلٍى سوٌعرنًا دَمفشقًنوٌةًٌا وَدمَقريًنوٌةًٌا ودَمىَجيًنوٌةًٌا). وقال أيضاً عن مار نرساي انه لما اختير ليكون رئيساً لمدرسة الرها قال للتلاميذ : "اجعلوا لكم معلماً للقراءة ومهجياً ما استطعتم الى ذلك سبيلاً". (عًبٌديٌةُوُن مَقريًنًا وَمىَجيًنًا كبَر مًؤٍا انْةُوُن)

ويظهر ان معلم القراءة كان يعلم صناعة النحو، وكان يعلم ايضاً الالحان الكنسية، والمهجئ كان يعلم التهجئة والقراءة الفصيحة للمبتدئين.
اما تدبير امور المدرسة فكان يسند إلى الوكيل ويسمى رَبَيةًا أي رئيس البيت، ووظيفته كانت استلام ايرادات المدرسة والانفاق عليها، اضافة إلى جمع الصدقات للتلاميذ الفقراء.
وكان يوجد في المدرسة ايضاً سفرًا اي الكاتب واَخٍّا يٌديٌعٍّا وَقذيٌخٍا وبًٌدوُقٍّا. (الأخوة المعروفون والمشهورون) فالكاتب كان يعلم التلاميذ الخط، أو كان كاتباً للوكيل ومساعداً له. أما الأخوة المعروفون والمفتشون فلست أعلم بالحقيقة ماذا كانت وظيفتهم، ولعلهم كهنة، أو علماء في المدرسة وكانت درجتهم أو وظيفتهم أعلى من التلاميذ الاخرين، فكان الرئيس والوكيل لا يعملان شيئاً مهماً دون مشورتهم.
هذا ما يخص المعلمين والدروس، وأما التلاميذ وتسميهم القوانين اخوة فكان يجب عليهم أن يلتمسوا الدخول في المدرسة من الوكيل ومن الاخوة الخاصة وان يكون لهم معرفة في القوانين، وكان عليهم أن يحفظوا البتولية ويسيروا سيرة صالحة لا عيب فيها، أي أنهم كانوا ملزمين مدة اقامتهم في المدرسة أن يعيشوا عيشة لا تختلف كثيراً عن عيشة الرهبان.
وكان لهم زي خاص يفرقهم عن غيرهم. وأما شعر رؤوسهم فلم يكن يؤذن لهم أن يحلقوه ولا ان يخصّلوه مثلما كان يفعل أهل العالم، بل كانوا يحلقون فقط قمة رأسهم فتصير على رؤوسهم دائرة كأنها أكليل.
وكل مساء بعد تلاوة المزامير كان كل واحد منهم يذهب إلى قلايته، وصباحاً عند صياح الديك كان على الجميع ان يأتوا إلى غرفة الدرس فيلزم كل منهم مكانه حتى المساء. وكانوا يجلسون صفيّن، فيصطف الكهنة وراء الذين لم يكونوا حائزين على هذه الدرجة. وكل من كان ينقطع عن الدرس والكتابة ولا يحضر ساعة التدريس والالحان الطقسية كان رؤساء القلالي (رٍشَي قِلًيًّةًٌا) يوبخونه توبيخاً شديداً. وان لم يسمع منهم يقاصصه الوكيل. وكانوا ملزمين أيضاً ان يحضروا فرض الموتى والاحتفالات الكنسية. وكل من ينقطع دون سبب كافٍ يوبخ جهاراً قدام كل أعضاء الجمعية.
ولم يكن يؤذن للتلاميذ الجدد ان يسكنوا وحدهم أو مع واحد آخر في القلالي بل مع التلاميذ جملة. وكانت السكنى في المدينة، أو في محل آخر ممنوعة عليهم اللهم إلا إذا لم يبق مكان في المدرسة. ولكل قلاية رئيس تجب له الطاعة يسمى (رٍش قِلًيةًٌا) أي رئيس القلاية. والذين يسكنون قلاية واحدة كانوا يتناولون الطعام سوية وفي القلاية نفسها. فكان ممنوعاً عليهم تناول الطعام في الجنائن، والبساتين، والحضور في المآدب والولائم في المدينة وزيارة أديرة الراهبات، وإذا مرض أحدهم كان الاخرون يقومون بخدمته.
ان التلاميذ كانت لهم سلطة على أموالهم، وذلك لانهم كانوا مجبرين ان يتكلفوا أسباب معيشتهم، فمن كان يريد منهم ان يُقرض ما كان يتوفر له من المال لم يكن يؤذن له أن يأخذ فائدة عليه أكثر مما عينته الكنيسة. وكان المقطوع يومئذٍ واحداً في المائة.
وكان بين التلاميذ فقراء أيضاً فهؤلاء في أيام العطلة كانوا يشتغلون ويحصلون على ما يعيشون به. وزمن العطلة كان منذ بداية شهر آب إلى نهاية تشرين الأول.
لكن برحدبشبا عربايا قال أنه كان يؤذن للتلاميذ أن يشتغلوا مرتين في السنة. أي في زمان الحصاد وفي وقت قطف الزيتون والعمل في الطين. ويُشترط على الذين يشتغلون في زمن العطلة أن يسيروا سيرة صالحة ويتجنبوا الرذائل لئلا يُرذل بسببهم اسم المدرسة. واما الذين لاجل ضعفهم أو مرضهم لم يكونوا قادرين على العمل فكانوا يراجعون الوكيل وهو كان يساعدهم قدر الامكان. ولم يكن يسمح لهم بالتسول على الابواب، ومن تجاسر ومشى خلاف هذا القانون كان يطرد حالاً من المدرسة ومن المدينة أيضاً.
منهجية مدرسة نصيبين
ان الدراسة كانت مدتها ثلاث سنوات. تؤكد قوانين المدرسة بان الطلبة خلالها ينقطعون إلى الدراسة كلياً. بحيث يتركون بيوتهم واماكنهم ويعيشون في المدرسة نفسها. فهي مدرسة داخلية أيضاً، ولا يحق لهم اثناء مدة الدراسة العمل او التجارة، ولا الارتباط العائلي ان كانوا من المتزوجين. وللصلاة دور كبير في حياتهم بحيث ان من لا يحضر المراسيم الدينية والصلوات يوبخ أمام الجميع.
كان الطلبة يقرأون في السنة الأولى من اسفار الكتاب المقدس المسماة (بيث موتبي = المجالس)، والمقصود بها أسفار يشوع بن نون، والقضاة، وصموئيل، والملوك، والأمثال، والجامعة، وراعوث، ونشيد الانشاد وسفر أيوب، اضافة إلى رسائل الرسول بولس، واسفار التوراة الخمسة (التكوين، الخروج، العدد، اللاويون، تثنية الاشتراع).
كما كانوا يتعلمون الهجاء والقراءة وألحان تشييع الموتى، والكتابة على اللوح.
وتخصص السنة الثانية لاسفار المجالس الاخرى: المزامير، كتب الانبياء، والقراءة والكتابة على اللوح وتراتيل القداس وفقاً للسنة الطقسية (والمقصود مدائح أو عونياثا دقنكي ودرازي عوُنيًّةًٌا دقَنكٍا وَدٌاْذزٍا).
وتشمل مواد السنة الثالثة على القسم المتبقي من أسفار الكتاب المقدس بعهديه الجديد والقديم، وتراتيل البيم (بٍيم) (وهذا يعني بان كل واحدة من عونياثا البيم لها لحن خاص وليست كلها بلحن واحد).
وتدخل ضمن هذه الدراسة مواد النحو، والصرف والخط. أما قراءة المزامير وتعلمها غيباً فهي أول ما يبدأ الطالب وفقاً للطريقة المدرسية الخاصة. واتبعت المدرسة في عهد مار افرام الطريقة اليونانية السباعية في التدريس، فكان على طلبتها تعلم القواعد، والخطابة، والجدل، والموسيقى، والالحان، والهندسة، والحساب أي الرياضيات، والفلك لاحتساب التقويم والأعياد والاصوام، ولم يكن التاريخ منسياً، وكذلك كتب التصوف الروحي وسير القديسين، واعمال الشهداء وكتابات الآباء.
كما أصبح للمنطق والفلسفة أهمية بعد حصول التأثر الهلسنتي، عقيب ترجمات تيودوروس وكتابات يعقوب السروجي الذي تأثر بفيلون الاسكندري، وتيوفيل الانطاكي والقبادوقيين، وللآخرين تأثير كبير على الناطقين بالسريانية.
هكذا كانت مدرسة نصيبين تنير الشرق باسره على حد تعبير التيودوريين، بينما اعتبرها القورلسيون علة فساد.

النهج اللاهوتي والعلمي في المدرسة
كان التفسير في المقدمة من برنامج مدرسة نصيبين، وعلينا ان نفهم التفسير ووظيفة المفسر بالمعنى التالي: صون الوديعة، حفظ الامانة، وضمان استمرارية التقليد، ويعني التقليد (مشلمانوثا مَشلمنوٌةًٌا)، أي تعليم ما يسلمه الاباء والجدود الأقدمون إلى الأولاد والاحفاد والتلاميذ، وعلى الآخرين تسليمه إلى من يأتي بعدهم. وقد كان التقليد الارامي هو السائد، حتى تمت ازاحته والاخذ بالتفسير التيودوري خاصة.
فكان تقليد اساتـذة المدارس (مشـلمانوثا دربّاني
دإسكولي)، مَشلمًنوٌةًٌا دذَبًنٍّا داِسكوُلٍـــّا، وان جاز لنا اقامة تشبيه، قلنا: ان المعلم الأول، أي المفسر، كان يرسم خط المدرسة، وعلى جميع الاساتذة الاخرين ان ينهجوا على منواله، ومعلوم ان للقيام بالتفسير لا بد من شرح النصوص الكتابية، ومن هنا كانت ضرورة اجراء التحليل اللغوي (علم النصوص)، وامتحان النص وضبط الترجمة (فهو بالعبرية، أو اليونانية أصلاً)، وعقد المقارنات اللازمة والمفيدة، وتخطي هذه المرحلة إلى مرحلة النقد الادبي ودراسة تاريخ النص، والسماح أخيراً للنفس باستنتاجات روحية ورمزية مفيدة.
ان منهجية مدرسة نصيبين قريبة إلى الانطاكية، بعيدة عن الاسكندرية، ذات خصوصية متميزة.
الخاتمة
لا يسعنا ان ننفض اليد من هذا المقال المتواضع دون التنويه إلى ان مدرسة نصيبين لم تنته في سنة محددة، فقد استمر تأثيرها طويلاً، بل ما زالت كتابات عباقرتها تغذي الكثيرين، اضافة إلى ما تناقلته كتب مؤلفين آخرين من عصارة فكر اولئك المعلمين الاوائل، فاضحى تراثاً شاملاً.
وكان لمدرسة نصيبين العظيمة اسهام كبير في الحركة الفكرية والادبية عبر قرون عديدة.
فاللغة السريانية غدت بفضل هذه المدرسة لغة فكر وعلوم، سلسة محكمة البناء، غنية المفردات، متعددة الاساليب، يبرز الشعر في المقدمة، ويليه النثر. وأول ميدان برع فيه اساتذة هذه المدرسة: الكتاب المقدس، بترجمة أسفاره، وشرحها وتفسيرها، وتبيان عللها، اضافة إلى مئات القصائد والمقطوعات والقصص المستوحاة من الكتاب المقدس.
وتأتي الاسرار والطقوس في المرتبة الثانية إذ لم يترك الادباء جانباً إلا طرقوه، وتبنت كنيسة المشرق بسائر فروعها ومذاهبها، العديد من آثارهم في طقوسها وصلواتها فكتب لها الخلود.
وتأتي في المرتبة الثالثة الكتابات اللاهوتية، والفلسفية والجدلية، ولو ان العديد منها اصابها التلف ضحية المنازعات والتعصب في الماضي.
وتأتي في المرحلة الرابعة كتب اللغة، والنحو، والصرف، وشرح الالفاظ المبهمة والمصطلحات، وقد أفادت جداً في انتقال العلوم.
وترد في المرتبة الخامسة كتب موسوعية من أروع ما ورثناه عن الاقدمين بدءاً بكتابات مار أفرام تلميذ مار يعقوب أسقف نصيبين ذات الطابع الديني. وكتابات مار نرسي ذات الطابع الفلسفي الادبي.
أما الجانب التاريخي فلم يلق اهتماماً كبيراً من قبل علماء هذه المدرسة وكذلك الجانب التصوفي الرهباني، رغم ان بعض خريجي المدرسة انصرفوا إلى حياة الزهد وأسسوا الاديرة ووضعوا القوانين الرهبانية ودبجوا مصنفات نسكية، على رأسهم ابراهيم الكشكري الملقب بابي الرهبان لكنيسة المشرق (كلدو - اثورية).
أما الترجمات فقد حظيت بعناية خاصة. إذ كانت النقول الأولى والكبرى من نتاج مدرسة نصيبين، بحيث يمكن القول ان مدرسة نصيبين هي الجسر الأعظم بين الحضارات القديمة واللاحقة وبنوع خاص في ايصال الثقافة اليونانية إلى ديار الشرق.
ويعود الفضل إلى اساتذة وتلاميذ هذه المدرسة في وضع قوانين وأنظمة كنسية ذات أهمية بالغة، إذ تبوأ قسم منهم مناصب كنسية عالية في عدة اماكن.ومنها ما اوردناه أعلاه من أسماء لاحقة لشخصيات كنسية بحقب زمنية مختلفة.
ستبقى مدرسة نصيبين وتاريخها الحافل دليلاً ساطعاً على دور أجدادنا العظام في الحفاظ على الحضارة الانسانية واغنائها. Opinions