Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

مسيحيو الشرق الأوسط بين دالوف الأنظمة ومزاريب الإرهاب




16 آذار 2008

لدى كل حادثة تعد وقتل وتفجير مما يتعرض له مسيحيو العراق وكنائسهم وممتلكاتهم هذه الأيام نتوقف متسائلين مع الآية الكريمة (...... بأي ذنبٍ قُتلَتْ؟). وهذا السؤال ذاته يصبح مدعاة لتداعيات لا نهاية لها من الأسئلة والاستفسارات تبدأ مع وطء قدم أول "مجاهد" مسلم أرض الرافدين وبلاد الشام ولمـَّا تنتهي بعد. هذه البلاد التي كانت لآلاف السنين موطن السريان الأساسي بكل فئاتهم وطوائفهم وتسمياتهم. والتي قدموا فيها للبشرية وللدولة الإسلامية عبر العصور، مالم يقدمه أي شعب آخر. ومع كل ذلك فإن ما لاقاه وعاناه هذا الشعب وما زال يعانيه من محيطه الإسلامي قاد بالنتيجة إلى هذا الانحسار الحاد والتناقص الشديد بالعدد والنوع ناهيك عن الإحساس الدائم بالتهديد وعدم الأمان.
ولما نشأت الدول العربية الحديثة ذات الطموح القومي العلماني مع مطلع القرن العشرين بعد التخلص من ليل العثمانيين الطويل الموسوم بالإسلامية، استبشر مسيحيو هذه الدول خيراً. لا بل كان لهم اليد الطولى في بناء أسس ودعائم ذلك الطموح. تماماً كما عملوا لمساندة واستقبال الجيوش الإسلامية في القرن السابع للتخلص من نير البيزنطيين. لكن الرياح التي هبت لتدفع أشرعة سفينة الدول الحديثة التي أقلعت ذكرتنا بالرياح ذاتها التي أقلعت بها سفينة الدولة الإسلامية ودفعت بها وبمسيحيي الشرق الأوسط إلى مصيرهم الحالي. فالأنظمة التي نشأت لتقود هذه الدول لم تكن سياساتها حيال مواطنيها المسيحيين لتختلف من حيث المبدأ والنتيجة عن ممارسات الباشاوات الأتراك أو المتنفذين الأخرين ممن أتيح لهم أن يمارسوا سلطة ما ليتحكموا برقاب كل من لا يدين بالإسلام من أبناء البلاد. وأحياناً كثيرة حتى المسلمين أنفسهم ممن لا حول ولا قوة لهم. وإذا كان النظام التركي الذي كان قيد النشوء على أنقاض العثمانية قد تسنى له تنفيذ جريمته الكبرى بمذابح 1915 لإفناء مسيحيي تركيا من أرمن وسريان آشوريين ويونان، فإن مذبحة سيميل في العراق عام 1933 تعيدنا إلى ذات النقطة التي انطلقت منها الدولة الإسلامية واستمرت لدى ورثتها من الأنظمة، التي وُصِفَت تجاوزاً بالحديثة، لتؤكد على النهج الذي ساد حتى أصبح سياسة ثابتة في قمع وإفناء كل اختلاف في المجتمع حتى ولو جاء بصيغة إسلامية ولكن بمسميات أخرى مثل كردي أو أمازيغي أو سواها.
ولأن المضمون كما النتيجة بقي ذاته رغم تلون المفردات السياسية بألوان زاهية بعد مرحلة الاستقلال في النصف الثاني من القرن العشرين، لم يكن للمسيحيين من رعايا هذه الدول من خيار سوى الخضوع التام أو الهجرة لمن أتيح له ذلك. وهكذا مرة أخرى يجبر من كان يوماً يعتبر نفسه صاحب الأرض والحضارة على قبول فتات موائد الأنظمة والمجموعات الحاكمة، حتى بات مجرد أن توجد لك كنيسة تتعبد بها منَّـة من الحاكم عليك أن تشكره عليها صباح مساء. وفي بلد عريق كمصر فإن تعداد ملايينه العشرة من المسيحيين لم تشفع لهم بعد بتغيير بعض القوانين العنصرية بخصوص أهل الذمة والمهينة للإنسانية التي سُـنَّت منذ عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، ناهيك عن حوادث الاعتداء والقتل والخطف والأسلمة الجبرية بحق المسيحيين فيها. لا بل في بلد كالسعودية يعتبر مجرد امتلاك الكتاب المقدس جريمة تستدعي المحاكمة بتهمة التبشير بالمسيحية.
ولعل أبشع ما يمكن تصوره هو أن يهرب المسيحي من دالوف الأنظمة هذا ليقع تحت مزاريب الإرهاب التي طالما سهرت هذه الأنظمة (ومازال بعضها حتى هذه اللحظة) على رعايتها ودعمها إلى أن اكتوت هي الأخرى بنارها فقلصت ذلك الدعم دون أن تجففه نهائياً. حيث مازالت هذه الأنظمة وسياساتها تجاه الآخرين أرضاً خصبة لتربية أجيال من الشباب المرشح للحصول على نصيبه من "مأثرة" التطرف والإرهاب.
وإذا كان الإسلام كدين غير مسؤول بشكل مباشر عما يحصل، فإن ما حصل ويحصل يتم على أيدي أناس أو جماعات تدين بالإسلام، وتتخذ من تعاليمه أحياناً ذريعة لفعلها. هذا في غياب أي موقف جدي وحازم من المؤسسات الإسلامية الرسمية لكبح جماح هذا الانفلات المستمر من أي قيد أو وازع ديني أو أخلاقي، والمسيء للإسلام أولاً وقبل غيره باعتبار هذه الأعمال مخالفة لكل قيم التعايش والتسامح والمبادئ الإنسانية، إضافة إلى اقتلاع شعب أصيل ومبدع من جذوره وأرضه التاريخية. ومن هذا المنطلق فإن المسؤولية عما يحصل للمسيحيين في هذه المنطقة هي مسؤولية المجتمع ككل، الذي هو مجتمع إسلامي في غالبيته العظمى. والتصدي لهذه الظاهرة الهمجية هي مهمة الجميع. وفي المقدمة مهمة المؤسسات الإسلامية وكبار رجال الدين الإسلامي الذين تترتب عليهم مهمات وواجبات أكبر بكثير من التنديد والشجب الكلامي الذي يصدر أحياناً من هذه الجهة أو تلك.
إن جريمة اختطاف وقتل رئيس أساقفة الموصل للكلدان ومرافقيه الثلاثة أبعد من مجرد حادثة وأكبر من جريمة ترتكب. إنها إعادة لرسم صورة تاريخية استقرت في الذاكرة لسياسة التعايش التي عانى منها المسيحيون عامة في الشرق الأوسط في محيط إسلامي حين تنفلت بعض الجماعات فيه من حسها الإنساني لترتكب ما تراه في بعض الحالات واجباً. وتسم بفعلها الذميم ذاك المجتمع كله، وبخاصة حين لا ينهض هذا المجتمع لإيقافها عند حد.
Opinions