مشروعية مفهوم الرأي الاخر...وتخلفنا الثقافي
ننتقد بشكل مستمر ـ وليس بين الحين والأخر ـ الأنظمة وممارساتها وما يصدر عنها .. ونطالب بحق الشراكة السياسية والثقافية .. ونعتبر ذلك جزءا مما نسميه حقوقا وإستحقاقات غير قابلة للمساومة .. وفى حال تعرضنا لأي ردة فعل من قبل الأنظمة ـ وفق ما تمتلك من وسائل القوة ـ فإننا نرفع أصواتنا عاليا .. نستغيث بأسياد العوالم ـ العلوية والسفلية ـ .. ونقرع أبواب كافة المؤسسات الحقوقية ـ المؤمنة منها والملحدة ـ من أجل ما نسميه إنتهاك حقوقنا فى التعبير عن وجهات نظرنا .. ونقدم أنفسنا كجزء من ” الرأي الأخر ” المثالي المنفتح الإيجابي ( الضحية ) الذي يجب أن يجد الحماية الكافية من أجل البقاء .. ونبذل قصارى جهدنا فى التمسك ” بذيل ” هذه القيمة من أجل بلوغ ما نعتبره شاطئ الأمان .بهذا الشكل .. أو قريب منه .. غالبا ما تكون الصورة بشكل عام ( أو على الأقل في محيطنا اليعربي ..اللولبي) .. مما أنتج مشهدا يوحي بأن الرأي الأخر هو فقط ذلك الرأي الموجه لإنتقاد الحكومة أو النظام .. والذي يعمل بكافة الوسائل على إضعاف موقفهما .. وبالتالي أنتج صورة ذهنية غاية فى الخطورة على مفهوم الرأي الأخر .. صورة تشير إلى اتجاه واحد فقط .. وتقدم هذه القيمة كما لو أنها سلاح تكتيكي مصوب لرأس محددة ( النظام ) ولفترة زمنية محددة ( تغييره ) .. صورة عمِل منطق ” الكسب ” على ترسيخها فى أذهان الناس عبر حجب المفهوم الذي يعرّف ” الرأي الأخر ” على أنه شيء متحرك وقيمي .. وأنه ينطلق من الوعي ليستهدف أضداده في أي خندق كانوا .
وبمرور الزمن بات وجود الرأي الأخر داخل ذات التنظيم ” تمرداً ” .. وجوده فى ذات حيز المعارضة ” تخاذلاً ” .. أما إذا ذهب الى أبعد من ذلك وجرب حظه فى القضايا الكبرى فأوراق التخوين والهرطقة على الطاولة .. والتحريض عبر استخدام سلاح ” اغتيال الشخصية ” بواسطة المشاغبات (= تدابير وقاية من أثار النقد ) جاهزة للعمل .. فأنت ” الرأي الأخر ” المستحق للتطبيل والتزمير .. وتمنح كافة الفرص .. طالما أنت معي ضد ما أعتبره خصم على طريقتي ووفق مزاجي وتفسيري لأوراق الطاولة .. وما عدا ذلك فزيادة يجوز الاعتداء عليها وقطمها ( بالمتاح ) تحت مسميات شتى .. منها ما يركن الى الفتوى الدينية .. ومنها ما يركن إلى الفتوى السياسية .. دون أن تطرف عين حقوقي .. أو تشعر الأخرى المجللة بالتقوى بالحاجة حتى لكفارة المجلس .
.
سادتي الكرام : الرأي الأخر ( كحيّز ) .. كائن حي .. حيوي .. متحرك .. ومتجدد .. ذو تقاليد لا تعترف بغير المنطق القيمي .. ولا تستهدف غير المصلحة العليا .. أو هكذا أفهمه .. أو هكذا يفترض أن يكون .. فخنقه أوالتلاعب بجيناته وتحويله الى ورقة حزبية رخيصة .. أو تجييره لمنطق “الربح والخسارة ” بجعله لا يعمل إلا فى إتجاه واحد .. هو إتجاه من يُعتقد أنهم خصوم .. إنتكاسة وحماقة نرتكبها فى حق مسيرنا الثقافي والسياسي والديني ..البطيء والمترهل أصلا .. كونه ( أي حيز الرأي الأخر ) أحد أبرز مكونات الدولة المدنية الحديثة .. و أحد أهم أركان التجديد والتجدد الذي يتطلبه إستمرارها ونهضتها على كافة الأصعدة .. من هنا فالعبث به عبث بمفهوم دولة القانون .. وإفتآت على حق المجتمع فى الإستظلال بقيم ” الشراكة” .
.
الرأي الأخر .. وبعد هذا العمر .. وهذه التجربة .. ( بل وهذه المرمدة ) يفترض أن نكون جميعا حماته ومن يرعى حضوره ويطالب بنموه بشكل ووضع طبيعي بتنا جميعا نعرفه بشكل كاف.. مهما كانت درجة إختلافه معنا أو إختلافنا معه .. فنرحب به كثقافة تعمل على تقويم الأنظمة وإنضاج حراكها .. تماما كما نرحب به كثقافة لتقويم المعارضات وإنضاج حراكها .. نطالب بحقه فى الوجود عندما يمثله التيار الإسلامي .. كما نطالب بحقه فى الوجود عندما يمثله تيار أخر .. وكما نحرص على فهم دوافعه عندما تعمل فى إتجاهنا ينبغي أن نتفهمها عندما تعمل عكس إتجاهنا .. فكل الذين تخندقوا فى خندق معارض لجهة أو طريقة أو سياسة ما .. هم فى الأساس عندما ـ نمعن النظر فى جذور موقفهم ـ أناس مثلوا الرأي الأخر فى لحظة ما .. أو فى مستوى ما .. وتمايزهم لم يكن ليوصف بأنه حالة تستحق المؤازرة لو لم يقدّم على أنه ” الرأي الأخر ” .. فهل يصح أو يعقل بعد ذلك أن ينقلبوا على القيمة التي كانت وراء مشروعية وجودهم فقط لشعورهم بالإكتفاء والتخمة التنظيمية .. أو لإستشعارهم القرب من سدرة المنتهى فى جنات لعبة الحكم ؟! .
.
الرأي الأخر .. فى تقديري ـ وقبل كل شيء ـ ثقافة توازن وليس حالة طارئة مؤقتة تستخدم لمرة واحدة ( كورق التواليت ) ثم ترمى .. فكل الذين صرخوا .. وكل الذين تمايزوا .. وكل الذين تكتلوا .. وكل الذين تحزبوا .. وكل الذين حلموا ( منهم من وصل ومنهم من ينتظر ) .. إذا لم يستمروا فى حماية مقعد الرأي الأخر .. بطريقة حضارية ومدنية منطلقة من قناعات صحة وصحية وجوده .. فهم إنما يحكمون على أنفسهم بأنهم إنتهازيون .. وطلاب سلطة قشرية .. وطائفيون ومذهبيون ( = سياسيا أو دينيا ) .. وأنهم أناس متخلفون لا ينبغي أن يؤتمنوا على المستقبل .. وأنهم إنما يمثلون الدكتاتورية فى أثواب جديدة لم يختبرها الناس بعد .. فإذا كانت بذرة الإقصاء وتضخم الذات والنرجسية ـ المرشحة للتحول الى سرطان الشمولية القاتل ـ لا ترى بالعين المجردة .. ولا حتى بواسطة أكبر المجاهر .. فإن ورود هكذا مقدمات يمثل أكبر دليل على وجودها .. وإن توارت خلف شعارات وطنية او إسلامية يحترمها الشارع .. فقط ربما تحتاج الى إستهلاك الفارق فى التوقيت كي تظهر فى صورتها النهائية التى لا تخجل معها من تصفية ” الرأي الأخر ” .. حسياً .. ولو لزم الأمر خارج إطار القضاء .
وهنا قد لا ينفع كثيرا الهمس الى من تحزّبت عقولهم .. أو أرتهن وعيهم .. أو تقاطعت مصالحهم .. وإن كان الأمل باقياً ( = ما لم يغرغر ) .. ولكنني فى هذه السانحة قدرت أن الهمس الأكثر نجاعة ربما هو الموجه الى السواد الأعظم .. الى الأغلبية الصامتة :
سادتي : إنتصروا لبقاء ” الرأي الأخر ” ولو فى الحدود الدنيا كي لا تلدغوا من ذات الجحر مرتين .. فمن يتحايل على إزاحة أو إقصاء الرأي الأخر ولو بحجة النضال .. أو القربة الى الله .. فلن يتورع عن فتح معتقلات .. ونصب مشانق .. ولن يعدم يومئذ الذريعة .. فالباب حينها سيكون مفتوحا على مصراعيه من الخيانة وحتى الردة .. أضيفوا ( وأجركم على الله ) هذه المهمة الى مهمة بحثنا الحثيث عن قوت اليوم ومستقبل أفضل لاولادنا .. فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان!.
الدكتور
يوسف السعيدي
العراق