ملامح الاغتراب السياسي في الحالة الاشورية
جذور الاغتراب السياسي عند الآشوريين:ظهر الشعور بنوع من اليأس السياسي عند الآشوريين نتيجة لعقود من القهر والظلم الذي مورس ضدهم من قبل الانظمة السياسية المتعاقبة في العراق منذ تأسيسه عام 1921 التي استخدمت ضدهم العنف والاقصاء ، وبسبب الفترات الطويلة من الكبت وتغييب الهوية القومية ، تفاقمت لديهم مشاعر الشك تجاه السلطة وتطور الشك ليشمل حتى بعض الاحزاب التي تمثله وبمختلف توجهاتها ، ومع تصاعد مشكلة الصراع بين الاحزاب العاملة سواء في الوطن أو في المهاجر تطورت مشاعر من اليأس والاحباط ، ولم تفلح المؤسسات القومية في الترويج لثقافة سياسية تقوم على القبول بالآخر والحوار معه وقبول مبدأ مفاده أن السياسة منافسة سلمية بين برامج سياسية معينة والتنافس السياسي السليم يجب أن تكون حلبته البرامج السياسية التي تخدم القضية والوطن ، واستمر الشعور بعدم الارتياح يظهر جلياً لأداء بعض الاحزاب السياسية والميل نحو تجنبها وعدم متابعة التطورات السياسية والابتعاد عن الاهتمام بالسياسة بشكل عام ، وظهر هذا في الضعف النسبي لاقبالهم على الادلاء باصواتهم في الانتخابات الأخيرة لا سيما في المهاجر، وهذه هي حالة أقرب ما تكون الى نوع من الاغتراب السياسي نتجت بسبب مشاعر من الاحباطات المتتالية التي كان سببها أيضاً الشعور بالاقصاء والتجاذبات السياسية بين الفعاليات الاشورية والصراعات ذات الطابع الشخصي ، يضاف اليها غياب النهج الديمقراطي في الحقل السياسي الاشوري ، وعدم توفر الشروط الموضوعية لبناء الهيكلية اللازمة لصياغة الاسس القانونية لبرامج الاحزاب والمؤسسات ، بعد أن كان المشهد السياسي الآشوري وتطوراته بدأ يدخل ضمن اهتمامات معظم أبناء شعبنا بعد سنوات من الحرمان في التعبير علناً عن مشاعرهم القومية والسياسية خاصة أثناء وبعد انتفاضة آذار 1991.
مسؤولية النخبة :
من الطبيعي أن يرافق عمل بعض النخب السياسية في أوساط شعبنا بعض التلكؤ في انسيابية العمل واتخاذ القرارات والمواقف بسبب المعوقات الناجمة عن الظروف الموضوعية والذاتية المعقدة ، ولكن اللامعقول في هذه الحالة هو تكرار ارتكاب مجموعة من الأخطاء مرة تلو الأخرى ، لدرجة وكأن هذه النخب ترفض مراجعة الذات والاستفادة من تجاربها السابقة ، وبدلاً من الجلوس ومناقشة الأوضاع بشفافية فيما بينها نرى مجدداً عودة سلوك التراشق اللفظي بذهنية يغلب عليها التوجس والشك بطريقة لا تحسب عواقب الأمور، ولا ترصد ما يمكن أن تجره مثل هذه الذهنية من الميل نحو اليأس وظهور مشاعر الاغتراب السياسي التي تتفاقم بسبب الاحباطات المستمرة وسيادة أجواء من فقدان القدرة على المجابهة والتغيير نحو الأفضل ، إن ما يحصل لم يأتي صدفة , ولا هو قضاء وقدر, ولا يدخل ضمن نظرية عدم اليقين ، بل هو نتيجة لمواقف غير محسوبة جيداً , وكما نرى أن هناك ملامح ظهور فراغ فكري وسياسي لدى الشارع الاشوري حاولت إشغاله بعض النخب ولكنها لم توفق عملياً , ولا زالت مسألة البدائل المرشحة المطروحة لم تتبلور بعد لكونها غير قادرة على مليء الفراغ نظرياً بسبب قلة خبرتها , وكنتيجة طبيعية للفهم الخاطئ للعمل السياسي بما يتضمنه من تحالفات متغيرة حسب الظروف ، لقد حصلت تداعيات كثيرة انعكست سلباً على الطرف الضعيف الذي لم يستقرأ الوضع بشكل سليم على المدى البعيد ، ولعل أحد صور هذه التداعيات هو الشعور بالأقصاء الذي تطور ليتحول إلى ثقافة ترسخت في أذهان البعض على شكل اغتراب سياسي ونفسي ، وتكمن خطورة هذه الثقافة في أنها تروج لفكرة الخصم المتربص والمبالغة في ذلك الى حد اختلاق العدو الوهمي والذي يلقى قبولاً لدى البعض ، وظهرت الآثار النفسية لثقافة الشعور بالاقصاء والاغتراب السياسي لدى شعبنا لعقود طويلة على هيئة الخضوع والشعور الدائم باليأس وقبول الأمر الواقع وعدم النهوض لرفع المظالم لتنتهي باعتبارها قضاء وقدر لا يمكن مجابهتها ، باستثناء بعض المحاولات الجادة التي حاولت فيها بعض النخب السياسية الاشورية والتي توفر لديها مؤخراً هامش أكبر لرفع ثقافة اليأس ولكن على نطاق محدود ، ولم تفلح هي الاخرى ، يقود هذا الاغتراب الى التقوقع والانطواء على الذات ، ويليه الشعور بالرغبة في هجرة الوطن كمخرج للهروب ، وفي المنافي ينمو لديه شعور باغتراب آخر مما يدفعه الى اللجوء الى جهة معينة بحثاً عن بعض الأمان ومحاولة منه الى إعادة تجميع حطام الذات وغالباً ما تكون وجهته الكنيسة أو المجموعة القبلية التي ينتمي اليها وهذا ما نجده بوضوح في المهاجر وهو أيضاً ما يفسر اسباب ظهور الجمعيات على اساس عشائري في المهاجر ، ومن الجدير بالذكر هنا أن تسليط الضوء على بعض السلبيات ليس لكشف العيوب والنيل من النخب السياسية أو الثقافية بل هو لاعادة النظر في بعض الثوابت ، وهنا لا بد من الفصل بين الخاص والعام ، ونقد السلوك السياسي للنخب لا يجب التعامل معه كتجريح ، باعتبار أن الحقيقة ليست حكراً للنخب السياسية ، فاللحقيقة فى هذا المجال اكثر من وجه ، والحقيقة المقصودة هنا هي القبول بمبدأ التعددية السياسية وتوزيع الادوار ليتسنى المشاركة للجميع ، على أن تكون ضمن إطارها القومي المطرز بالثوابت التي لا تقبل المساومة ، بعد أن ثبت أن المراهنة على احادية التفكير واحادية الحل وسيطرة النمطية الحزبية تتسبب في نوع من القمع الفكري لتنهي قيمة الابداع فيها وتكرس الشعور بالاغتراب السياسي ، يفرض الواقع الحالي الى التجرؤ للبدء بعملية اصلاح شاملة وإعادة نظر لتجنب تنامي حالة الاغتراب واليأس ، ان تجاوز حالة الاغتراب السياسي في الحالة الآشورية تحتاج الى توفير وسائل قادرة على ردم مشاعر الاغتراب السياسي بالتعامل مع السبب مباشرة ، عبر إعادة الثقة بين المجتمع والمؤسسات السياسية ، وتبني خطاب سياسي يحمل في طياته مشروع يتلائم مع طموحات شعبنا في الوطن ، ونبذ سياسة التخوين ونظرية المؤامرة وخلق العدو الوهمي.
الديمقراطية في المخاض الصعب:
العراق بعد التاسع من آذار/2003 بدأ عهد من الانفتاح السياسي على صعيد التعبير والحريات العامة ، فقد ازيلت كافة القيود على اصدار الصحف ، وتم فتح باب تأسيس الاحزاب والتجمعات السياسية ومنظمات المجتمع المدني ، كذلك شهد تداولا سلميا للسلطة بعد انتخابات حرة ، إلا أنه وبسبب التركة الثقيلة التي ورثها العراقيون والظروف الاقليمية المتشابكة والوضع الدولي المتشنج عموماً والارهاب الوافد كلها شكلت معوقات ضد إعادة بناء الوطن بسرعة ، ورغم كل ذلك نجحت العملية السياسية في نهاية المطاف ، وتشكلت الحكومة وانهزم الارهاب ، ان الديمقراطية ليست قوالب سياسية جاهزة أو مجموعة من مؤسسات بل هي نمط حياة ومنهج تعامل وقيم متبادلة بين افراد المجتمع كالاعتراف بالآخر ومشاركة كافة المكونات بغض النظر عن عددها وانتمائها العرقي والديني في القرار السياسي ومصير الوطن ، ومن الطبيعي يصعب تطبيق الديمقراطية بسلاسة وشفافية في البداية في المجتمع العراقي ، باعتباره كان مجتمعاً تسوده ثقافة العنف واخضاع الآخر الضعيف والمختلف عن الاكثرية أو عن السلطة الحاكمة ، ومن اسباب ظهور ديمقراطية غير ناضجة هي عدم تهيئة الظروف الموضوعية اللازمة بعد فترات طويلة من التعسف والتسلط والحكم الشمولي ، ولبناء ثقافة سياسية جديدة لا بد من أخذ خصوصية المجتمع العراقي بنظر الاعتبار ، والعمل على اعادة احياء الشعور بالمواطنة والاعتزاز بها والولاء للوطن بعد عقود من مصادرتها لصالح الحاكم ، والتضييق ضد التطرف والتعصب الديني المتفاقم.
الخطوات اللازمة لتقليل الشعور بالاغتراب:
السعي على تحرير عقل الإنسان الآشوري من رواسب الماضي المتمثلة بالشعور بالتهميش والاقصاء بسبب ما تم ترويجه من أننا لا نزال نشعر بالأسر عند مرحلة معينة من تأريخنا متوهمين أن تلك المرحلة تم مصادرتها من قبل الخصوم ، لنبقى محاصرين بالماضي ، أثبت المنطق أن الشعوب التي تعلمت من أخطائها ، استطاعت المناورة بعد تبنيها اساليب التنوير الفكري وحماية الخصوصية القومية والثقافية وفق المفاهيم المعاصرة بعيداً عن التعصب والتطرف ، التأكيد على النضج في آلية التفكير باستقراء التاريخ القومي بموضوعية وواقعية بعيداً عن الأوهام ليعكس بصدق خصائص الشخصية الوطنية الآشورية ، صقل الفعل السياسي وفق متطلبات الحداثة والعصرنة ، توجيه وسائل الإعلام الآشورية غير المتحزبة لتوعية شعبنا بضرورة الارتباط بالعراق وطن الأجداد وتوعيته وتعريفه بقضاياه القومية والوطنية وقضايا العالم من حوله وفي إنضاجه فكرياً والقبول بالآخر وضرورة تبني الفكر الديمقراطي والتعددي ، وما يبرر العمل على تنمية الشعور والإحساس بالانتماء الى الوطن كمكون أصيل هو لطرد الشعور بالاغتراب والانتماء إليه والاعتزاز بالنفس وبالأصالة وتربية الأجيال الجديدة في المنافي لتعرف أصولها وجذورها من خلال دفعهم لزيارة الوطن وترويج فكرة العودة الى الجذور وترسيخ حب الوطن وبقية المكونات العراقية في نفوسهم ، إن مرحلة إعادة بناء وتأهيل شعبنا تدعو إلى أن تتضافر جهود النخب الثقافية والسياسية للتنسيق والتخطيط لتحقيق استراتيجية وطنية وقومية وثقافية شاملة بما يتناسب وموروثات التسامح والأخلاق وتكريس مباديء وقيم العدل والحرية والمساواة وحقوق الإنسان ، والتوعية بحقائق العصر ومتطلباته من أجل مشاركة واسعة في بناء العراق الديمقراطي التعددي والفدرالي ، كل ذلك يتطلب من بعض النخب السياسية التخلي عن نزعة التسلط ، والتركيز على أن مهمة النخبة في أي مجتمع هي التضحية من اجله وتوعيته وقيادته ، فقد يكون قول بعض الحقائق والإشارة الى موضع الخلل سلوك غير مرحب به من قبل البعض ، إلا أن المصداقية في تشخيص ومعالجة الخلل بطريقة تصب بالتالي في الصالح العام لتستفاد منه الأجيال القادمة هو ما يتحتم على النخب القيام به ، تماماً كما قام به جيل آباء النهضة أمثال ، نعوم فايق ، فريد الياس نزها ، اشور يوسف ، بشار حلمي بوراجي ، فريدون اثورايا، يوئيل وردا ، ديفيد بيرلي ، آغا بطرس ، أدي شير وغيرهم الكثير.
تفعيل المؤسسات القومية:
بسبب تعذر إلتوصل الى آلية للعمل السياسي المشترك على المدى القريب يمكن التوجه نحو توحيد وتأطير العمل المؤسساتي الاشوري في المرحلة الراهنة كالمؤسسات التربوية والكنسية ومؤسسات المجتمع المدني ، باعتبار أن دفع وتفعيل التنسيق بين مختلف التوجهات مرتبط عضويا بنشوء روح المؤسسة الذي يحمل عملياً مفهوم المصلحة العامة ، وتستمد المؤسسة شرعيتها من قدرتها على تحقيق الأهداف المرسومة لها بشكل يضمن استمرارها وتشكل واقعاً يتجاوز المصالح الخاصة ، لم تتكون الوحدات السياسية إلا مع نشوء المؤسسات ، والواقع أن شعبنا يبدو قد غرق في صراعات داخلية كالتنافس بين الاحزاب وصراع التسميات والتي صلت الى مرحلة متقدمة بحيث أصبح توحيد المؤسسات هو مخرج لا يمكن تجاوزه حالياً للمشاركة في بناء العراق الجديد ، ويجدر ذكره هنا أنه يكاد لا يوجد شعب قي العالم لم يعاني من فترات عصيبة خلال أوقات الحروب أو الكوارث الاخرى ، ونفس الشيء ينطبق على شعبنا الذي عاش فترات استقرار واعقبتها انتكاسات ومظالم ، والملاحظ أن شعبنا رغم تكاتفه أوقات المحن إلا أنه لم يحقق سلاماً داخلياً على مستوى الذات متمثلاً بالوحدة السياسية أو الكنسية ، لقد احتوت تلك الصدمات شعبنا لفترات طويلة ، أي أن التهميش والظلم الذي عاشه جعلته محصوراً في عالم أشبه بالنفق وكأنه خرج منه بدون عبرة ليتم أدخاله الى أنفاق اخرى ، وهذا ما يفسر سبب الجنوح لتعزية الذات في استحضار المجد الضائع ، واطلاق أناشيد الحزن على الذكريات المسلوبة من على اسوار بابل ونينوى ، برأينا لقد حان الوقت لتجاوز تلك اللحظات والمشاعر والعمل على التوجه الى تلك الأسوار والكتابة على حجارتها بخط واضح : سوف نتوحد ، سوف نعمل بنكران الذات ، سوف لا نكرر الاخطاء ، سوف نبدأ رحلة العودة الى الجذور ، لنتعلم من مآسي الشعوب الاخرى وكيف استطاعوا إعادة بناء مجدهم ، وهذه دعوة صادقة الى كافة المكونات العراقية ، باستحضار التجربة اليابانية نرى أن اليابانيين لم يقضوا عقوداً يبكون أطلال مدنهم المدمرة بسبب الحرب الكونية الثانية ، بل باشروا بالعمل على اعادة بناء بلدهم عندما كتبوا على النصب التذكاري الذي أقاموه في المكان الذي سقطت فيه القنبلة الذرية في هيروشيما وناكازاكي في السادس والتاسع من آب 1945 ، عبارة تقول سوف لا نسمح بتكرار هذه المأساة ، وانطلقوا في العمل لتصبح اليابان خلال ستة عقود ثاني أكبر اقتصاد في العالم علماً بأن اليابان بلد فقير جداً بمصادر الطاقة كالنفط والغاز ، فلم يبقى اليابانيون يبكون هيروشيما وناكازاكي ، بل تجاوزوها ، وتحول المحارب الياباني البوشي والساموراي (البوشي هم محاربون ظهر دورهم عام 1185 ، والساموراي كانوا بمثابة موظفين يحملون السلاح لحفظ الأمن وظهر دورهم سنة 1615 ، لم يعرفوا في حياتهم غير الحروب المتواصلة، كان قدرهم يتحدد في قلب المعارك التي كانوا يخوضونها) ، والجندي الياباني الذي خاض معارك الحرب العالمية الثانية بشراسة نادرة ، كل أولئك تحولوا الى بناة لليابان ، كلهم توحدوا وعملوا بكفاءة واخلاص لتصبح اليابان محط اعجاب العالم أجمع ، والسبب كان ولا يزال أنهم استفادو من الأخطاء ، خرجوا من دائرة ونفق العنف بتجارب استفادوا منها ، وتوقفوا عن النظر الى الوراء المتمثل بالماضي وركزوا على مستقبل اجيالهم ، بينما البعض فينا لا يزال يبكي الحليب المسكوب على اسوار نينوى وفي حدائق الجنائن المعلقة في بابل.