من ذاكرة التاريخ: العلاقة بين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم/ الحلقة الأولى
3/5/2009الحزب الشيوعي يعلن إسناده للثورة وسلطة عبد الكريم قاسم دون قيد أو شرط
من المعلوم أن الحزب الشيوعي لم يشترك في حكومة الثورة التي شُكلت صبيحة الرابع عشر من تموز 1958، رغم ثقله السياسي الكبير، ورغم مساهمته الفعالة في نجاح الثورة، وإسنادها منذ اللحظة الأولى واستمرت حتى النهاية على الرغم من انقلاب الزعيم قاسم على الحزب.
لم يطلب الحزب الشيوعي آنذاك إشراكه في السلطة بسبب الظروف الدولية الخطيرة التي كانت تحيط بالثورة، فالقوات البريطانية نزلت في الأردن، والقوات الأمريكية نزلت في لبنان فور وقوع الثورة، والقوات التركية والإيرانية تمّ حشدها على الحدود الشمالية والشرقية، وكان واضحاً أن الإمبرياليين وعملائهم في تركيا وإيران قد صُدموا بقيام الثورة التي هدمت أحد أهم أركان حلف بغداد، وأضاعت أحلامهم في ضم بقية الدول العربية إلى ذلك الحلف، وخاصة سوريا.
ولم يكن الحزب الشيوعي، ولا السلطة الثورية الجديدة يريدان مزيداً من الاستفزاز للإمبرياليين آنذاك، لكي لا يصورا ثورة 14 تموز على أنها ثورة شيوعية قامت في بلد كالعراق له أهمية قصوى في حساباتهم الإستراتيجية في هذه المنطقة الحساسة من العالم.
فالعراق بلد نفطي أولاً، ويقع على رأس الخليج ثانياً، ومعلوم أن الخليج يتسم بأهمية كبرى، بكونه أكبر مورد للنفط في العالم، لذلك كله، سكت الحزب الشيوعي عن المطالبة في إشراكه في السلطة، أسوةً ببقية أحزاب جبهة الاتحاد الوطني، ولم يكتف بسكوته هذا، بل بادر منذُ الساعات الأولى لانبثاق الثورة إلى إرسال برقية إلى الزعيم عبد الكريم قاسم يبلغه بوضع كافة إمكانيات الحزب في خدمة الثورة وحمايتها دون قيدٍ أو شرط.
لقد أدركت قيادة الحزب الشيوعي تماماً أن المهمة الأولى بالنسبة للحزب هي صيانة الثورة، وحمايتها من تدخل الإمبرياليين، وشل نشاط الرجعيين الرامي إلى إجهاضها، وإعادت العراق الجامح إلى سيطرتهم من جديد، ولذلك سارعت القيادة إلى إرسال البرقية التالية للزعيم عبد الكريم قاسم:
{سيادة رئيس مجلس الوزراء عبد الكريم قاسم المحترم :
نهنئكم من صميم قلوبنا على خطوتكم المباركة التي وضعت نهاية حاسمة
لعهد طويل من المآسي والمحن التي قاسى منها شعبنا المجاهد والنبيل
على يد الاستعمار وأعوانه.
إننا نعبر عن تفاؤلنا بأن هذه الخطوة الحاسمة ستكون فاتحة عهد جديد، عهد حرية وتطور عراقنا الحبيب، وتبوء شعبنا البطل مركزه في الموكب الظافر، موكب العروبة المتحررة الناهضة، المحبة للسلام، ومواكبة الإنسانية العاملة من أجل تحررها الأبدي من الاضطهاد، والاستعمار.
إن شعبنا العراقي، بعربه وأكراده، سيسجل لكم بفخر جرأتكم وتفانيكم من أجل تحقيق أهدافه الوطنية الكبرى، وهو يحمي ويصون بدمائه الغالية جمهوريته الوطنية الفتية، وإنه لعلى ثقة كبرى من أن قدرته على القيام بهذا الواجب المقدس، ومن مساندة قوى التحرر العربية في جميع ديارها، وعلى رأسها الجمهورية العربية المتحدة، ومن قوى الحرية والسلم في جميع أنحاء العالم وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي.
إن اللجنة المركزية لحزبنا الشيوعي تضع قوى الحزب لمؤازرتكم، وللدفاع عن جمهوريتنا البطلة.
سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي
14 تموز 1958
لم يكتفِ الحزب الشيوعي ببرقيته المرسلة إلى عبد الكريم قاسم صبيحة الرابع عشر من تموز 1958، بل أتبعها بمذكرة إيضاحية حول السياسة التي يرى أهمية الأخذ بها لقيادة مسيرة الثورة، وهي مذكرة تعبر عن سياسة الحزب تجاه الأحداث الجارية، والمستقبلية للثورة.
ركزت المذكرة على ضرورة انتهاج سياسة وطنية واضحة، وذلك عن طريق الإعلان الرسمي لانسحاب العراق الفوري من حلف بغداد، وإلغاء كافة الاتفاقات المعقودة مع بريطانيا، والولايات المتحدة، والتي تخل بسيادة العراق واستقلاله، وتتعارض مع سياسة الحياد الإيجابي، والتعاون مع جميع الدول على قدم المساواة، من أجل مصلحة الشعب والوطن.
كما دعت المذكرة إلى إعلان الاتحاد الفدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة، وإلى تبادل التمثيل الدبلوماسي مع البلدان الاشتراكية، وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي، وقيام علاقات اقتصادية، وثقافية وغيرها، مما يعزز موقف العراق، ويحمي مصالحه.
كما دعت المذكرة إلى فرض رقابة حازمة على مؤسسات شركات النفط، والبنوك، وكافة المؤسسات الاقتصادية الكبرى ذات العلاقة الكبيرة بحياة الشعب، وحماية اقتصاد البلاد من مؤامرات الإمبريالية وعملائها في الداخل، والهادفة إلى تخريب الاقتصاد الوطني، ومنعه بشتى الوسائل والسبل من التطور والنمو لخدمة طموحات الشعب والثورة.
كما دعت المذكرة إلى انتهاج سياسة وطنية أساسها الثقة بالشعب، وإطلاق الحريات الديمقراطية، والسماح للشعب بممارسة حقوقه السياسية، بتأليف الأحزاب، والجمعيات، والمنظمات الجماهيرية، وحرية الصحافة، والعمل على إطلاق سراح كافة السجناء السياسيين، بأسرع وقت ممكن، وتكوين فصائل المقاومة الشعبية وتسليحها لتكون درعاً واقياً للثورة، جنباً إلى جنب مع جيشنا المقدام، وتطهير جهاز الدولة، والأمن، والشرطة، من العناصر الفاسدة، والمعادية للثورة.
كما دعا الحزب الشيوعي إلى الاهتمام بالأعلام، ووضعه في أيدي أمينة على مصالح الشعب والوطن، نظراً للدور الهام الذي يلعبه الإعلام في الدفاع عن مصالح الشعب وحماية الثورة، وفضح ألاعيب المستعمرين، وأذنابهم في الداخل.
لقد كانت العلاقات بين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم على ما يرام، فقد التفّ الحزب حول قيادته، وسانده منذُ اللحظات الأولى للثورة، ووقف ضد كل المحاولات التآمرية التي جرت ضد قيادته، وضد مسيرة الثورة، وخاصة عندما قاد عبد السلام عارف في أوائل أيام الثورة ذلك الانشقاق بين الفصائل الوطنية محاولاً فرض الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، ودعم الأحزاب القومية له في تلك المحاولات التي انتهت بالتآمر المسلح.
لقد وقف الحزب الشيوعي موقفاً حازماً من أولئك الذين حاولوا قلب السلطة وسيّر المظاهرات المؤيدة لقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، والتي ضمت الآلاف المؤلفة من جماهير الشعب التي كانت تهتف بالشعار الذي رفعه الحزب، والذي يدعو إلى إقامة الاتحاد الفدرالي مع العربية المتحدة، ونبذ شعار أسلوب الإلحاق القسري الذي رفعته القوى القومية وحزب البعث العربي الاشتراكي، وكان عبد الكريم قاسم بحاجة ماسة لدعم الحزب ومساندته آنذاك في صراعه مع القوى القومية والبعثية، فقد أصدر الحزب بياناً إلى الشعب العراقي حول الاتحاد الفيدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة وهذا نصه:
بيان الحزب الشيوعي حول الاتحاد الفدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة :
{ إن الحزب الشيوعي، والقوى الديمقراطية الأخرى، وأوساط وطنية مختلفة، وجماهير شعبية غفيرة قد أبدت رأيها، حتى الآن، باعتبار الاتحاد الفدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة، واليمن، هي خير خطوة يعمل من أجلها العراق في كفاحه القومي نحو الوحدة العربية الشاملة. إن الحزب الشيوعي العراقي،والقوى الوطنية الديمقراطية لم ترفع شعار الاتحاد الفدرالي اعتباطاً، ولا هي مدفوعة بعواطفها فحسب، بل أن الدراسة الموضوعية والذاتية النزيهة لواقع شعبنا، وواقع أُمتنا، والشعور بالمسؤولية التاريخية إزاء القضية القومية العربية، مستقبل تطورها الوطني الديمقراطي،هما العاملان الأساسيان اللذان أوصلاهما إلى رفع هذا الشعار.
أن الجمهورية العراقية الفتية تحمل معها الآن آمال جماهير شعبنا، بعربه وأكراده، وبمختلف طبقاته الاجتماعية، وتعطشها إلى الحريات الديمقراطية التي حرمها منها الاستعمار طوال عشرات السنين، بغية تمكين سيطرته عليها، ومنعها من تنظيم نفسها، والإفصاح عن إرادتها للدفاع عن حقوقها العادلة. وهي عندما تسمع بالانضمام للجمهورية العربية المتحدة، تقلق أشد القلق على مصير حقوقها الديمقراطية، بسبب انعدام حرية التنظيم الحزبي، والاجتماعي، وحرية إبداء الرأي في الجمهورية العربية المتحدة.
ولا يهون عليها أن تستسلم لمستقبل لا يضمن لها حرية النشاط الوطني، السياسي والاجتماعي والفكري، والكفاح الاقتصادي في الدفاع عن حقوقها المعيشية. كما أن الشعب الكردي، الذي امتزجت دماء أبنائه الشجعان، بدماء أبناء الشعب العربي الميامين في الكفاح ضد عهود الظلم والطغيان، هو الأخر قلق على مصير حقوقه القومية، كشعب ينشد لنفسه بحق أسباب التقدم والرفاه.
كما أكد البيان على أن اختلاف التطور الاقتصادي بين العراق والعربية المتحدة، والتأخر الناجم عن عهود التخلف، والسيطرة الإمبريالية، يتطلب استثمار ثروات البلاد لتطوير الاقتصاد، والرأسمال الوطني، ولتأمين الحاجات المادية الملحة لسائر جماهير الشعب.
وإن إلحاق العراق بالعربية المتحدة، بالأسلوب الذي نادت به الأحزاب القومية سوف يلحق الضرر الكبير بمصالح الشعب العراقي، وسوف لا يوفر الفرص الكافية للازدهار والتطور، ولا شروطاً عادلة للتعاون الاقتصادي، نظراً لاختلاف درجات تطور كل منها. (2)
الحزب الشيوعي يطلب إشراكه في السلطة :
في الخامس من تشرين الثاني 1958، رفع الحزب الشيوعي إلى عبد الكريم قاسم مذكرة هامة دعاه فيها إلى الاعتماد على الحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، مذكراً إياه بإشراك كافة أحزاب جبهة الاتحاد الوطني في السلطة باستثناء الحزب الشيوعي.
وفي حين كانت الأحزاب القومية لا تنسجم مع اتجاه ومسيرة الثورة، ومحاولاتهم المتكررة لإلحاق العراق بالجمهورية العربية المتحدة ، وكان الحزب الشيوعي يقف جنبا إلى جنب مع السلطة الوطنية، مسخراً كل قواه
من أجل دعم مسيرة الثورة، وتحقيق أهدافها.
وفي حين كانت رائحة التآمر تبدو واضحة على الثورة وقيادتها، ذاد الحزب الشيوعي عن السلطة، وحمى الجمهورية من كيد المتآمرين عليها، وقدم التضحيات الكبيرة في هذا السبيل، وعلى ذلك فإن من حق الحزب الشيوعي أن يعامل على قدم المساواة مع بقية الأحزاب السياسية على الأقل وفيما يلي نص المذكرة :
1ـ مذكرة الحزب الشيوعي لعبد الكريم قاسم :(3)
سيادة الزعيم عبد الكريم قاسم المحترم:
نعتقد أيها الأخ أن تجربة الحكم خلال الأشهر القلائل التي انقضت منذُ بدء الثورة قد أوصلتكم إلى حقائق واضحة نرجو أن تسمحوا لنا في التحدث معكم بشأنها:
إن اصطفاؤكم للحكم بعض العناصر الحزبية، ولاسيما بعض قادة الحزب الوطني الديمقراطي، هو بلا شك عمل سديد، وقد برهنت التجربة على سداده، حيث قام وزيرا الحزب الوطني الديمقراطي بواجباتهما بكفاءة، وإخلاص كما نظن. وكان اختياركم لبعض العناصر المستقلة، في بدء الثورة أمراً ربما وجدتم أن الظروف كانت تستلزمه وقتئذٍٍ. لكن سير الثورة الحثيث، بقيادتكم الواعية والنشطة، قد خلق للحكم مهمات جديدة وخطيرة، عاصرتها بعض الصعوبات الجدية، المنبعثة أساساً من نشوء تناقض بين تركيب السلطة، وبين القوى الشعبية الحقيقية التي تمثلها هذه السلطة.
ومن المعلوم أيها الأخ، أن الغالبية الساحقة من أبناء الشعب، هي من الفلاحين والعمال، والجماهير الكادحة، وثمة تاريخ طويل من الجهاد يشهد بأن ليس في العراق حزب من الأحزاب يستطيع أن يمثل أماني وأهداف هذه الجماهير كما يمثلها حزبنا أولاً، وسائر الأحزاب، والقوى الديمقراطية ثانياً .
إن تاريخنا حافل بالحقائق، يشهد بأن هذه الجماهير قد أولت حزبنا، وسائر القوى الديمقراطية ثقتها التامة، ومنحتها حق التعبير عن مصالحها، هذا بالإضافة إلى فئات واسعة من المثقفين ترى في كفاح حزبنا تحقيقاً لأمانيها في التحرر والازدهار.
ومما لا ريب فيه أن متابعة السير في إبعاد الممثلين الحقيقيين لهذه الجماهير عن السلطة السياسية سيوجد حالة من التناقض يستعصي حلها، وسينشأ من ذلك صعوبات حقيقية في إدارة شؤون السلطة، كما أتضح من تجربة الأشهر الأخيرة.
لقد كان اعتمادكم في تكوين السلطة على بعض العناصر البعيدة في أفكارها عن مشاعر الشعب، والتي لا تملك تجربة جهادية، تمكنها من التعرف على حقائق الوضع الشعبي، قد أوجد للحكم بعض الصعوبات التي لا تخفى عليكم، وأقام في طريق الثورة بعض العراقيل.
كما أن إدخالكم في السلطة بعض العناصر المشبوهة، أو الضعيفة القدرة على تفهم حقيقة الثورة، ومجاراة سيرها الحثيث، قد خلق للحكم، ولكم شخصياً، صعوبات وأعباء، نعتقد أنكم قد عانيتم منها الكثير.
ونتيجة لذلك كله، اضطررتم إلى توزيع الجهد، بدلاً من تركيزه، واضطررتم لأن تعملوا بيد واحدة، وتحجزوا الخطر باليد الأخرى، اضطررتم لأن تناموا بعين واحدة، وتتركوا الأخرى ساهرة مترقبة.
نحن نعرف ـ كما يعرف أبناء الشعب ـ أنكم أصبحتم مضطرين، بسبب هذا الوضع غير الطبيعي في تركيب السلطة، أن تكرسوا قسطاً كبيراً من جهودكم، ومن وقتكم، لرقابة المساعي المريبة، ولشل الأيدي العابثة.
كما حمّلتم أنفسكم مهمة أخذ الأعباء عن بعض المسؤولين، الذين تعوزهم الجدارة، والنية الخالصة، وكذلك عن بعض الأجهزة التي لم تبرهن على نزاهة قصدها في تثبيت كيان الجمهورية، ومسايرة سياستها الديمقراطية.
لقد أصبح واضحاً أنكم أخذتم بأيديكم جملة من المسؤوليات والمهام التفصيلية، حرصاً منكم على تحقيق أهداف الثورة، وضمان سيرها المظفر ومما لاشك فيه أن هذه المسؤوليات والمهام، لو كانت بأيدي أمينة وقديرة، لما اضطررتم إلى ذلك، ولتيسّر لكم وقتٌ فسيح تستطيعون فيه التفكير والمساهمة بقسط أوفر في رسم السياسة العليا للبلاد، والتركيز على المسائل الكبرى فقط.
إننا نعلم أن رئيس الوزراء يأخذ على عاتقه الآن قسطاً كبيراً من المهام، الكثيرة والثقيلة، وإنه لهذا السبب، يحمل نفسه فوق طاقتها، ونحن على يقين بأن ذلك ليس في مصلحة الجمهورية أبداً، لأن شؤون الحكم ينبغي أن توزع على أيدٍي مخلصة وأمينة، لكي يستطيع قائد الدولة أن ينصرف إلى مسائل السياسة العليا.
إن تفسيرنا لهذا الوضع المرهق هو، كما بينا، وضع غير طبيعي في تركيب السلطة. إن في العراق وضع خاص وفريد، ونحن لا نضيف إلى الحقيقة جديداً، عندما نذكر أن القوى الديمقراطية في البلاد، هي القوى الساحقة الكفوءة، والدرع الحقيقي لوقاية مكاسب الثورة والحكم الوطني. تلك هي الحقيقة التي برهنتها حقائق السنوات العصيبة، قبل الثورة، وكشفت عنها وقائع ما بعد الثورة.
وليس اعتباطاً أن تمنح الجماهير الشعبية ثقتها المطلقة للحركة الوطنية الديمقراطية، وتتبنى شعاراتها وأهدافها، وتذود عن سياستها.
إن الجماهير الساحقة من الشعب تجنح بقوة لا مثيل لها صوب الحركة الديمقراطية، وهي تفعل ذلك عن وعي أصيل، وإدراك واقعي سليم.
لقد تعرفت الجماهير، من تجاربها المريرة أن القوى الديمقراطية إنما تمثل عن إخلاص وجدارة، أعز أمانيها ومطامحها، وإنها تضم في صفوفها صفوة من أبناء البلاد النجباء البواسل، الذين لم يتلوثوا بأدران الخيانة، ولم يهادنوا المستعمر، أو استسلموا لطغيانه، ولم يطمحوا إلى أكثر من تحقيق الخير للبلاد.
تعلمون أيها الأخ أن القوى الديمقراطية كانت ولا تزال وستظل إلى النهاية الأساس للحكم الوطني الشعبي الأصيل، والصخرة العنيدة ، التي تتحطم عليها مؤامرات المستعمرين، ومكائد أعداء الثورة.
ولقد رأى الجميع بأم أعينهم، أن الذين تنكبوا عن الحقيقة وراحوا يناطحون الصخرة لم يجنوا من وراء طيشهم غير تهشيم رؤوسهم، وارتدادهم إلى أعقابهم خاسرين، ذلك هو واقع العراق أيها الأخ.
ولذلك يصبح واضحاً أن قضية الحكم لا يمكن أن تحل إلا بالاستناد إلى هذا الواقع، وإن أي حل آخر لا يمكن أن ينتهي إلا إلى نتيجة واحدة، إلى أن تأخذوا على عاتقكم أعباء تفيض عن قابلية الإنسان، وفي هذه الحالة ستجدون أنفسكم في حالة من الإرهاق المستمر، تعملون بيدٍ، وتضربون باليد الأخرى، وتنامون بعينٍ، وتحرسون بالعين الأخرى.
إن الحل الوحيد، الحل الطبيعي المنسجم مع واقع الحال في العراق، هو الحل الذي يتوجه إلى إعادة النظر في تشكيلات السلطة، على أساس الاستناد إلى مبدأ التعاون بين قيادة الحكم العليا من جهة، وبين الجبهة الشعبية، المكونة من الحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، والقوى الديمقراطية الجديدة في الجيش، والأوساط الديمقراطية الأخرى، والعناصر القومية النظيفة.
تلك هي الحقيقة الكفوءة المخلصة، التي تمثل عن جدارة وحق، أهداف ومصالح الغالبية الساحقة من الشعب. وإن الحكم الذي يستند إلى هذه القاعدة الشعبية الواسعة والمتينة، هو الحكم الديمقراطي الصحيح، والسلطة التي تتكون على هذا الأساس، هي السلطة القوية التي تتمتع بالنفوذ والبأس، والقادرة فعلاً على قيادة الثورة نحو أهدافها، والصمود بوجه أحداث الزمن. ثمة من له مصلحة في تجنيب سياسة البلاد عن السير في هذا الطريق القويم إنهم يهدفون إلى تعميق التناقض في طبيعة الحكم، وإرباك مسيرة الثورة، وبالتالي إضعاف السلطة، وحفر هوة بينها وبين الجماهير الواسعة من الشعب. إن هؤلاء الذين يضربون على وتر[الخطر الشيوعي]، إنما هم أناس يرددون شعارات الاستعمار، وينفذون خططه، ومؤامراته على كيان جمهوريتنا البطلة. إنهم يسيرون على سِنة الاستعمار في التخريب والدس، على ذات الطريق التي سار عليها نوري السعيد، وإضرابه من الطغاة، في كل زمان ومكان.
إنهم، مثلاً، يهوشون ويفترون ويدسون على حزبنا المنشورات والشعارات والسياسات، ويزعمون أننا إذ نضع إمكانياتنا وطاقاتنا في خدمة أهداف الثورة، وحراسة الحكم الوطني من الأخطار، إنما نسعى إلى هدف خفي، ألا وهو اغتصاب السلطة، وفرض النظام الشيوعي في البلاد!!.
إن المرء لا يحتاج إلا إلى قليل من حسن النية، لكي يتبين أهدافنا الحقيقية في دعم الحكم الوطني، تلك هي الأهداف التي ليس من أخلاقنا أن نكتمها على أحد .
إن الشيوعيين أُناس لا يتقنون صناعات السياسة، وهم إذ ينبرون للدفاع عن حياض الثورة، ويدعمون قيادة عبد الكريم قاسم، وسياسته، إنما هم يفعلون ذلك عن إيمان، بأن في عملهم هذا خدمة كبرى لمصالح شعبنا، ولذلك فهم رغم كل هذه الضوضاء التي تثار حولهم، واثقون بأنفسهم ثقة لا تتزعزع ، وسيتابعون موقفهم هذا إلى نهاية الطريق، وبمزيد من الإصرار، ونكران الذات.
وثمة آخرون يدعون إلى [الاعتدال]، لكنهم رغم نياتهم الحسنة، يلتقون مع الفريق الأول في نتيجة واحدة، هي وضع السلطة في موضع صعب لا يأتلف مع واقع العراق، وهو بالتالي يساهم في عزل السلطة عن الجماهير الشعبية الواسعة، ويضعف كفاءتها القيادية.
إن هؤلاء مثلاً، يصرون على إبعاد الشيوعيين والتقدميين والعناصر الديمقراطية الكفوءة عن الحكم، وذريعتهم في ذلك هو تحاشي استفزاز المستعمرين.
إن الإنسان السوي لا يحتاج إلى أعمال الفكر لكي يدرك بوضوح أن المستعمرين قد استفزوا، وروعوا وانتهى الأمر منذُ صبيحة 14 تموز.
لقد استفزوا منذُ أن دُكت هياكل نظامهم الاستعماري، وأبيد عملائهم صبيحة 14 تموز. وإن عدوهم اللدود الذي أستفزهم هو عبد الكريم قاسم وصحبه، وليس الشيوعيين وحدهم، ولذلك عملوا، وسوف يعملون كل ما في وسعهم لتحطيم النظام الذي قام على أنقاض نظامهم البائد، ومصالحهم الزائلة، وإن كانوا لم يستطيعوا حتى الآن أن يبلغوا هدفهم، فليس ذلك إلا لأن يدٍ قديرة ماحقة ستلطمهم، ولأن الشعب العراقي وجيشه يقفان حارسان قويان على مصائر الوطن.
إن تجربة سوريا، ومصر، وإندونيسيا، وإيران، والأردن، وكل بلد أنتزع حريته من بين مخالب الوحش الاستعماري، تدل دلالة قاطعة على أن المستعمرين لا يرتضون بأقل من عودة نظام عبوديتهم القديم، بقيادة صنائعهم وأذنابهم، كما تدل هذه التجارب على أن المراضاة، والمصانعة لا تجدي مع المستعمرين.
إن ثورة العراق الظافرة قد جاءت ضربة موجعة وهائلة للمستعمرين وأعوانهم، ولذلك فسيظل العراق هدفاً لمؤامراتهم، وعدوانهم، سواء أتجه الحكم نحو إشراك التقدميين في الحكم، أو سار في طريق المراضاة، والمصانعة.
تلك هي مسألة فوق الجدل، وفوق كل ريب. إن تهويشات عملاء الاستعمار في الداخل ضد الخطر الشيوعي المزعوم، وسعيهم المحموم لإبعاد التقدميين، والشيوعيين، والديمقراطيين، والعناصر النظيفة والكفوءة عن المساهمة في أجهزة السلطة، ليس إلا تنفيذاً أميناً لخطط الاستعمار الرامية إلى إضعاف السلطة تمهيداً لضربها، وإسقاطها.
إن دعاة " الاعتدال " و" تحاشي استفزاز العدو" ، رغم نياتهم الحسنة، هم على خطأ بّين، وسيظلون ينقبون عبثاً، ودونما طائل، عن عناصر معتدلة، لا حزبية، غير مشهورة بأفكارها التقدمية، كفوءة، ومخلصة، ونزيهة!!.
إن مثل هذه العناصر الفريدة موجودة فعلاً، لكنها غير موجودة إلا في أوساط الحركة الديمقراطية، وأوساط الشيوعيين، والحزب الوطني الديمقراطي، والجيش، والديمقراطيين المستقلين، والقوميين الحقيقيين النظيفين.
هذا هو الطريق الوحيد، والصحيح، والمؤتلف مع حقيقة الواقع، إن هذا هو الحل الجدي والصائب لمسألة الحكم، وإن الأخذ بهذا الواقع هو الذي سيرسي قواعد الحكم على أسس ديمقراطية وطيدة، ويهيئ لقيادة البلاد جهازاً كفواً، فعالاً ومخلصاً، يأخذ على عاتقة نصيبه من مهام قيادة الحكم، ويوفر لزعيم البلاد معالجة مسائل السياسة العليا للبلاد.
إننا أيها الأخ الكريم، إذ نضع أمامكم هذه الحقائق، نرجو أن تكونوا على يقين أننا لا نفكر قط بأنفسنا، ولا نجني أي مكاسب حزبية، وإنما نفكر أولاً وقبل كل شيء بمصلحة البلاد، بنجاح الثورة، بترصين الحكم الوطني، والسير معكم نحو الظفر النهائي، هذا وتفضلوا بقبول خالص اعتزازنا، واحترامنا.
المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي
15 تشرين الثاني 1958
لقد كان لهذه المذكرة دوي كبير في الأوساط السياسية و للسلطة العليا على حد سواء، فالقوى القومية فسرته بأنه خطة الحزب الشيوعي في التمهيد للوثوب إلى السلطة، أما الحزب الوطني الديمقراطي، ممثل البرجوازية الوطنية في السلطة، فقد أبدى تخوفاً من تنامي قوة الحزب الشيوعي، وتأثير ذلك على مستقبل الحكم في البلاد، أما الزعيم عبد الكريم قاسم، فقد كانت الريبة والشكوك تخالجه من تنامي قوة الحزب الشيوعي من جهة، وحبه الشديد للاستئثار بالسلطة لوحدة من جهة أخرى، ولذلك فقد تجاهل مذكرة الحزب، ولم يرد عليها، وكان على الحزب الشيوعي أن يعي ذلك منذُ ذلك الوقت.
وجاءت مسيرة الأول من أيارـ عيد العمال العالمي ـ في بغداد، والتي نظمها الحزب الشيوعي، طارحاً من خلالها شعار[ إشراك الحزب الشيوعي في السلطة] بيد الجماهير، وضخامة تلك المسيرة، التي ضمت أكثر من مليون من أعضاء، ومؤيدي، وجماهير الحزب، من العمال والفلاحين ، والمدرسين والطلاب والأطباء والمحامين والمثقفين ، كصاعقة نزلت على الرؤوس جميعاً، وأدخلت الرعب فعلاً في قلب عبد الكريم قاسم والقيادة اليمينية في الحزب الوطني الديمقراطي، المتمثلة بكتلة [ محمد حديد وحسين جميل ] ورفاقهم، فقد شعروا أن الأرض قد زلزلت تحت أقدامهم وهم يسمعون هتاف الجماهير الصاخبة مطالبين إشراك الحزب الشيوعي في الحكم ، وبدا أن الشعب كله يقف وراء الحزب، ونزل الجنود، والضباط المؤيدين والمناصرين للحزب إلى الميدان أيضاً، وشعر المراقبون في ذلك اليوم أن الحزب الشيوعي قد بات قاب قوسين أو أدنى من الوثوب إلى الحكم .
وفي 13 تموز، وتحت ضغط الحزب الشيوعي، أجرى عبد الكريم قاسم تعديلاً وزارياً، أدخل بموجبه الدكتورة [نزيهة الدليمي]، عضوة اللجنة المركزية للحزب في الوزارة، وعينها وزيرة للبلديات، كما عين كل من المحامي [عوني يوسف] ـ ماركسي ـ وزيراً للأشغال والإسكان، والدكتور [ فيصل السامر ] ـ يساري ـ وزيراً للإرشاد ، والدكتور[ عبد اللطيف الشواف]، وزيراً للتجارة.
لكن إجراء قاسم لم يكن سوى خطة تكتيكية، ولفترة محدودة من الزمن، ريثما يحين الوقت المناسب لتوجيه ضربته للحزب الشيوعي.
أما الإمبريالية، فقد راعها أن ترى تلك المسيرة تملأ شوارع بغداد، وسائر المدن الأخرى، تهتف للحزب الشيوعي، وتطالب بإشراكه في الحكم، و أصابها دوّار شديد، وباشرت أجهزته على الفور تحبك الدسائس، عن طريق عملائها وأزلامها، لتشويه سمعة الحزب الشيوعي، وإدخال الخوف والرعب في نفوس قيادة الحكم، والبرجوازية الوطنية، ودفعها إلى مرحلة العداء للحزب الشيوعي، والعمل على تصفية نفوذه، تمهيداً لعزل السلطة وإضعافها، وبالتالي إسقاطها فيما بعد.
وحقيقة القول، كان للحزب الشيوعي كل الحق في الاشتراك في تسيير دفة الحكم، والمشاركة في السلطة، شأنه شأن بقية أحزاب جبهة الاتحاد الوطني على أقل تقدير، إن لم يكن له دور مميز في جهاز السلطة، نظراً للجهود التي بذلها الحزب من أجل حماية الثورة، والدفاع عنها، وصيانتها من كل محاولات التآمر، ووقوف الحزب إلى جانب قيادة الثورة، وزعيم البلاد عبد الكريم قاسم، مسخراً كل قواه، دون قيد أو شرط.
إذاً ليس في ذلك من حيث المبدأ خطأ في مطالبة الحزب الشيوعي إشراكه في السلطة، غير أن الأسلوب الذي تم فيه طلب إشراكه في السلطة، ونزول ذلك الطلب إلى جماهير الشعب، من أجل الضغط على عبد الكريم قاسم، أعطى نتائج عكسية لما كان يهدف إليه الحزب من تلك المسيرة.
لقد أخطأ الحزب في أسلوب معالجة مسألة إشراكه في السلطة، ثم عاد وأخطأ مرة أخرى عندما تراجع، واستمر في تراجعه أمام ضغط عبد الكريم قاسم، وضرباته المتلاحقة، مستغلاً أحداث الموصل وكركوك، وكان بإمكانه وهو في أوج قوته أن لا يسمح لقاسم أن يوغل في مواقفه العدائية تجاه الحزب.(5)
أن لجوء قاسم إلى سياسة العداء للحزب الشيوعي لم يكن هناك ما يبررها إطلاقاً، فلم يكن في سياسة الحزب وتفكيره إطلاقاً الوثوب إلى السلطة، وهو لو أراد ذلك لكان من السهل جداً له استلام السلطة عام 1959، عند ما كان الحزب في أوج قوته، سواء بين صفوف جماهير الشعب أو في صفوف القوات المسلحة، لكن الحزب لم يقرر هذا الاتجاه مطلقاً بل كان جُلّ همه حماية مسيرة الثورة ودفعها إلى الأمام، من أجل تحقيق المزيد من الإنجازات والمكاسب للشعب، وكان وفياً لعبد الكريم قاسم، وهو الذي منحه صفة [الزعيم الأوحد]، ووقف إلى جانبه حتى النهاية.
وفي المقابل وقع عبد الكريم قاسم في خطأ جسيم عندما سلك سبيل العداء للحزب الشيوعي، وعمل على استمالة القوى القومية، محاولاً إرضائها دون جدوى، فقد كانت تلك القوى قد حزمت أمرها على تصفية الثورة، وتصفيته هو بالذات.
لقد استفادت تلك القوى فائدة كبرى من مواقف قاسم العدائية تجاه الحزب الشيوعي، التي أدت إلى انعزاله عن الشعب، وعن القوى التي وقفت بكل أمانة، وإخلاص إلى جانبه، وكانت محاولة عبد السلام عارف الانقلابية، ومؤامرة رشيد عالي الكيلاني، ومحاولة حزب البعث اغتيال قاسم نفسه، في رأس القرية، ومحاولة العقيد الشواف الانقلابية الفاشلة، أكبر برهان على صواب مواقف الحزب الشيوعي من تلك العناصر التي سلكت طريق التآمر منذُ الأيام الأولى للثورة.
وفي الوقت نفسه أثبتت تلك الوقائع خطأ الطريق الذي سلكه عبد الكريم قاسم، وإجراءاته المعادية للحزب الشيوعي، والتي مهدت السبيل لانقلابيي 8 شباط، لاغتيال الثورة، واغتياله، وإلحاق أفدح الأضرار بالشعب العراقي التي استمرت إلى يومنا هذا.