Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

مناجاة على ضفاف القيامة

ما بين مولدك انبجاس الفلق وبشارة الألق، وبين صعودك المدهش المدوي دماء الغسق بين ولادة ليست من سنخ الولادات وميلاد لا يمت للمواليد بصلة، وبين خاتمة مفتوحة لم تسبقها نهايات وموت لا ينتمي لعالم الأموات، بين بدايتك تلك وقيامتك هذه.. مسافة، مسافة كومضة حلم شيق في حسابات الزمن، وكامتداد نشأة التكوين إلى قيام الساعة في مقاييس المنجز!.
بضع خطوات من تراتيل نورانية، وبضع تمتمات من تسابيح تجاوزت بها الحجب.. طويت بها المشارق والمغارب واختزلت الزمن، قطرات ندى غيبي ابتغيت بها تطهير النفوس مما كساها من أدران ولاث طباعها من دنس. أردت بها تنوير ما غلف القلوب من بغضاء، وإزالة ما طمس الأعين من غشاوة. لكنهم، ولسوء طالعهم، لم يعرفوك برغم فيوضات بركاتك، وسماحة تعاليمك، فأسلموك لطواغيتهم، وخلوا بينك وبين مخالب الشر.
فكيف يسكت عنك المتجبرون وقد رأوا فيك تهديدا مرعبا لعروشهم، وتهديما مباشرا لأطماعهم ومصالحهم، وفضحا لخبث سرائرهم، وحربا على مباذل الخطيئة التي طبعت سلوكهم!.
مولدك المعجزة.. وقيامتك الأعجز بكل ما انتشت به البداية من حبور ومسرات وفرح، وبهَول ما عبئت به النهاية من فجائع وغصص، التقيا بتمازج مذهل وانسجام أعجب ليغرسا قيما وعقائد ومباديء.. ليسطرا آيات وإصحاحات.. ليرسيا دعائم إيمان راسخ.. ليعزفا ترانيم التقديس ولينشدا تسابيح وتهاليل الملائكة وليعلنا أعيادا ولا كل الأعياد!.
فكانت قيامتك صرخة مدوية سفهت ادّعاءات المتغطرسين وتفّهت تخرصات المعاندين، وألجمت أفواه المفترين والمشككين، وأخرست ألسن الشياطين. مثلما كان بزوغك فيوضات نور حررت بني البشر من أغلال عبودية الحقد والكراهية وأخرجتهم من ظلمات رقّ وتسلط المستبدين المتعسفين وزينت أرواحهم بمنهج التوحيد والمعاني الإلهية السامية وأسبغت عليهم أنعم الهداية والرحمة والمحبة والخير والجمال.
سيدي الأجل: إن مخالب الشر التي تطاولت على جسدك الطهر الزاكي وذبحت من قبلك معمدانك النقي يوحنا ومن بعده نظرائه من القديسين والصديقيين والشهداء هي نفس المخالب التي فلقت هام أخيك علي في محراب الكوفة.. وبقرت بطن عمر بن الخطاب في المسجد النبوي!. وإن رماح الضلاليين التي جالت في أحشائك هي عين الرماح التي رفع عليها رأس حفيديك الحسين والعباس.
وإن الأيادي التي طاردت وتطارد أتباعك هي نفس الأيادي التي غرست المسامير في جسدك النوراني.
وهي.. وهي التي تزرع الخراب والذبح والدمار، وتشيع الرعب والظلام في عراقنا الجريح وشعبه الصابر.
سيدي المبجل: عشرون قرنا من أعمدة الزمن ذابت كما تذوب ذرة ملح على شاطيء الفرات ولما يذب بعد حرف من حروف وصاياك، وما زالت كنيسة المهد "المغارة" تتعطر بأنفاس ميلادك.. تطوف بها الحجاج من كل بقاع الأرض. وما زال طريق الجلجثة يستقبل المعزين بفراقك والمتبركين بتراب قدميك.
ألف هيرودس وألف بيلاطس وألف يهوذا طوتهم السنين وتلاشوا مع التراب، فإن ذكروا سالت مثالبهم كصديد نتن متبوعين بالعار واللعنات. بينما صار صليبك شارة عز تزين الصدور والأعناق وتشرف واجهات العمران وتعتلي أبراج الكنائس والأديرة والقلاع وتعانق النواقيس والأيقونات.
صوتك الذي ظنوا واهمين أن باستطاعتهم كتمه امتد مطبقا على الآفاق، ونهجك الذي سعوا لمحوه خائبين استطال ليغمر الأبعاد الثلاثة دائرا مع الأفلاك والدهور حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
أتدري أيها القبس المقدس، وأقسم أنك تدري، بأن وصاياك وتعاليمك التي فاضت رحمة وخير وجمال ومحبة.. والتي صلبت من أجلها فاديا، عادت غريبة متخوفة في عالم يعج بالشرور والخبث والفساد. وإن من تبقى من حملتها ومريديها متفرقون مشتتون ضائعون؟!.
وعدا بعض اليائسين والقانطين فإن أعناق المخلصين تمتد وأعينهم ترنو وترقب متطلعة لمقدمك مخلصا مثلما بدأت فاديا لتملأها قسطا وعدلا بعدما مُلأت ظلما وجورا وشرورا.

* المقالة من العدد الجديد (قيد الطبع) من مجلة الأفق (أوبقا) الصادرة عن بطريركية الكنيسة الشرقية القديمة في العراق.
* حميد الموسوي: كاتب عراقي ينشر في عدد من الصحف والمجلات العراقية والعربية Opinions