مناظرات التفليش ومناظرات الإنتصار لهدف
دياب أبو جحجح، شاب بلجيكي من اصل لبناني، وأبرع سياسي في المناظرات المباشرة، شاهدته أو سمعته أو قرأت عنه، وليس على مستوى العرب بل الغرب وربما العالم! رغم ذلك فهو ليس معروفاً اليوم خارج نطاق بلجيكا وهولندا، وربما لم يعد يذكره الكثيرين هناك ايضاً. أسس أبو جحجح تجمع "الرابطة العربية الأوروبية" في مدينة انتوربن، ثاني مدن بلجيكا وأكثرها ازدحاماً بالعرب الفقراء واليهود من أثرياء تجار الماس، ومعقل الأحزاب الشوفينية الفلمنكية المضادة للعرب والمسلمين. قاد الرابطة باقتدار نادر وفي منتهى الشجاعة للدفاع عن حقوق المغتربين وتمكن من تأسيس علاقات وائتلافات مع أحزاب بلجيكية يسارية، ونظم التظاهرات الإحتجاجية على قتل مغربي على يد بلجيكي عنصري، ولاحق الشرطة البلجيكية بفريق يحمل الكامرات ليسجل سوء معاملتها للمغتربين، وكان حديث الصحافة الأول في عام 2002، أيام الغليان الطائفي والعنصري في البلدين الجارين.
رغم كل ذلك، أنتهت حركته بالإحباط والتلاشي ولم يتبق منها أية نتيجة إيجابية، ولا يثير إسمه اليوم سوى رد فعل سلبي، ليس فقط عند البلجيكيين وإنما حتى عند (المثقفين من) العرب الذين دافع عنهم، فكيف حدث ذلك؟ إنها قصة ماساة ضيق النظر، والإغراق في الجدال والمناظرة وغياب الرؤية البعيدة والهدف النهائي. لقد توقعت حينها تلك النتيجة وحاولت الإتصال بالشاب وتحذيره منها لكني لم احصل على فرصة للقائه للأسف، ولا أعلم جدوى ذلك لو حدث.
يذكرني موضوع المناظرة والهدف الأبعد، بحدث في السبعينات في جامعة الموصل. فقد تعين أستاذ شاب في المرسم، ودخلت معه في "مناظرة" فلسفية عن الحياة في أول أو ثاني لقاء لنا. وحين خرجت من المرسم مع صديقي جعفر (الرسام العراقي المعروف حالياً جعفر محمد صادق) قال لي بصوت فيه خيبة أمل: "كنت أتوقع منك أن "تفلشه" في النقاش"! فقلت له: "ولماذا تريدني أن "أفلشه"؟ سكت جعفر، فأكملت: "لم يكن ذلك صعباً.. هل تذكر اللحظة التي قال فيها (كذا..)؟ كانت مراوغة مفضوحة منه، ولو أني ضحكت فقط في تلك اللحظة، لافتضحت المراوغة و "تفلش" الرجل،.... لكن لم يكن هذا هدف النقاش بالنسبة لي". سكت جعفر ثم اعترف قائلاً: "لم يخطر ببالي وجود "هدف" للنقاش..."
ذكرتني مناظرة الدكتورة حنان الفتلاوي مع الدكتور طلال الزوبعي، بذكريات الموصل وأحداث بلجيكا، وشعرت أن نتائجها المخيبة للآمال تتكرر اليوم في العراق. أردت الكتابة عن الموضوع ضمن مقالتي السابقة التي دارت حول اتهامات مجحفة للدكتورة حنان بتحوير تصريحاتها في نفس تلك المقابلة التلفزيونية على "السومرية"(1).لكن تلك المقالة طالت فقررت فصل الموضوع في مقالة مستقلة، خاصة وأنه يتحدث عن ظاهرة عامة ليست خاصة بحنان الفتلاوي، ظاهرة النقاش من أجل "التفليش".
ولو شاهدنا ردود أفعال المشاهدين، وكذلك لو قرأنا العناوين التي توضع لأفلام الفيديو على اليوتيوب لتلك المناظرات من قبل مؤيدي أحد الطرفين، لوجدنا أن ظاهرة "تفليش المقابل" كهدف ، واضحة جداً لدى "المشجعين" أيضاً. لم أحتج إلى أن أبحث كثيراً عن أمثلة، فما ظهر أمامي على صفحة اليوتيوب عند فتحي لرابط المقابلة أعلاه كان يكفي ويزيد، ولننظر بعض العناوين التي اختارها المشاهدون لتلك المناظرات:
"حنان الفتلاوي اطيح حض طلال الزوبعي وكل قائمته " و"حنان الفتلاوي تنهي التيار الصدري بالضربه القاضيه !!" و "حنان الفتلاوي تطيح بمها الدوري وتفضحهااا" و "حنان الفتلاوي تطيح حظ الارهابي الداعشي ظافر العاني" و "البطلة حنان الفتلاوي الما يعجبه رئيس شيعي خلي يضرب راسة بالحايط " و "حنان الفتلاوي ترد على علي حاتم السليمان وتمسح به الارض" و "حنان الفتلاوي تمسح الكاع بالكرد وتزلهم رزاله غسل ولبس "
وطبعاً ليست حنان الفتلاوي "بطلة" كل الحلبات، فهناك أيضاً: "فديو جديد الشيخ علي حاتم يمسح بكرامة حنان الفتلاوي " و "الشيخ علي حاتم السلمان يشرشح ثائر الدراجي الشاذ جنسيا" و "الشيخ علي الكوراني يفضح طه الدليمي بهروبه من ثائر الدراجي " و "مريم الريس تؤدب مها الدوري" .. الخ.
لا شك أننا أمام عناوين لحلبات مصارعة وليس مناظرات لها أهداف سياسية بعيدة المدى. ماهي الأهداف البعيدة؟ إنني لا أبحث عن مناظرات مملة تتجنب الإحراج من أجل الظهور بمظهر الأدب المزيف، بل الإحراج الذي يوظف ليدفع بالأمور إلى النتيجة المرجوة والوصول إلى بعض الوضوح وربما الإتفاق على خطوة تالية إن كان المقابل حسن النية، أو محاصرته وجعله يرضخ لقبول ما قد لا يقبله بدون محاصرة وإحراج وإجباره على تعهد محدد يمكن متابعته، ويعلم أن التهرب منه سوف يجعله يخسر جمهوره.
هناك نقطة مركزية يعرفها كل المتناظرين، وهي أن الحديث لا يوجه في حقيقته إلى الشخص الذي أمامه في الأستوديو، بل إلى مئات الآلاف وربما الملايين التي تشاهد البرنامج حياً أو فيما بعد. وأن الهدف هو إقناع الجمهور الحيادي والمعارض بما نقول، أو تحييد موقفه المعادي. ومن الواضح أن مبدأ "تفليش المقابل" لا يحقق مثل هذا الهدف ابداً. المناظر حين يهدف إلى ذلك التفليش فإنه يضع نصب عينيه جمهوره هو فقط وناخبيه هو فقط. والحقيقة أنه لا يكاد يكسب شيئاً من ذلك ولا يقنع أحد بأي شيء لم يكن مقتنعاً به سابقاً. وبالتالي فأن "تفليش المقابل" لا يخدم سوى التطرف لكل من الطرفين في موقفه وابتعاده عن الآخر واليأس من التعامل معه. ومن الوهم التصور بأن تفليش المقابل يعني كسب بعض جمهوره حين يرون خطل حجج صاحبهم. ففي الغالب سيتكفل الإستقطاب التحيز الطائفي بأن يعتبر كل طرف أن صاحبه قد "أنتصر". فها نحن نرى أحد الطرفين يرى أن حنان الفتلاوي ترد على علي حاتم السليمان وتمسح به الارض"، ويرى الطرف الآخر العكس وأن : "الشيخ علي حاتم يمسح بكرامة حنان الفتلاوي "، وهما يريدان تصديق ذلك حتى لو أضطر كل منهما إلى اقتطاع جزئين مختلفين من نفس المقابلة ونشره على اليوتيوب! إنه دليل ناصع على خطل فكرة كسب الجمهور عن طريق "التفليش"..
في هذه المقابلة أعلاه بالذات كان مقابل حنان الفتلاوي شخص ساقط بكل معنى الكلمة، ولا يمكن بناء أي شيء معه، وللفتلاوي عذرها في فضحه، لكن هذا ليس الحال دائماً. ففي مقابلتها مع الدكتور طلال الزوبعي كان المقابل مؤدباً وبناءاً إلى درجة بعيدة، لكن حنان رفضت أن تبني معه، ولم يظهرمن اي من أجوبتها أنها استمعت إلى أي شيء قاله، إلا ما تحتاجه لتركيب أقسى رد ممكن يحقق أقصى "تفليش" ممكن في المقابل – وهذا هو الطريق المسدود بالنسبة للوطن. كانت الدكتورة حنان تبدو وقد قررت تحطيمه ولعلها تخيلت جمهورها وهو يصفق لها مع نهاية كل جملة حاسمة ودقيقة، ويبدو أن هذا صار هو الهدف في النقاش.
إن تحويل المناظرات إلى عمليات "تفليش" متبادل، ليس مجرد "خطأ" شائع بين الساسة، بل هو هدف محدد للمؤسسات المكلفة بتحطيم العراق والعرب بشكل عام. خذوا الجزيرة في برنامجها "الإتجاه المعاكس" وهذا الشخص المفضوح الذي يدفع بالمتناظرين عنوة، بصوته وبأسئلته المستفزة، ليتحولوا إلى ديوك صراع ويمنع أي نقاش هادئ قد يوصل إلى نتيجة يستفيد منها المشاهدين. وخذوا موقع "الحوار المتمدن" الذي يحرص على تركيز الضوء على كتاب مكلفين بتحويل أي نقاش بين الدين والعلمانية إلى "مهالس". إنهم لا يحرصون إلا على توجيه الإحتقار المتعمد للدين والمتدينين واستثارتهم للرد عليهم بنفس القسوة. إنني لا أذكر مرة أنتهى فيها الإتجاه المعاكس أو مقالات الحوار تلك إلى تفاهم الطرفين حول صحيح مشترك يصلح أن يكون منطلقاً لحل المشكلة بل أن يفترقا دائماً يائسين من بعضهما البعض، هذا إن لم ينته البرنامج بعراك بالأيدي أو بما هو أكثر منها. والأمر لا يقتصر بالطبع على فضائية الجزيرة ولا على موقع الحوار المتمدن، فحيثما يلفت المرء نظره يجد أدلة على اثر تخريبي للنقاش في الطيف الإعلامي العراقي والعربي، وعلى من يقف وراء ذلك.
إنني أؤكد هنا ثانية أني لا اقصد أن تكون المناظرة رقيقة وسهلة، بل ربما العكس، أن تكون حادة وواضحة ومحرجة وصعبة، ولكن ذات هدف. لقد كان دياب أبو جحجح من المهارة بحيث كان يواجه في العادة أكثر من مناظر من قادة الأحزاب العنصرية معاً وكان "يفلشهم" حقاً في كل مرة. وكم من مرة سخر من قائد حزب وبرهن أنه لا يعرف قانون بلاده ودستورها وتاريخها الذي يدعّون الإعتزاز به، وأفحمهم بلباقته وهو اللاجئ الذي تعلم لغتهم متأخراً، وكم من مرة غادر هؤلاء ساحة "المعركة" غاضبين لأنهم لم يجدوا الجواب على محاصراته لهم. وكم مرة لجأ بعضهم إلى استفزازه بإهانة دينه وربه أمامه بدون مناسبة وبابشع الكلمات التي لا يقولها قوادوا الشوارع الخلفية لمدن الصفيح....لقد رأيته مرة في برنامج يجيب بسرعة خارقة على محاورين متخصصين بالحوار التلفزيوني، كانا قد استعدا له بكل ما يستطيعان، وكان كل منهم يحرص أن يقاطعه قبل أن ينتهي من إجابة سؤال زميله، ويطرح عليه سؤالاً بحدة وسرعة، لكي يرهقه ويمنعه من التركيز، وكان أبو جحجح يجيب ويجيب بلا تلكؤ أو توقف عن الأسئلة المتتابعة بسرعة وبدقة ولمدة ثلاثة أرباع الساعة ولا يثور للأسلوب ولا للإجهاد.....
رغم كل ذلك أنتهى هذا العبقري بـ ... "لا شيء"!! لاشيء بالنسبة لقضيته المركزية التي جاء ليدافع عنها وخاطر بحياته من أجلها. فكيف حدث هذا وكيف كان يجب أن يكون؟ أين يكمن الفرق الأساسي بين من يناظر لتفليش المقابل مع من يناظر لينتصر لهدفه الأبعد؟ الأول يفعل كما فعل أبو جحجح ويفعل معظم سياسيينا على وجه العموم: يركز على كلمات المقابل متصيداً الثغرات والزلات ومشغلاً فكره بسرعة ونشاط لوضعها بأكثر الأشكال قوة في لتحطيم مصداقية المقابل بأي شكل كان، مستعيناً ربما بالمقاطعة والإستمرار بالحديث وارتفاع الصوت والوجه الغاضب المحتج أو حتى اللطف المصطنع أحياناً. وإن ذكر المقابل حقيقة هامة فإنه يحرص أما على تجاهلها تماماً، أو الرد عليها بحقيقة أخرى مقابلة لا علاقة لها بها. إنه لا يعتقد أن هناك مكان للأمانة في النقاش واحتمال تراجع عن أية نقطة أو الإعتذار عن أية مسألة أو إعطاء الحق للمقابل في أية ملاحظة.. هناك فقط الضرب والضرب والصد والضرب حتى ينهار موقف المقابل وعندها يضحك ضحكة الإنتصار وتفليش المقابل ومؤيديه معه!
وكيف يتصرف من يناظر لينتصر لهدفه؟ إنه يبدأ بدراسة هدفه ودراسة موقف نظيره من هذا الهدف، وبالبحث عن المشتركات التي تعطيه فرصاً لدفع نظيره إلى دعم ذلك الهدف. فإن لم يجد فإنه يقرر إحراجه أمام مؤيديه، ويبدأ بالتركيز على نقاط ضعف موقف رسيله ومحاججاته، ويشغل فكره بنشاط أيضاً لكي يضع تلك النقاط بأقوى الجمل أمام المستمعين وبالشكل الذي لا يستطيع نظيره أن يرد عليه.. وفي تلك اللحظة، وبدل ضحكة الإنتصار المهينة لنظيره ومؤيديه، يقدم صاحبنا اقتراحه وبكل احترام، فلا يجد نظيره إلا طريقاً واحداً للخروج من الإحراج، وذلك بالموافقة المبدئية أو كشف نفسه كمنافق! وهنا حقق نقاشه نصف الإنتصار، لكنه لن يكتفي بذلك بل سيطلب أن تفعّل تلك الموافقة باتفاق عملي معين ومحدد وقابل للفحص والمتابعة مستقبلاً قدر الإمكان، ويصب في هدفه البعيد! عندئذ، لهذا الرجل أن يبتسم منتصراً، وقد يشعر مناظره بالهزيمة، لكن ليس الإهانة، وقد يشعر مؤيدوه بالخسارة لكن ليس بالحقد، ويتجه البعض منهم بالتأكيد إلى التفكير بتبني موقف خصمهم أو جزء منه في الأقل، وهذا هو كل ما يطمح إليه الرجل.
لقد برهنت تجربة أبو جحجح بشكل تام ونهائي، أن طريق المحاججة الهادفة للتفليش، لا يؤدي إلى الإنتصار للهدف السياسي، مهما كان السائر فيه عبقرياً متفوقاً على خصومه، بل يجب أن يكون التركيز على الهدف الأبعد. وإذا كان هدف المؤسسات الإعلامية المشبوهة في كل جهودها هو أن تدفع بجانبي النقاش إلى اليأس من بعضهما البعض، فيجب أن يكون الهدف الأبعد للمثقف والسياسي في هذه البلاد أن يمنع هذا اليأس، وأن يعيد لأطراف النزاع في وطنه الثقة بإمكانية التفاهم .. بإمكانية العيش معاً. هذا يجب أن يكون هدفه، وبهذا يجب أن يقيس انتصاره وليس بكمية العرق التي تسيل من خصمه في نهاية الجلسة.
****
يقول شاعر داغستان رسول حمزتوف "وأنت تحمل خنجرك، لا تنس أن الذي يقف امامك إنسان!" وأقول للمتناظر: نريد أن نرى فيك عبقرية الإنسان الهادف، وليس مهارة الديك هراتي!
(1) خفايا معلنة: هل يتم القضاء على القاعدة في الأنبار؟ - الحلقة 3 - YouTube
https://www.youtube.com/watch?v=VRw1_pZk_qc
6 نيسان 2014