نقاش اقتصادي مفتوح وصريح مع السيد الدكتور برهم صالح نائب رئيس الوزراء العراقي / الحلقة الخامسة والأخيرة
هل من رؤية واقعية للتنمية الصناعية في فكر وسياسة الدكتور برهم صالح؟سأحاول في هذه الحلقة أن أعالج مسألة واحدة ترتبط بموضوع التصنع واللبرالية الجديدة, رغم وجود الكثير من المسائل الأخرى التي تستوجب النقاش مع السيد الدكتور برهم صالح بسبب جرأته في طرح وجهات نظره والحيوية التي يتحرك ويمارس عمله بها, وكثرة المسائل التي تتوجه اهتماماته لها والتي لا مجال لمعالجتها بمقالات قصيرة وسريعة. وأعد القراء بمناقشتها.
من المعروف إن الأطراف الثلاثة المبشرة والداعية إلى الأخذ بإيديولوجية اللبرالية الجديدة وسياساتها الاقتصادية على صعيد الدول النامية هما المؤسستان الماليتان الدوليتان, البنك الدولي وصندوق النقد الدولي, إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية ذات النفوذ الكبير في وعلى هاتين المؤسستين. وتسعى هذه الأطراف إلى توقيع اتفاقيات مع الدول الأخرى, ومنها دولة العراق للالتزام ببرنامجها من أجل تقديم المساعدة أو الدعم لها أو إعفائها من بعض الديون التي بذمة الدول النامية. وهذا ما حصل في العراق والذي تجلى في إقناع العراق بتطبيق ما يطلق عليه بـ"برامج وسياسات التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي" التي تشمل رؤية محددة التزم بها ونفذها بريمر وواصلها السيد الدكتور برهم صالح في مواقفه وسياساته الاقتصادية ومناقشاته في مجلس الوزراء وفي خطبه المختلفة. وتشمل هذه السياسة كل فروع وقطاعات الاقتصاد الوطني والسياسات المالية والنقدية والتجارية وتخفيض الإنفاق العام وإيقاف الدعم الحكومي للسلع والخدمات والحد من ارتفاع الأجور مع الرغبة في زيادة ارباح الرأسماليين ... الخ, ولكن بشكل خاص رفض وجود قطاع دولة اقتصادي وخصخصة جميع مؤسسات الدولة الإنتاجية والخدمية والأخذ المطلق بمبدأ وسياسة التجارة الحرة غير المقيدة بأي قيد حكومي, أي سياسة الباب المفتوح ورفض أي حماية للسلع المنتجة محلياً, سواء أكانت سلعاً صناعية أم زراعية أم حرفية. ومثل هذا الموقف يقود في بلدٍ مثل العراق إلى عواقب وخيمة منها: ارتفاع حجم البطالة واستهلاك واسع للدخل القومي دون تحقيق التراكم الرأسمالي وتفاقم التباين في مستوى المعيشة والفجوة الداخلية بين الفئات الاجتماعية واحتمالات التضخم وارتفاع الأسعار غير المنضبط وتراجع جدي في حجم ونفوذ ودور الطبقة الوسطى الصناعية والزراعية والخدمات الإنتاجية, وتعاظم المضاربات في الأسواق المالية وتنامي التناقضات الاجتماعية وتحولها إلى صراعات سياسية وبالتالي إلى نزاعات سياسية لا يعرف الإنسان عواقبها. إن هذه العملية تبقي وجود فئات اجتماعية تعيش على هامش الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وتتفاقم المشكلات التي تتفجر في مثل هذه الأوساط الاجتماعية البائسة والمنسية من جانب الدولة.
وكل المعطيات التي تحت تصرفي والتي تجمعت لدي من خطب ومقالات وتصريحات أدلى بها الأخ الدكتور برهم صالح تشير إلى أن السيد نائب رئيس الوزراء مؤمن إيماناً قاطعاً حتى الآن بهذه الإيديولوجية الرأسمالية المتطرفة, اللبرالية الجديدة, بأشد أشكالها ابتعاداً عن واقع الحياة في الدول النامية وحاجاتها للتنمية الإنتاجية, وخاصة في قطاعي الصناعة والزراعة. ومجرد القبول برفض قوانين وقواعد الحماية الوطنية للإنتاج المحلي من جهة والقبول المطلق بالتجارة الحرة غير المقيدة من جهة ثانية, يعني القول دون أدنى تردد بأن الدكتور برهم صالح ضد التصنيع المحلي وضد البرجوازية الصناعية ولكنه إلى جانب البرجوازية التجارية التي تعتمد على الاستيراد وعلى إبقاء الاقتصاد الوطني العراقي ومنه اقتصاد إقليم كُردستان العراق, شاء ذلك أم أبى وأدرك ذلك أم لم يدركه, في حالة من التخلف والتبعية واستهلاك الدخل القومي دون تحقيق تعظيم الثروة الوطنية على أسس سياسة عقلانية واعية.
كلنا يعرف, حتى إن لم يكن الإنسان اقتصادياً, بأن الصناعة والزراعة في أي بلد من البلدان هي عصب الحياة النابض, وهي القادرة على خلق فرص عمل جديدة ومنشآت اقتصادية مكملة جديدة وتراكم الثروة الوطنية وإنتاج الدخل القومي وتنويعه وزيادة الأجور المدفوعة وتحسين السيولة النقدية وتقليص الاستيراد والاحتفاظ بقسط من إيرادات النفط لصالح التثمير الإنتاجي. وأن بلداً مثل العراق يملك الثروة النفطية والموارد المالية, يكون في مقدوره أن يطور سلسلة طويلة من الصناعات المحلية باستخدام الأموال العامة أموال الدولة النفطية لصالح التنمية الزراعية والصناعية لا في مجال البنية التحتية, ومنها الري والبزل والطاقة الكهربائية والماء الصالح للشرب والنقل والتعليم العام والمهني ومراكز البحث العلمي النظري والتطبيقي والصحة ..الخ فحسب, بل وفي التنمية الصناعية والزراعية في قطاع للدولة, إضافة إلى تنشيط القطاع الخاص المحلي والأجنبي وتوفير مستلزمات مشاركته في التنمية.
لا يختلف إثنان في واقع أن السادة, الدكتور برهم صالح, نائب رئيس الوزراء, والدكتور علي بابان, وزير التخطيط, والأستاذ فوزي حريري, وزير الصناعة, كلهم من ملتزمي اقتصاد السوق الحر, وأنهم يسعون إلى تكريس هذا الاتجاه في الاقتصاد العراقي, ومنه اقتصاد كُردستان, كما أن الأستاذ نيجرفان بارزاني, رئيس وزراء الإقليم, يشترك معهم في التزام اقتصاد السوق الحر أيضاً. ولكن في نجد تبايناً واضحاً حتى الآن بين الدكتور برهم صالح وبين عضوي الحكومة العراقية الاتحادية في الموقف من التصنيع ومن بعض التفاصيل المهمة. يقول السيد وزير الصناعة في إجابته عن بعض الأسئلة التي وجهت له ما يلي:
"يمكن لي أن أعزو السبب الرئيس إلى غياب الخطة الاقتصادية الشاملة خلال فترة ما بعد التغيير في العام 2003 حتى الآن، وأقول إن الصناعة لم تكن حاضرة في أذهان الحكومات السابقة منذ مجلس الحكم مروراً بالحكومات الانتقالية بسبب طغيان الأولويات التي تتصل بالجانب الأمني فضلاً على عدم توفر التخصيصات اللازمة الموازنة الاستثمارية للعام 2006، اعتمدت للوزارة 14 مليار دينار فقط، كانت 41 مليار دينار في العام 2007 و 438 للعام 2008 وهي تقارب ألـ 50 مليار دينار للعام الحالي 2009 وهي في مجملها لا تغطي حاجة القطاع الصناعي الفعلية. وماذا عن القوانين التي يمكن ان تسهم في تفعيل الصناعات الوطنية؟ لا تزال تراوح في اروقة مجلس النواب، وقد اقرت ثلاثة مشاريع قوانين اعتبرها غاية في الاهمية من قبل مجلس الوزراء، هي قوانين حماية المنتوج الوطني والتعرفة الجمركية وحماية المستهلك وهي في طبيعة الحال تمثل بيئة تشريعية مثلى يمكن ان تعطي دفعاً للمنتجات الوطنية وأن تحد من الاغراق السلعي وتؤمن منافسة حقيقية للبضائع والسلع المستوردة ذات المناشئ والمواصفات الرديئة التي تعج فيها الاسواق العراقية حاليا. يقدر الخبراء الكلفة الفعلية لتفعيل القطاع الصناعي بـمليار دولار، ماذا عن هذه التقديرات؟ اؤكد ان حاجة الصناعة العراقية تتجاوز هذه التقديرات لتصل الى اكثر من 1.5 مليار دولار وعلى مدى سنتين وعن طريق الاستثمار وفق خطة لتفعيل الشركات والمعامل وتوسيع القدرات الانتاجية وصولا الى ناتج الطاقات التصميمية". كما كنت قد أشرت في حلقة سابقة إلى موقف السيد وزير التخطيط الإيجابي من الصناعة الوطنية والإنتاج المحلي بشكل عام.
إن المسألة لا ترتبط برغبتنا أو عدم رغبتنا بالقطاع الخاص, بل ترتبط بمدى قدرة الدولة على توفير المناخات والمستلزمات والمحفزات المناسبة لتنشيط توجه أصحاب رؤوس الأموال المحليين والأجانب صوب التثمير الإنتاجي في الصناعة والزراعة وفي القطاعات الخدمية, وبشكل خاص موضوع الأمن والاستقرار السياسي والبنية التحتية. ومهما عقدت من مؤتمرات دولية في بريطانيا أو في دول أخرى لإقناعهم بالاستثمار في العراق, فأن الاستجابة ستبقى في الحد الأدنى ما لم يتم توفير الضمان الأمني والمحفزات الأخرى.
إن الحديث عن أهمية القطاع الخاص لا يختلف فيها اثنان, ولكن السؤال: كيف يتم ذلك؟ علماً بأن الجهود المبذولة لهذا الغرض نادرة حقاً. ووفق تصريح السيد رئيس اتحاد الصناعات العراقي فأن 90% من المنشآت الصناعية متوقفة عن العمل ولم تبذل الجهود لإعادة العمل بها, في حين أن ال 10% تعمل بفعل المبادرة الذاتية. وهنا يفترض أن نتساءل عن دور الحكومة لدعم القطاع الخاص.
24/5/2009 كاظم حبيب