نهاية اسطورة صدام ومأزق الحكومة العراقية
مهما حاولنا التقليل من دور صدام في التاريخ الحديث للعراق ، فإن محاولاتنا تذهب أدراج الرياح إن لم نتسم بالواقعية والموضوعية ، فصدام حسين جزء من تاريخ العراق شئنا أم أبينا .لقد حمل صدام حسين فكر قومي ، واسترشد بالنظرية الميكافيلية في تحقيق أهدافه في أن الغاية تبرر الوسيلة ، ولم يعدم وسيلة من أجل بلوغ غايته مهما كان الثمن .
لقد استطاع صدام من تحشيد الشارع العربي وكسب ودّه حتى لو كان هذا على حساب الشعب العراقي ، وتمكن أيضاً من فرض وقائع وقرارات على الدول والحكومات العربية وتجلى ذلك في مؤتمر القمة العربي الذي عقد في بغداد .
ولولا مغامرته الأخيرة في احتلال الكويت لكانت منزلته باقية بين الدول العربية الى اليوم . لقد كان سخياً للعرب باموال الشعب العراقي وثروته ، وكان بخيلاً للصرف على شعبه ، وهكذا كسب قلوب العرب ، وخسر شعبه .
أراد صدام أن تكون قراراته نافذة دون الرجوع الى البرلمان او الى الشعب او الى الحكومة ، فكان هو الرئيس وهو الدولة وهو الحكومة ، أما الشعب فكان صدام قد استثمر الغريزة الجمعية والتي تتسم بها المجتمعات البشرية ، وهي متمركزة في المجتمعات التي يهيمن عليها الخطاب الديني والقومي .
لقد استطاع صدام ان يجعل من الشعب العراقي بفضل سياسة الترغيب والترهيب ، مجتمعاً يطيع ويخلص ويهتف له بالروح والدم والفداء . إن أي دكتاتور يجد سعادة عظمى حينما يتحدث أمام أجهزته الدعائية في دولته وخارجها عن بطولاته ومآثره وانتصاراته ، حتى لو كانت هذه الأنتصارات هزائم محققة وواضحة ، إنه يحتكر وسائل الدعاية السمعية والبصرية والصحف والمجلات ليتحدث لشعبه ، دون معارضة او استفسار او مقاطعة ، حيث يحول قطاعات كبيرة من شعبه الى كتل من الخائفين وحشود من المصفقين .
يحدد ما هو الصالح وما هو الطالح ، وما هو الحق وما هو الباطل ، إنه العبقري العارف بكل العلوم وكل الفنون . إن أسلافه لصوص وفاسدين ، وإنه وحده الأنسان المستقيم وهو الذي يحقق البطولات والأنتصارات ، إنه خالق الأمجاد لقومه إنه صانع التاريخ .
في جانب آخر فإن العقل الجمعي يتقن صناعة الأبطال او الأصنام كي يعبدها ويشكل آلة طيّعة بيدها ، إن الشارع او الرأي العام هو الذي يصنع الأبطال المغامرين ويعلنون له وجه الطاعة ويستسلمون ويصبحون اتباع لهولاء القادة الذين يستغلون سذاجتهم وإخلاصهم وتفانيهم من اجل المبادئ .
إن الشارع بلغة اليوم او الجماهير او الرأي العام هي التي حكمت بإعدام المسيح وقبله على أعدام سقراط بالسم وهذا هو العقل الجمعي في كل زمان ومكان .
لقد مثل صدام حسين مرحلة تاريخية قومية معاصرة وقد جسد ذروة الفكر القومي العربي ، لكن بدلاً من ان تمثل هذه الأفكار وجها تحررياً علمانياً أنسانياً ، صبها في بودقة الفكر القومي المتعالي الشوفيني المتاخم للفكر الفاشي .
لقد أخذ صدام حكمه العادل الذي كان يستحقه كأي حاكم ظالم لشعبه . لكن التداعيات التي اعقبت طريقة تنفيذ حكم الأعدام والتي جرى تسريبها عبر التسجيل في الهاتف النقال البعيد عن رقابة الحكومة ، وفي الحقيقة أن الوجه الرسمي للحكومة ليس من صالحها تسريب مثل هذا الفيديو الذي عكس بصورة جلية مدى ضعف الحكومة ومقدار الأعتداء على هيبتها .
إن التداعيات التي برزت بعد مشاهد عملية الأعدام قد شرعت الأبواب على مصاريعها لجملة من تساؤلات كانت الحكومة ، بمتاعبها الكثيرة ، في غنى عنها . منها أن الحكومة نفذت حكم الأعدام عن قضية واحدة وهي قضية الدجيل وهنا يخرج المراقب بانطباع وكأن المسألة ثأرية طائفية باعتبار أن قضية الدجيل كانوا الضحايا من الشيعة فحسب ، في حين أن صداماً أعدم الى جانب الشيعة ، أعدم من الأكراد في عمليات الأنفال المشهورة وقتل من المسيحيين واليزيدية ومن اليهود وقتل من السنة ومن مدينته تكريت بالذات ومن أقرب أقربائه ، أي ان ظلمه كان يشمل الشعب العراقي وليس ضد شريحة معينة .
كان ينبغي ان تطرح كل هذه الجرائم لكي يكون جلياً ان صدام حسين حكم بالأعدام لجرائمه ضد شعبه ، وحتى لو لم ينفذ حكم الأعدام فلا اهمية لذلك .
ومن نافلة القول التأكيد على خطأ توقيت تنفيذ الحكم وهي اعياد رأس السنة التي يحتفل بها في معظم أنحاء المعمورة وكذلك يوم حلول عيد الأضحى المبارك الذي يعتبر يوم تقليدي للعفو عن المحكومين .
ثم كان هناك اسلوب التنفيذ الذي عكس سيكولوجية منفذي الحكم ، ففي البداية في كل المعتقدات البشرية هناك موقف مهيب للموت ، ولم تراعى هذه الناحية لحظة تنفيذ حكم الأعدام ، كما ان الهتافات التي سمعناها تعكس عرساً للتشفي والثأر . لكن يبقى أهم ما في الحدث الدرامي انه عكس ضعف الحكومة وهيمنة الميليشيات على قراراتها ومواقفها .
بقي أن أقول أن صداماً قد سجل موقفاً صادقاً في تلك اللحظة ، صحيح انه لم ينتصر في حروبه السابقة فقد كانت خسارة للشعب بكل معنى الخسارة ، لكنه حقق انتصاراً في تلك اللحظة ، لقد استقبل الموت برباطة جأش ، وبدا عملاقاً بيد جلاديه .
إن الحكومة العراقية المنتخبة ديمقراطياً كان يجب ان لا تتسم بالطائفية ، وكان يمكن أن تثبت ذلك للعالم لو قامت بعمليات البناء وتعمير العراق ورسخت الأمن والأستقرار في ربوع الوطن ، وفرضت هيبة الدولة على الجميع ، وعاملت العراقيين كل العراقيين أنهم متساوون أمام النظام والقانون دون تفضيل بدواعي المحسوبية والمصالح الحزبية والمذهبية على مصلحة الشعب ، ودون اللجوء للحشودات الطائفية .
وقتذاك تقول الحكومة العراقية لصدام ولمؤيديه وللعالم : هكذا خرب صدام العراق ، ونحن هكذا قمنا ببنائه .
نتمنى لحكومتنا أن تقوم ببناء هذا البلد المنكوب ، لا ان تكمل وتواصل تهديمه على رؤوس المواطن العراقي المغلوب على أمره .
حبيب تومي / اوسلو