نواقيس خطر الهجرة تقرع عالياً تنذر بنهاية شعب اصيل
ثمة من يرى في عنوان هذا المقال بعض المغالاة إذ كيف ينقرض شعب عريق من ترابه وأرضه وجذوره التاريخية تتأثل الى سحيق الأزمنة ؟ وهل من اليسير انهاء وجود شعب من ارضه ونحن نولج عتبة الألفية الثاثة ؟لكن بتوجيه ابصارنا نحو الواقع سوف نلمس ان المعادلة الديمغرافية لوجودنا تنحدر بشدة نحو تفريغ الوطن من هذا المكون التاريخي .
مع الخيوط الذهبية لشمس الأصيل وعلى حدائق جمعية الثقافية الكلدانية ، وبمبادرة من المجلس القومي الكلداني في القوش ، كان لقاءً صريحاً مع من لبى دعوة الحضور وفي مقدمتهم الأستاذ فائز جهوري مدير ناحية القوش وممثيلن لأحزاب ومنظمات المجتمع المدني في القوش وجمهور طيب من الألاقشة الكرام ، كما وتجشم عناء السفر وحضر الندوة ممثلي لمنظمات المجلس القومي الكلداني في باقوفا وباطنايا ، ومن عنكاوا شرفني كل من الزميل جنان جبار والدكتور حكمت حكيم والأستاذ ضياء بطرس السكرتير الأول للمجلس القومي الكلداني .
كانت الندوة تحت عنوان " معاناة شعبنا في الداخل والخارج " لكن في نهاية المطاف كان لموضوع الهجرة حضور فرض نفسه على المواضيع الأخرى .
أجل هنالك معضلة الهجرة والتي تقرع نواقيس الخطر منذرة بنهاية شعب تتفق جميع الأطراف العراقية السياسية والأثنية والدينية على ان هذا الشعب ( من الكلدانيين والسريان والآشوريين) هم بمثابة الهنود الحمر في اميركا والسكان الأصليين في استراليا . لكن مع هذا تلوح في الأفق القريب نهاية وانقراض هذا الشعب من الوطن العراقي ، وقد يقول احدهم :
انت آخر من يحق له التحدث عن الهجرة وأنت واحد من المهاجرين ، وأعطي الحق لمثل هذا التساؤل ، لكن في الحقيقة ان المعضلة لا يمكن ان نحصرها في دائرة الأشخاص بقدر ما هي مشكلة لها جذورها وينبغي التصدي لها بجهود مشتركة .
الندوة التي جمعتنا لم تكن بغية وضع حد لأيقاف النزيف بقدر ما كان الهدف تسليط حزمة ضوء على تلك المشكلة المستعصية .
الهجرة البشرية كانت قائمة دائماً في كل العصور التاريخية ، ومدننا وقرانا كانت تستجيب لهذه الهجرة تحت الضغوط الأقتصادية بشكل رئيسي الى جانب عوامل اخرى منها سياسية وأخرى اجتماعية لكنها في كل الأحوال لم تشكل خطراً محدقاً يهدد وجود شعب برمته على ارضه .
الهجمة على شعبنا بعد نيسان عام 2003 كانت اكثر ايلاماً من تلك دارت احداثها الأستئصالية للمسيحية من المدن العراقية اثناء حملة تيمورلنك في مطاوي العقد الأخير من القرن الرابع عشر الميلادي . في الراهن كان استهدافاً منظماً للكنائس المسيحية وللأقليات الدينية وفي مقدمتهم المسيحيين الذين تخلوا عن المطالبة بحقوقهم القومية والدينية والسياسية فكان همهم يتمحور حول البقاء على قيد الحياة وإيجاد الملاذ الآمن ، ولا زالت بيوتهم في بعض مناطق بغداد يستحوذ عليها المسلمون تحت ذرائع مختلفة .
إن الأستاذ المالكي رئيس الوزراء يحث مواطنيه للعودة الى الوطن والمساهمة في بنائه ، ولا ريب انها دعوة كريمة . لكن لا زال هذا النداء سابقاً لاوانه لا سيما فما يتعلق بالأقليات الدينية . فالعوامل التي أرغمت هذه الأقليات على سلوك طرائق الهجرة ما انفكت قائمة في بغداد وفي مدن اخرى .
ينبغي الأشادة بالجهود التي بذلت من قبل بعض الأطراف ، في مقدمتها حكومة اقليم كردستان وكذلك الجهود التي بذلها المجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري إن كان عبر بناء بيوت سكنية لنازحين من بغداد او من مدن عراقية أخرى ، او من خلال تقديم بعض المعونات او المساعدات المادية . بنظري ان هذه المعونات عملت بشكل وآخر على تخفيف المعاناة عن شرائح كثيرة من ابناء شعبنا إن كانوا من الكلــــــدان او السريان او الآشوريين ، لكن من باب المصارحة ، فإني اعبر عن تحفظي على الطريقة التي صرفت فيها تلك الأموال ، والتي في كل المقاييس تعتبر اموالاً طائلة .
لقد رافقت الأستاذ جميل زيتو مع زملاء آخرين في رحلة الى كرملش وبغديدة وبرطلي وبعشيقة ، وكان الحديث عن منجزات ومساعدات مالية لمختلف الأنشطة الأجتماعية والفنية والرياضية .. وثمة ابنية سكنية شيدت وقاعات جميلة وكنائس عمرت بفخامة ، وفي هذا السياق تنتصب في القوش صروح معمارية في مجملها تخدم الكنيسة ، إن كان في بناية المطرانية او في بناء شامخ آخر يقع على ربوة جبلية شمال غربي القوش ، او عبر دير الماسيرات في شمال الكائن شمال القوش ، او دار الأيتام الملاصق لدير السيدة ، كما شاهدت في عنكاوا بناية الجمعية الثقافة الكلدانية الفاخرة ، إن كل هذه الصروح وغيرها كثير لها منافع وفوائد ليس الى نكرانها سبيل .
ولكن ... وكلمة ولكن .. هي للاستطراد والتساؤل ، ما مدى استفادة المواطن العادي من هذه الصروح العمرانية ؟ ما مدى مساهمة هذه الصروح في ايقاف نزيف الهجرة والذي نحاول استقصاء اسبابه بغية الحد منه .
لا ريب ان اعمال البناء قد وفرت اعمال لشباب يعانون من البطالة وهذا وجه ايجابي آخر لهذه الأبنية ، لكن مدى فائدة هذه المباني بمفهوم الجدوى الأقتصادي وتوفير وظائف شاغرة على المدى الطويل لعاطلين عن العمل سيكون محدوداً ، وربما يكون هذا امر طبيعي ، فإن رجل الدين يفكر في بناء كنيسة او دير او مدرسة لا هوتية قبل غيرها من المشاريع الأستثمارية إن كانت زراعية او صناعية او سياحية ، وتوجه رجال الدين لا غبار عليه ولا اعتراض عليه في الحالات الطبيعية ، لكن سؤالي هو الآتي :
ما فائدة هذه الكنائس وهذه الصروح العمرانية الجميلة ، إذا كان روادها قد غادروا البلد ؟ حيث سيمسي الوطن مجرد ذكريات جميلة وعزيزة على القلب ليس إلا ؟
برأيي المتواضع كان علينا ، ( ولا زال امامنا ) ، متسع من الوقت كي نفكر كيف نشد اواصر التلاحم والتواصل بين الأنسان مع ارضه وترابه . وباعتقادي ان الثقات يتفقون معي أن هذه الوشائج لا تتلاحم بقراءة قصائد وأشعار في حب الوطن ، وليس في إلقاء الخطب السياسية النارية ، وليس عبر المواعظ الدينية في قداس يوم الأحد .
إنما نشد هذا الأنسان على ارضه بتوفير الحياة المعاشية ، بتوفير الملاذ الآمن بإيجاد فرص عمل بالوظائف وبالأعمال التجارية والعمرانية والزراعية والصناعية والسياحية وغيرها ، حينما يشعر هذا الأنسان انه مواطن من الدرجة الأولى ويزاول في وطنه عملاً مهماً هذا هو السبيل القويم لربط الكائن على ارضه .
أنا لا انكر وجود عوامل مؤثرة أخرى منها ضعف الخدمات العامة ونقص الكهرباء ومصادر الطاقة المستخدمة في النقل والتدفئة ، وضعف الخدمات الصحية والصرف الصحي وغيرها من الخدمات التي تعتمد على البنية التحتية المنهارة في بلد عانى طوال عقود من الحروب الداخلية والخارجية والعمليات الأرهابية وغيرها من العوامل السياسية والأجتماعية القاهرة .
نحن امام مشاكل عويصة لا يمكن حلها باجتهادات فردية مهما بلغت من العلم والمعرفة ، ومهما ارتفعت المبالغ المصروفة ، فينبغي ان يكون هنالك طرق مدروسة لصرف تلك المبالغ لتصب في القنوات المختلفة لصالح وفائدة هذا الشعب التائه في مسالك وطنه المحفوفة بالمخاطر وبين ركوب المخاطر عبر المسالك والبحار لبلوغ مكان آمن له ولعائلته بعد قلعت جذوره من وطنه .
تجدر الأشارة الى فكرة تراوندي دائماً ، وهي تشجيع الزواج والأنجاب بين شبابنا لزيادة النسل ، فكما هو معلوم إن الدول الأوروبية الغربية واليابان تعاني من الخلل الديموغرافي في عزوف الكثير من البنات عن الأنجاب ، ولهذا تطرح الدولة مغريات مادية وخدمية للتشجع على الحمل والأنجاب ، فلماذا ونحن نعاني من هذه الآفة ، لا نحاول تشجيع الأنجاب في مدننا وقرانا ، كأن ندفع تكاليف الزواج ، وأن تمنح الأم مكافئة مادية عن كل طفل تنجبه ، مع مساعدات خدمية وصحية للأم وطفلها ، كل ذلك وغيره من الخطوات يساعد بصورة وأخرى في زيادة نفوسنا بعد نزيف الهجرة المتواصل ، إنها افكار نتمنى ان يكون لها صدى على الواقع المعاش ، لا سيما من جانب الجمعيات والمنظمات والشخصيات التي تلمك في يدها امكانيات مادية ، وقد يكون السيد سركيس أغاجان وهو احد ابناء شعبنا المخلصين وربما يستطيع ان يقوم بدور كبير في هذا المضمار ويستطيع ان يساهم بقوة بهذا المجال .
وسيظل السؤال قائماً :
هل نفعل شيئاً لايقاف هذا النزيف ؟
بقلم : حبيب تومي / القوش
habeebtomi@yahoo.no