نوروز بوعزيزي!
من العار أن لا يدرك الضحايا حكايات بعضهم!. لذا فهذه الكتابة موجهة لبعض القراء العرب، ممن يجهلون الكرد ولا يعرفون حكاياتهم. خاصة، بعد أن عادت المعجزات من جديد، و أصبح بامكان ضحية واحدة أن تغيّر تاريخ أمة؛ فالشهيد التونسي "بوعزيزي" صار معروفاً كنار على علم!، لأنه وبالنار ذاتها التي أنهت حياته، سجّل حكاية شبّهته ببطل أزلي في أساطير الإغريق القديمة، سرق نار الآلهة ليمنحها لعامة الناس.. بوعزيزي دخل الأسطورة أيضا، وأشعل ثورات العرب كما لم يحصل في أي زمان.أما نوروز فهو عيد قومي يحتفل به الأكراد بإشعالهم النار إيذانا ببدء سنتهم الجديدة، مع دخول الربيع في 21 آذار. وبعيدا عن ما يظنّه بعض العرب عنهم، بوصفهم سلالات من عبدة النار، تداولت كتب التاريخ الزائف، قصصاً غريبة على إنهم أبناء الجن، وإن سليمان النبي قال: إكردوهم (أي اطردوهم) الى الجبل!. في حكاية ظلم لصيقة باسمهم.. حكاية قال عنها الشاعر الكردي شيركو بيكس في قصيدة لا أنساها : "الآن..انتصف الليل.. تطابقت عقارب الساعة، مثلما يتطابق الحزن وقلب الكردي".
عناء ومطاردات طويلة البوح، لازال يسمع في شجن أغانيهم، يروي فيها كلّ كردي حكايته الخاصة. وليس المجال هنا للحديث عن ركام التعسف والعنف والتجاهل لهذه الأمة، لكنها مناسبة للقول عن سرّ شعلة النار المحتفى بوهجها، في علاقة جدلية بين الربيع والنار، ففي العادة يحتفي الناس- في المناطق الباردة خاصة- بالنار شتاءً، لكن لربيع الأكراد قصة بطل قومي قديم دمج بين انطلاق الربيع والنار، وأسس لسرّ توافق الخضرة الفاتنة بربوع كردستان، ومشهد النار تلك، حيث يقام لها حفل بهيج، وتُشعَلُ سراجاتها على أعالي الجبال، لتنير البراري الواسعة، ولتعلن عبر تلك الشعلة بدء انطلاق أولمبياد ربيعي وسباق مع النماء.
الرجل صاحب سرّ النار (كاوه الحداد) عاش في زمن طاغية لم يبق من الخلق دياراً، فما كان من (الحداد) صانع السيوف سوى أن يعلن مواجهته أمام حيرة قوم يائسين من صنيعه، ومشفقين على ما سيؤول إليه مصير الرجل، وهو يخبرهم إن ناراً أعلى قمة الجبل ستعلن تحرّرهم، إن هم شاهدوها، فهو سيوقد سراجاً هائلا ينير الأصقاع لو استطاع القضاء على الطاغية، فتترقب الجموع تلك النار، لتحتفل برؤيتها نصراً منيراً في كل الأزمنة.
عيد نوروز كان بهياً ومحّط اهتمام كردي منذ القدم، فهو عيد رأس السنة الكردية، وعيد للتغيير والتجديد، وعيد للشجرة، ويسميه أيضا سكان جنوب العراق بعيد الدخول، يُستذكر فيه الموتى، ويوضع سعف النخيل على الأبواب. وتقام الاستعدادات لهذا العيد مع بدء الشهر الثالث من كل عام، غير إن نظام الطاغية المدان أراد كغيره أن يحطم أفراح هذا العيد، يوم أرتكب جريمة في السادس عشر من آذار 1988، حيث قصفت طائرة عسكرية بأمر من علي حسن المجيد (ابن عم صدام) مدينة حلبجة بالسلاح الكيمياوي المحرم، ليسقط أكثر من خمسة آلاف شهيد وأكثر من عشرة آلاف مصاب لازال بعضهم يعانون إلى الآن من آثار العدوان.
في جنوب العراق كان أيضا من بين مراسيم عيد الدخول؛ زيارة المقابر، وليست مصادفة أن يوحّد نظام الطاغية بين الشمال والجنوب في جعل هذا العيد مناسبة لاستذكار الشهداء في مقابر جماعية شهيرة الخرائط.
هذه الأيام، الحداد الكردي صاحب النار القديمة، يعيد مجد ناره بصور أخرى، في ربيع عربي، أشعل ناره البطل بوعزيزي، وبما يستحق المجد والذكرى، والاحتفال الإنساني المشترك، والمتقارب بالتواريخ.. احتفال عيد يتجرّد فيه الجميع مما يريده الطغاة وتجار العقائد من ضغائن وأحقاد، ونظر بدونية إلى بعض البشر، أو تجاهل لإنسانيتهم، فما تعرّض له الأكراد في الأزمنة السابقة تتعرض له شعوب تضيع الآن صرخاتهم دون أن تصل، ولا يراد لنارهم أن ترى..ولكن هيهات فالربيع قادم.. الربيع؛ بإصراره الذي يراهن عليه الأكراد في جبالهم قبل غيرهم، لأنهم يبصرونه في نبتة صغيرة تفتّت جلمود الصخر لتنمو عالياً.
عيد نوروز مبارك على الأرض كلّها.