هل السيسي أتاتورك مصر؟
أفادت الأنباء أن الفريق أول عبدالفتاح السيسي، وزير الدفاع ونائب رئيس الوزراء المصري، قد استقال من منصبه العسكري للترشح إلى منصب رئاسة الجمهورية في الانتخابات الرئاسية القادمة. وقد قوبل ترشحه بترحاب شعبي واسع، ولكن في نفس الوقت هناك من يعارضه حتى من بين العلمانيين الديمقراطيين لخلفيته العسكرية وشخصيته القوية، كما عارضوا اجراءاته بإزاحة الأخوان المسلمين من السلطة رغم أن عمله هذا كان استجابة لمطالب الشعب الذي عبر عنها نحو 32 مليون في مظاهرات صاخبة ضد حكم الأخوان، وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف الذين صوتوا في الانتخابات الرئاسية لمرشح لأخوان. والجدير بالذكر أن الأخوان المسلمين ما أن سيطروا على السلطة حتى وبدأوا بتنفيذ برنامجهم في أسلمة المجتمع ومؤسسات الدولة، خلافاً لما وعدوا به الشعب قبل استلامهم السلطة بالاحتفاظ على الديمقراطية.
فهل السيسي كان على حق في إزاحة الأخوان عن السلطة، وترشحه للرئاسة، وقيادة الشعب المصري وهو يواجه أخطر أزمة تهدد استقراره ووحدته الوطنية؟
يؤكد لنا التاريخ أن سبب فشل معظم القادة السياسيين في مهماتهم كان إما لجهلهم بالسياسة، أو لتمسكهم الأعمى بالمبادئ النبيلة وترجيحها على البراغماتية، أي ما تفرضها عليهم الواقعية ومتطلبات المرحلة. فالسياسة تعني الاهتمام بمشاكل الشعب وفق فن الممكن، والعمل على إيجاد الحلول الناجعة لها. والقادة الناجحون العظام تفرزهم ظروف تاريخية معينة وفق مبدأ الضرورة والصدفة. فالصدفة تلعب دوراً كبيراً في إبراز زعيم مناسب لتلك المرحلة لقيادة شعبه إلى بر الأمان، أشبه بالطفرات الوراثية (Genetic mutation)، أو سحبة اليانصيب (Lottery).
فهناك شعوب محظوظة عندما تعصف بها أزمات كبرى كالتي مر بها الشعب التركي في الحرب العالمية الأولى التي أطاحت بالإمبراطورية العثمانية، قيَّضَ التاريخ له ظهور زعيم فذ جمع في شخصه صفات عسكرية ومدنية ودهاء سياسي، ومعرفة عميقة بمتطلبات المرحلة التاريخية التي مر بها الشعب التركي. هذا الشخص هو الجنرال مصطفى كمال الذي لُقِبَ بأتاتورك أي (أب الأتراك)، فهو مؤسس الدولة التركية الحديثة على أسس الحداثة والعلمانية والديمقراطية، ومبدأ فصل الدين عن السياسة. لقد نجح الرجل بقيادة الشعب التركي، وتحقيق وحدته الوطنية، وإخراجه من ظلمات القرون الوسطى إلى عصر الحداثة الأوربية، وبناء نظام علماني ديمقراطي ناجح لأول مرة في دولة غالبية شعبها مسلمون. كما جعل من الجيش التركي، المدافع الأمين وحامي حمى النظام العلماني الديمقراطي.
لا شك أن هناك انتقادات كثيرة ضد إصلاحات أتاتورك، منها أنها كانت إصلاحات فوقية، أي من القمة إلى القاعدة (Top down)، والمطلوب هو الإصلاح من القاعدة إلى الأعلى (Bottom up). وعذرهم في ذلك أن الإصلاح الفوقي سطحي لا يدوم ويزول بزوال الحاكم المصلح، بينما الإصلاح من القاعدة جذري ويدوم كما حصل في أوربا، والذي استغرق نحو أربعة قرون ليكتمل، فبُني على قواعد رصينة وثابتة.
ورغم قوة حجة أصحاب الطريقة الثانية، إلا إن الإصلاح من القاعدة لوحده غير ممكن في المجتمعات العربية والإسلامية ما لم يكن مدعوماً من القمة أي السلطة. فخلال أكثر من مائة سنة الماضية ظهر مفكرون كثيرون في الشعوب العربية، ابتداءً من رافع الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده...وغيرهم إلى يومنا هذا، حاولوا الإصلاح إلا إنهم فشلوا ومعظمهم انتهوا في السجون والقتل والتشريد أو الانكفاء والعزلة كما هو الوضع في معظم البلدان العربية والإسلامية اليوم.
أما الطريقة الأتاتوركية فأراها ناجحة لأنها اختصرت الزمن في التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية في فترة قصيرة. ولذلك أعتقد أنه لا يمكن تحقيق الإصلاح إلا إذا توفرت سلطة تقدمية تحمي المفكرين وتسمح لهم بنشر الفكر التنويري وإصلاح المجتمع من القاعدة. أي أننا نحتاج إلى الإثنين معاً وفي آن واحد.
أما ظهور حركة إسلامية في تركيا مثل حزب (العدالة والتنمية) التركي الذي نجح في استلام السلطة خلال 12 عاماً الماضية، فهذا لا يعني فشل الأتاتوركية، أو زوالها. ففي الوقت الذي تجتاح البلدان العربية والإسلامية حركات إسلاموية متطرفة تهدد شعوبها بحروب أهلية ماحقة، وإرهاب يهدد الحضارة البشرية، وصلت عدوى الحركة الإسلامية إلى تركيا بنسخة مخففة، وبوجه علماني وحضاري أعطت للإسلام وجهاً إنسانياً منسجماً مع الحضارة الحديثة. ولم يحصل هذا إلا بتأثير الأتاتوركية، وتشرب الشعب التركي بمبادئ الحرية والعلمانية والديمقراطية والحرية الفردية.
فبغض النظر عن تصرفات أردوغان الأرعن الذي أصيب بالغرور، وسياساته الطائشة الأخيرة في مصادرة الحريات الفردية وكان آخرها إغلاق مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر واليوتيوب، وتدخلاته الفضة والفجة في دول المنطقة، إلا إنه لولا تأثير الأتاتوركية في ترسيخ العلمانية والديمقراطية في الشعب التركي لما اختلف حزب أردوغان عن بقية الأحزاب الإسلاموية المتطرفة في العالم الإسلامي.
فعندما زار أردوغان مصر بعد استلام الأخوان المسلمين للسلطة، استقبله الإسلاميون استقبالاً جماهيرياً حاشداً وصاخباً في مطار وشوارع القاهرة، ولكن بعد لقاءاته ومحادثاته مع قادة الأخوان المسلمين، واقتراحه عليهم قبول العلمانية والديمقراطية في الحكم، رفضوه وخابت آمالهم به.
فالمد الإسلامي الذي يجتاح المنطقة على شكل إرهاب في هذه المرحلة التاريخية العصيبة، وصل إلى تركيا بشكل مخفف، ودون حرب أهلية وعمليات إرهابية. ولما ركب الغرور رأس أردوغان، وحاول التجاوز على الحريات المدنية التي تعوَّد عليها الشعب، انفجر الشعب التركي بمظاهرات صاخبة ضده دفاعاً عن حرياته، وعلى الأغلب فإن المرحلة الإسلاموية الأردوغانية في أفول وقد اتنهي بسلام قريباً وإلى غير رجعة، وهذا ما أتوقعه في الانتخابات البرلمانية القادمة، رغم أنه حقق نجاحاً الانتخابات المحلية التي اليوم (30/3/2014)، وذلك بفضل ما حققته حكومته من نجاخات في مجال الاقتصاد. ولكن حتى هذا النجاح له حدوده إذا ما تمادا أردوغان في تجاوزاته على الحريات الشخصية، إذ كما قال السيد المسيح: (ليس على الخبز وحده يحيى الإنسان).
أعتقد أن جميع بلدان العالم الثالث، وبالأخص العربية والإسلامية، بحاجة ماسة إلى قادة تقدميين أقوياء مثل مصطفى كمال أتاتورك. لقد ظهر مثل هذا الشخص في العراق بشخص الزعيم عبدالكريم قاسم، وكان قد بذل كل ما في وسعه لتحقيق أكبر قدر ممكن من الاصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والانتقال التدريجي إلى الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، ولكن ثورته هذه تم اجهاضها بالتكالب المحلي والإقليمي والدولي عليه، وتعقيدات الوضع العراقي، حيث الصراعات السياسية والأيديولوجية، والدولية (كما الحال اليوم بعد سقوط الفاشية)، ولتغليبه مبادئه الأخلاقية السامية على البراغماتية وما تتطلبه السياسة من دهاء ومراوغة وحتى العنف مع الخصوم عند الحاجة، رغم أنه استخدم العنف في حده الأدنى في مرحلة كانت تتطلب الكثير، على حد تعبير حنا بطاطو.
كما وظهر أتاتورك آخر في مصر عام 1952 بشخص الرئيس جمال عبدالناصر، ولكنه أضاع الفرصة الذهبية، فحارب الديمقراطية رغم أنه كان يتمتع بشعبية واسعة جداً وكان بإمكانه بناء نظام ديمقراطي تدريجي، إلا إنه أصر على الحكم الفردي الدكتاتوري، وتآمر على الثورة العراقية وزعيمها قاسم، وساهم في إدخال العراق في النفق البعثي المظلم، إلى أن انتهى بجلب سلسلة متواصلة من الكوارث على مصر وعلى البلدان العربية الأخرى.
فالمشكلة ان البشر نادراً ما يستفيدون من تجارب الآخرين، بل ويصرون على التعلم وكسب الخبرة من تجاربهم الشخصية فقط، ومن هزائمهم وهي باهظة التكاليف. وعليه فقد جرب الشعب المصري، كما الشعب العراقي وغيرهما، أنظمة مختلفة انتهت بنتائج كارثية. لذلك فقد آن الأوان للشعب المصري أن يستخلص الدروس والعبر مما ناله خلال المائة سنة الماضية من كوارث وذلك بتبني النظام العلماني الديمقراطي، وفصل الدين عن السياسة وفق شعار الزعيم المصري الأسبق سعد زغلول: (الدين لله والوطن للجميع). وهذا النظام، في المرحلة الراهنة، غير ممكن إقامته وإدامته إلا بقيادة شخصية قوية مثل الفريق أول عبدالفتاح السيسي، حيث أثبت حنكته السياسية وشجاعته من خلال وقوفه إلى جانب الشعب، وإنقاذه من كارثة محققة على يد الأخوان المسلمين. فالشعب المصري يتمتع بقاعدة عريضة من المثقفين العلمانيين يؤمنون بالديمقراطية الليبرالية. وهذا ما يخفف نسبياً من مهمة السيسي الثقيلة.
أعترض العديد من المثقفين العرب، ومن بينهم علمانيون وديمقراطيون، وكذلك مفكرون غربيون، على إزاحة الأخوان المسلمين والرئيس الأخواني محمد مرسي بالتدخل العسكري، واعتبروه خروجاً على الشرعية لأن الأخوان استلموا السلطة عن طريق الانتخابات. هذا الكلام صحيح في الظاهر ومخالف للشرعية في الجوهر... لماذا؟
فلو نعود إلى الانتخابات الرئاسية المصرية السابقة التي جاءت بالأخوان إلى السلطة لوجدنا أن نسبة المشاركة فيها لا تتجاوز الـ 51% من الذين يحق لهم التصويت. والذين صوتوا للرئيس الأخواني لا يزيد عن 51%، (نحو 11 مليون صوت) أي نحو 25% فقط من الذين يحق لهم التصويت، وهذا يعني أن نحو 75% من الشعب المصري لم يصوتوا له. ولكن لحد هذه النقطة يعتبر استلام الأخوان للسلطة مشروعاً، فالذين قاطعوا الانتخابات عليهم أن لا يلوموا إلا أنفسهم في فوز الأخوان. إذ كما قال إدموند بيرك: "كلما يحتاجه الشر لينتصر، على الأخيار أن يعملوا لا شيء"
ومن المناسب هنا أن نذكر أن الأرقام التي فاز بها الأخوان في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مصر مشابهة تماماً للأرقام التي فاز بها الحزب النازي الهتلري عام 1933، والذي ما أن استلم السلطة حتى و بدأ باضطهاد المعارضة، وقولبة المجتمع الألماني إلى ما يلائم أيديولوجيته النازية العنصرية، ونشر الرعب في المجتمع وبالتالي أدى إلى نشوب الحرب العالمية الثانية الكارثية والهولوكست... ودمار أوربا بما فيها دمار ألمانيا نفسها.
وهذا بالضبط ما حاول الأخوان المسلمون عمله في مصر، حيث شنوا حملة واسعة لأسلمة وأخونة المجتمع ومؤسسات الدولة المدنية والعسكرية بما فيها السلطة القضائية، وكذلك التدخل الفض في الشؤون الشخصية الفردية للمواطن المصري، إضافة إلى تأزيم الوضع وما رافقه من انهيار اقتصادي الذي عانى منه الشعب المصري معاناة شديدة، الأمر الذي أدى إلى الانفجار الشعبي الواسع الذي شارك فيه ما بين 30 إلى 32 مليون مواطن مصري. وهو كما أشرنا أعلاه، يعادل ثلاثة أضعاف الذين صوتوا للرئيس الأخواني محمد مرسي. الأمر الذي دفع الجيش بقيادة الفريق السيسي لإنقاذ الموقف وحماية الشعب من فوضى عارمة لا يعرف أحد نتائجها الكارثية.
فأيهم أفضل، ترك الأخوان يعملون ما يشاؤون في تحويل مصر إلى نسخة من حكم أفغانستان الطالبانية، وبالتالي تهديد كل البلاد العربية بكارثة ماحقة بفرض الحكم الأخواني على شعوبها، أم التدخل العسكري لإنقاذ الموقف، ودرء الخطر الإسلاموي الفاشي والطائفي الماحق؟
وفي هذا الخصوص، نشر الكاتب الأمريكي، الدكتور روبرت رايلي (صاحب كتاب: إغلاق عقل المسلم)، مقالاً قيماً يدعم فيه السيسي، وينتقد بشدة موقف الغرب الانتهازي منه، بعنوان: (الجيش المصري عمل ما كان يجب على الجيش الألماني عمله عام 1933) (Egypt’s Military: Doing What Germany’s Should Have Done in 1933). فأجرى مقارنَة بين ما فعله الأخوان المسلمون بعد فوزهم في الانتخابات وما قام به الحزب النازي الألماني بعد فوزه عام 1933. ويسأل أما كان الأفضل للبشرية لو قام الجيش الألماني بانقلاب على هتلر وبذلك لأنقذ البشرية من الحرب العالمية الثانية والهولوكست، وما حصل من دمار شامل لأوربا واليابان ودول أخرى؟ (رابط المقال في الهامش)
وبناءً على كل ما تقدم، أعتقد أن إقدام الفريق السيسي على إزاحة الأخوان من الحكم كان استجابة لنداء الشعب الذي عبر عنه نحو 32 مليون مصري هبوا في انتفاضة شعبية عارمة، و إنقاذ لمصر والبلاد العربية من خطر الفاشية الإسلاموية لا تقل خطورة عن الفاشية النازية الهتلرية. فلو تُرِك الأخوان المسلمون لثلاثة أعوان أخرى لربما نجحوا في تنفيذ برنامجهم في أسلمة وأخونة المجتمع والدولة بذريعة شرعية الانتخابات، و لقادوا إلى كوارث ماحقة لا تقل كارثة عن تلك التي حصلت على أيدي النازية والفاشية الأوربية في الحرب العالمية الثانية، ولأكتفى نقاد السيسي بكتابة المناحات والحظ العاثر، وندموا ولكن بعد فوات الأوان.
لذلك ، فمن الإنصاف والمنطق والحكمة أن نعتبر تدخل الجبش إلى جانب الشعب وإنقاذه من حكم التخلف، وترشيح السيسي نفسه لرئاسة الجمهورية هو عمل صائب ورائع لإنقاذ الشعب المصري، وتكريس العلمانية الديمقراطية. وبذلك فما يقوم به السيسي لمصر هو نفس الدور الذي قام به أتاتورك لتركيا.
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روابط ذات علاقة بالموضوع
Robert Reilly: Egypt\'s Military: Doing What Germany\'s Should Have Done in 1933
http://www.intercollegiatereview.com/index.php/2013/08/16/egypts-military-doing-what-the-wehrmacht-should-have-done-in-1933/
دور المخابرات النازية والأميركية في نشوء ونشاط التنظيم الدولي للإخوان ...
http://www.nmc.sy/nmc/public/read/79