هل تحقق الموازنة الجديدة اهداف الجامعات في التجديد والتطوير؟
بعد صدور قرار مجلس الوزراء بشأن عودة الكفاءات العراقية، وتأكيد وزراء وبرلمانين خلال وبعد مؤتمر النخب والكفاءات العراقية، على أهمية عودة الكفاءات العراقية لما تمثله من خبرات نادرة ومهمة وخسارتها مأساة حقيقية للبلاد، استبشرنا خيرا وتوقعنا عهدا جديدا للتعليم العالي، وفرصة جديدة للجامعات العراقية أن تتفاعل مع الوافدين الجدد من الخارج، حملة الفكر العلمي المتجدد، وتتقبل بضرورة الإصلاح الجريء العميق، وتقبل عليه بشيء من التحدي، لتزيد من جودة خدماتها لفائدة الوطن، ومن دورها في التنمية والتطوير. إلا إننا ما لبثنا نسمع أصوات الأكاديميين العائدين من الخارج متذمرة من انعدام الوظائف والإجراءات الروتينية، والاستقبال الفاتر، وبعد معاناة كنتيجة لتأخير تعيينهم، عاد الكثير منهم إلى بلد إقامته. وإذا ما استبعدنا حسن النية وصدق المسؤولين في جهودهم لإعادة الكفاءات العلمية، ورفع مستوى التعليم نجد انه وبسبب تدني التخصيصات المالية للجامعات، وعدم حصولها على استقلاليتها الإدارية والأكاديمية، واستمرار الصراعات الحزبية على اداراتها، لم يجد الإصلاح طريقه لدق أبوابها لتمكينها من الاستفادة الفعلية من هذه الكفاءات وفك عزلتها عن المجتمع ووقف تدهورها وتدنى مردودية إنتاجيتها.وفوجئنا مؤخرا بالتخفيض الهائل لتخصيصات التربية والتعليم في موازنة الدولة لعام 2009، وعلى عكس ما كنا نسمعه من ادعاءات للدولة بدعم هذا القطاع المهم، فلقد تم تخفيض موازنة التعليم العالي إلى حوالي 2% من الموازنة العامة، وهي على حد تعبير بيان لجنة التربية والتعليم العالي في مجلس النواب فإنها ستؤدي إلى " تخفيض أعداد الأساتذة الذين سيتم تعينهم هذا العام، وعدم إمكانية تطوير المختبرات في الجامعات، وصعوبة إمكانية استيعاب الأعداد المتزايدة من الطلبة المقبولين في الجامعات"، وبمعنى آخر سيؤدي هذا التخفيض إلى المزيد من التدهور في مستوى التعليم العالي، وسيعرقل عملية إعادة بناء الجامعات، خصوصا إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن الموازنة الاستثمارية للتعليم العالي قد خفضت إلى ما نسبته 0,2% من الموازنة العامة. هل يمكن تصور حجم الكارثة التي ستبتلى بها الجامعات الناشئة والجامعات قيد الإنشاء وتلك التي تحلم بإعادة بناء وتأثيث مختبراتها ومرافقها؟
ولعل مقارنة بسيطة بما تصرفه بعض الدول على قطاع التعليم العالي توضح لنا مدى إهمال الدولة العراقية للتعليم الجامعي، وعدم تقديرها لدور الجامعة في التنمية، فالدولة في أحسن الحالات تعتبر الدعم المادي للجامعات وللعلماء والبحث العلمي دعما يسجل في خانة الأموال المفقودة، فكل ما يصرف على الجامعة من غير رواتب الأساتذة (علما أن الرواتب لازالت تشكل أكثر من 80% من ميزانيات الجامعات) هي أموال ضائعة. ومع هذا تبقى مسؤولية الدولة ثابتة ما دامت تدرك كامل الإدراك بان الجامعة لن تتطور إلا بتوفير الأموال اللازمة لكي ترفع من مستوياتها الأكاديمية والتأهيلية والتنافسية والإبداعية، وبأن الجامعات الأهلية لا يمكن لها أن تكون بديلا عن الجامعات الحكومية، ولذلك عليها لزوما ووجوبا التعامل مع التعليم العالي والجامعات بصورة اكثر إيجابية والإسهام في تأهيلها وإغنائها، أما تجاهل ذلك فسيعني مزيدا من التخلف. ألا يعرف من يضع هذه الموازنات ما تصرفه الدول المجاورة على الجامعات والى نسبة موازنات البحث العلمي فيها؟ ألا يشعرون بالخجل عندما يرون حجم الإنفاق الاستثماري على المشروعات الجديدة في قطاع التعليم في المملكة العربية السعودية والتي تمثل 7.63% مقارنة بنسبة 1.47% خصصت للانفاق الاستثماري في قطاع الصناعة. هذا وقد بلغت موازنة التعليم ككل، نسبة 25.45% وهو رقم هائل بالمعايير الدولية إلا انه يبرز الاهتمام بالجامعات والتدريب والتعليم بشكل كبير وبضرورة التحول من اقتصاد يعتمد على النفط إلى اقتصاد يعتمد على المعرفة، وذلك يمثل أهمية قصوى للاقتصاد السعودي، مع إننا لا ننكر ان أولويات الاقتصاد العراقي في هذه المرحلة هي ليست بالضبط أولويات الاقتصاد السعودي. ما بالنا نحن في العراق وجامعاتنا تنعزل وتتكلس وتتحنط والأجراس تقرع من حولنا بالخطر، والى متى نستمر في إهمال دور اقتصاد المعرفة وما يتطلبه من زيادة الصرف على التدريب والبحث العلمي والاستثمار في تنمية الموارد البشرية العلمية والهندسية والتكنولوجية وتطوير البنية التحتية للتعليم العالي في جميع المجالات.
دعوة صادقة إلى المسؤولين في الدولة العراقية بالانتباه إلى ضرورة الإنفاق بسخاء على البنية التحتية للعلوم، وإقامة المشاريع التعليمية سواء الدراسات الأولية، أم الجامعات، ام مدن العلم (التي يمكنها من جذب أفضل العقول من الخارج) أم مشاريع البحث العلمي والتطوير، اذ يصب كل هذا في تنمية الموارد البشرية التي هي أساس التنمية الاقتصادية واستثمار عقول الشباب العراقي لمواجهة تحديات العصر والاستجابة لمتطلباته، وعكسه سيؤدي إلى الاستمرار في خلق جيل جاهل من المستهلكين غير المنتجين والى تراجع أداء المؤسسات التعليمية في إعداد الكفاءات وتأهيل الشباب ثقافيا وتعليميا وتكنولوجيا.
وصدق طاغور بقوله: الخطأ لا يصبح خطيئة، إلا إذا لم يتم الاعتراف به.