هل تنسحب أمريكا من العراق ؟
ارسل لي الاخ الاستاذ اثير الخاقاني احد القراء الاعزاء والباحثين المحللين في مركز دراسات الجنوب رسالة يثّمن فيها كتاباتي بمشاعر عراقية طيبة وبقيم علمية اصيلة ، وفي رسالته يسألني قائلا : ارجو افادتي بموضوع ماذا لو انسحب الوجود الامريكي من العراق اثاره وتاثيراته .. ؟؟ وهنا أجيب مباشرة بأننا لن نتوقّع بأن هذا " الوجود " سيزول بسرعة البرق .. وان ما نسمعه هذه الايام يدخل في باب الدعايات الانتخابية ، وسيبقى العراق حجر رهان بين الجمهوريين والديمقراطيين الامريكيين بعيدا عمّا يفكر به العراقيون الذين يتمّنى اغلبهم خروج الامريكان وانسحابهم عن التراب العراقي .سؤالك عزيزي لا يمكن الاجابة عنه اجابة قصيرة ، فهو سؤال كبير جدا يأتي في ظل اوضاع تختلط فيها الاوراق تماما .. ان الامريكيين لا يعلنون ابدا ما يريدون فعله ، وما هي خططهم في العراق والمنطقة ، ولماذا وصل العراق الى هذا المنحدر على ايديهم ؟ انني اعتقد اعتقادا راسخا بأن حربا كالتي حدثت بينهم وبين نظام صدام حسين هي تصفية حسابات قديمة معه تعود الى العام 1970 ، مع وصوله الى السلطة الفعلية نائبا لأحمد حسن البكر واطلاق ما سمي ببيان آذار ، ثم اللعبة الامريكية التي حاكها كيسنجر بشد اللحى بين العراق وايران من خلال الاكراد والوصول بعد حرب العام 1973 الى اتفاقية الجزائر عام 1974 ومنح نصف العرب ثمنا لتشتيت الاكراد ، ومن ثم النفخ بشاه ايران كي يصل الى ذروة الطغيان الاقليمي ويغدو شرطيا للخليخ ليطاح به عام 1979 ، ولم يلق حتى تأشيرة دخول الى الولايات المتحدة لينفخوا في دكتاتور جديد بعد ان يأتوا به الى السلطة بانقلاب دموي يذهب ضحيته رفاقه في القيادة !
كان لابد ان تشتعل الحرب بين العراق وايران التي ارادوها لان تبقى ثماني سنوات استفاد كل العالم منها واستفاد منها الاقليم ايضا على حساب انسحاق المجتمعين .. كان الزمن يتقدم وكان لابد من السيطرة الفعلية على المنطقة وبالذات المجال الحيوي فيها ، اي الدائرة الخليجية العليا ، اي العراق ، فكان ان اندفع صدام حسين نحو الكويت وقد غزاها عام 1990، فكان ذلك سببا حقيقيا لتصبح المنطقة عرضة للاجتياح وسحق العراق عام 1991 بعد تهديد جيمس بيكر من تحويل العراق الى عصر ما قبل الحداثة .. سحقت البنية التحتية مع الاحتفاظ بصدام الذي وجد نفسه على رأس السلطة فانتفخ بانتصاره واطبق الحصار عليه كي تسحق بنية العراق الاجتماعية بعد سحق بنيته الاقتصادية .. لقد خار العراق في التسعينيات ، ليصدر قانون تحرير العراق على عهد الديمقراطيين عام 1998 . بعد خمس سنوات بالضبط كان لابد من ازالة حكم صدام حسين والهيمنة على العراق عام 2003 ..
ان خططا اشتغل عليها الامريكيون منذ خمسين سنة ، اي منذ العام 1958 لكي يجدوا بغيتهم في المجال الحيوي للشرق الاوسط . هل يعقل ان يغادروه بمثل هذه البساطة عندهم ، او بمثل هذه السذاجة عندنا ؟؟؟ ان الامريكيين تهمهم مصالحهم ، فليس من الغباء ان ينفقوا المليارات ، ثم يسلّمون العراق الى اهله ليغدو مشاعا بين دول عملاقة لا يهمها اليوم الا الطاقة ، او يغدو مباحا امام الدول الاقليمية والمجاورة .. ان الامريكيين ـ كما اتصور ـ ، لا يمكنهم الخروج من العراق ، ربما يحددوا طبيعة انتشارهم ، ولكن وجودهم سيطول طويلا ، وهو شيئ لا يمكن التفكير بغيره ، الا اذا قبضوا ثمن مصالحهم في العراق من مكان آخر ، او ان وجدوا بأن استراتيجيتهم في الشرق الاوسط لا تستقيم ومصالحهم في المستقبل . فالمعروف عنهم ، انهم ينتشرون الان في دول عربية واقليمية عدة في الشرق الاوسط ، وان تكتيكاتهم ومناوراتهم ينبغي ان تصب في صالح بناء وتعزيز استراتيجيتهم ، وبعكسه فهم لا ينظرون الى مصالح الاخرين وفي مقدمتهنم العراقيين لما تمليه مصلحة العراقيين ، بل بما تمليه مصالحهم هم بالذات .
انهم لا يهمهم ان كان العراق مستقرا او غير مستقر الا بالقدر الذي يخدم مصالحهم ! انهم لا تهمهم فيدرالية او مركزية او كونفدرالية ابدا ، بقدر ما يهمهم كيف يستفيد من هذه او تلك ! انهم لسنوات طوال والعالم كله يشهد دكتاتورية صدام وقمعه من دون ان نسمع ادانة واحدة فقط من قبل الامريكيين .. فلماذا تغير الحال فجأة ليسقطوه ؟ وعندما سقط ، لماذا اشاعوا العبث والتمرد والسلب والنهب وفتحوا الحدود امام كل الارهاب ؟ ثمة من يسميها اخطاء مثل بول بوريمر في مذكراته ، في حين اسميها خطط للتطبيق وقابلة للتطبيق .. الامريكيون لم ولن يخرجوا من العراق لأنهم يريدونه مشلولا ومنهارا وضعيفا ومنقسما ..انني اتمنى ان يحصل عكس ذلك ، ولكن ليس على حساب بقاء الميليشيات ، بل وصناعة ميليشيات جديدة وتزويدها بالمل والسلاح !! ان صناعة ميليشيات جديدة لا يعني القضاء على الارهاب ، بل خلق وتيرة سيئة جدا من الرعب والانقسامات ! انني ساصفق ان عاد السلام والامن الى ربوع العراق كله ، ولكن ليس بهكذا طرق ابدا ! ان الارهاب والعنف سوف لن ينحصر عن العراق مع وجود الميليشيات مهما كان نوعها وغرضها وهويتها وتيارها .. ان العراق لا يستقر الا اذا افرغ من السلاح وسدت الحدود ومنع التسلل وقضي على الميليشيات والخنادق الصامتة والخلايا النائمة وبعكسه ، فان امريكا ستبقى سيدة العراق دون منازع !