هل سيُفرِّخ العراق إرهابيين جُدداً كما فرَّخت أفغانستان في الثمانينات؟
-1-يكاد يكون وسط العراق وجنوبه الآن هادئين ومستقرين نسبياً، إلا من بعض فلول الإرهابيين، الذين ينتفضون انتفاضة الموت، ويرقصون كالديوك المذبوحة من الألم.
فهل سيُفرِّخ العراق غداً ما سوف يُطلق عليهم "إرهابيو الرافدين"، كما سبق وأطلقنا على المحاربين في أفغانستان في الثمانينات "العرب الأفغان"، أو "الإرهابيين الأفغان"؟
وهل يمكن لهؤلاء أن يفعلوا في العالم العربي خراباً وتدميراً، مثل ما فعله "العرب الأفغان" في التسعينات، والسنوات السبع الأولى، من القرن الحادي والعشرين، في مناطق مختلفة من العالم العربي، وعلى رأسها العراق؟
وهل كان درس العراق المرير والقاسي لهم كافياً لأن يدركوا أن أهدافهم لا يمكن أن تتحقق بالعمليات الإرهابية، وبالشعارات الدينية الخيالية؟
وهل أدركوا أن الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، يختلف عن أمريكا في العراق، وأن طالبان تختلف عن هيئة علماء السنة، والمليشيات الشيعية الأخرى؟
-2-
فلماذا من غير المحتمل أن يُفرِّخ العراق "إرهابيي الرافدين" كما سبق وفرَّخت أفغانستان "العرب الأفغان"، الذين قادوا واشتركوا في معظم العمليات الإرهابية في العالم العربي؟
هناك عوامل كثيرة منها:
1- أن العالم بعد انسحاب الاتحاد السوفيتي من أفغانستان عام 1989 ، وبعد غزو العراق وحرب الخليج 1991، وبعد كارثة 11 سبتمبر 2001، وبعد غزو العراق 2003 قد تغير تغيّراً كبيراً، تجاه العرب وقضاياهم، وتجاه وجود قوة عظمى واحدة بدلاً من قوتين، وانفراد أمريكا كزعيمة للعالم.
2- كانت أمريكا هي الداعم الحقيقي لحركة طالبان وللمجاهدين الأفغان من العرب وغير العرب. وبأسلحة أمريكا، وأموالها، ودعمها السياسي، تمَّت هزيمة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان. في حين أن لا دعم كبيراً للإرهابيين في العراق من قوة عظمى كالإتحاد السوفيتي السابق. ولم يصل هؤلاء الإرهابيين في العراق غير الدعم اللوجستي من سوريا، والدعم المالي والسلاح من إيران.
3- كان هدف المقاتلين في أفغانستان ليس إخراج الاتحاد السوفيتي من أفغانستان فقط، ولكن أيضا تنصيب حركة طالبان المنتصرة في ذلك الوقت، بقيادة الملا عمر في أفغانستان، ذات المجتمع الفقير والمتخلف والأُمي، والذي يرضى بحكم حركة كحركة طالبان السلفية الأصولية. في حين أن الوضع في العراق كان مختلفاً. فالعراق كان متقدماً على كل الدول العربية ثقافياً وعلمياً. وكان بلداً غنياً ونسبة الأميّة فيه منخفضة. وقد تمَّ القبض على رئيسه السابق، وتمَّ إعدامه مع مجموعة من معاونيه. ولم يكن مطلب الإرهابيين في العراق إعادة الحكم السابق، بقدر ما كان إقامة خلافة إسلامية في العراق، كما كانت تنادي بذلك خطابات ونداءات مختلف الفصائل الإرهابية.
4- كان المقاتلون في أفغانستان تحت قيادة واحدة، وتحت سيطرة وتنظيم واحد، بقيادة دولة كبرى ذات خبرات واسعة كأمريكا. وكانوا كلهم مسلمين، يحاربون تحت راية "الجهاد"، في حين كانت المليشيات الإرهابية في العراق تضم أكثر من 16 فريقاً، يتبعون قيادات مختلفة، ولهم أجندات مختلفة، بل إنهم كانوا يتصارعون ويتقاتلون في بعض الأحيان.
5- كانت الدول العربية الخليجية الغنية تدعم المقاتلين في أفغانستان دعماً مالياً قوياً وكبيراً، كما كانت تزودهم بالعناصر البشرية المقاتلة من مواطنيها، في حين أن هذه الدول كانت ضد العناصر الإرهابية في العراق، وتمنع عنها أية مساعدة مالية، أو بشرية، أو لوجستية.
6- لم يكن العالم العربي قبل 2003 مستعداً أمنياً وعسكرياً لمواجهة ميليشيات الإرهاب، كما أصبح عليه بعد السنوات التي تلت 2003 ، نتيجة لتنفيذ عمليات إرهابية مختلفة بعد 2003. وبذا اكتسب العالم العربي - وخاصة دول الخليج - خبرة كافية في كيفية مقاومة العمليات الإرهابية. والدليل على ذلك، أن العمليات الإرهابية في عام 2008 كانت قليلة جداً ليس في العراق وحده، ولكن أيضاً في الدول الخليجية التي ضربها الإرهاب في السنوات التي أعقبت 2003.
7- ساعدت الطبوغرافيا الأفغانية ذات الجبال الشاهقة، والمسارات الوعرة، وانتشار الكهوف المختلفة، على حرب العصابات التي قام المقاتلون الأفغان، والمقاتلون من الأفغان العرب. وكان من الصعوبة الكبيرة على أي جيش أو قوة عسكرية، أن تنتصر على القبائل البشتونية وأعوانهم المقاتلين في أفغانستان، فاكتسب كافة المقاتلين خبرة جيدة في القتال، وظهرت ثمار هذه الخبرة من الإرهابيين الذين قاتلوا في العراق من العرب الأفغان. في حين كانت طبوغرافية العراق في الوسط والجنوب – حيث اشتدت العمليات الإرهابية – تختلف عما كانت عليه في أفغانستان. فالأرض مسطَّحة ومكشوفة، وكذلك الحال في دول الخليج. ومن هنا، نجحت العمليات الإرهابية في اليمن ذي الجغرافيا الجبلية أكثر مما نجحت في دول الخليج ذات الجغرافيا الصحراوية المنبسطة. و"جيش عدن الإسلامي" الإرهابي وزعيمه أبو الحسن المحضار في اليمن دليل كبير.
8- قبل عدة أشهر من غزو العراق في 2003 ، تجمَّع متطوعون قادمون من مختلف الدول العربية في العراق. وقد أضعف الانهيار السريع للنظام العراقي البائد من عزيمتهم، وتركهم بلا هدف. ويقول المراسل السياسي لجريدة اللوموند ديبلوماتيك، فيكين شيتيريان، ومؤلف كتاب " الحرب والسلام في القوقاز" في عدد اللوموند 36 ، في ديسمبر 2008، "إن غالبية أولئك المقاتلين الذين تمكنوا من العودة إلى بلادهم، كانوا محطمين، جسدياً ونفسياً. واستُبدلوا بموجة ثانية أتت ليس للدفاع عن النظام البعثي، إنما لمواجهة جيش الاحتلال، كانوا عبارة عن إسلاميين مُشبَّعين بالأيديولوجيات الجهادية التكفيرية لجيل (لعرب الأفغان)، الذي سبقهم. ولكن منذ عام 2006 غادر العديد منهم العراق ، إما نحو أوطانهم، أو نحو جهات أخرى. وذلك على عكس الجيل السابق من المقاتلين، الذين حاربوا الاحتلال السوفيتي. ولعل في هذا سر انحسار موجات الإرهاب في العراق منذ 2006.
-3-
وهكذا نرى، أنه بالقدر الذي كان غزو العراق جاذباً ومشجعاً لتفريخ الإرهاب – كما يعتقد البعض - بقدر ما كان في الوقت نفسه طارداً للإرهاب ومقلصاً تقليصاً كبيراً من نشاطه وآثاره. فقد استفاد الغرب عامة من الدروس التي شهدها في العراق في محاربة الإرهاب. ورغم أن العمليات الإرهابية تعاظمت في السنوات الماضية، إلا أنه في ذات الوقت، أصبحت محاربة الإرهاب أكثر حِرَفيّة وإجادة. وكذلك الحال في الدول العربية، وخاصة دول الخليج، التي أعادت النظر في كل خططها وملفاتها السابقة عن الإرهاب، وطوَّرت من قدراتها الأمنية الذاتية، وجدَّدت خططها، وملفاتها. إضافة لذلك، فقد كانت أحداث العراق منذ 2003 إلى الآن، فرصة للدول العربية وخاصة الخليجية منها، لكشف معظم العناصر الإرهابية القيادية وما دون ذلك، واكتشاف مصادر تمويلها، وتجفيف هذه المصادر، بالتعاون مع أمريكا ودول أوروبية أخرى. فكان غزو العراق بقدر ما هدم ودمّر وقتل الكثيرين في العراق، بقدر ما استطاع العراق والدول العربية الأخرى التعلُّم والتدرُّب في كيفية محاربة الإرهابيين. وفي هذا الربح الكبير.
فهل سيصدُق على هذه الحالة قول : وداوها بالتي كانت هي الداء؟