Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

هل كان محكوماً على ثورة الرابع عشر من تموز بالفشل؟ ولماذا؟

جوابي المباشر على هذا السؤال: نعم، كان محكوماً على ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 العظيمة بالفشل، وتحديداً بالإغتيال وبشكل وحشي. وأزيد وأقول: ما كان على الثورة أن تنشب أساساً. فبرغم الحاجة الموضوعية إليها، إلا أنها، برأيي، كانت رمية حجر في الظلام كلفت الشعب العراقي الكثير الكثير بما لا يُقاس مع ما أحرزته من نتائج نهائية، وكان بالإمكان حصدُ نفس تلك النتائج النهائية بوسيلة أقل تكلفة. لو كانت لدى قادتنا الديمقراطيين والتقدميين الحكمة التي إكتسبها اليوم "حكماء ما بعد الأحداث" لوضعوا المقدمات اللازمة لثورة 14 تموز قبل عشرات السنين؛ وإن كان قد فاتهم الإعداد اللازم فما كانوا ليُقْدموا على الثورة. الحقيقة المرة هي أن الأحداث الطاحنة لخمسة عقود وأكثر مضت لم تجعل إلا القليلين من القادة العراقيين حكماء فما أصعب أن نتوقع الحكمة من القادة الأوائل وهم في بداية الطريق.

أعتقد أن نقص الحكمة تتجلى في غياب التحليل الموضوعي لواقع العراق، ماضياً وحاضراً. وهذا هو الذي دفع الفنان الكبير يوسف العاني لأن يطرح سؤالا هاماً في فضائية "الحرة" خلال شهر أيار المنصرم وهو: "لماذا حلَّ بنا ما حلَّ؟" ثم أردف قائلا: "إن بعض مثقفينا لم يجيبوا على هذا السؤال." (أعتقد أنه قصد "الجميع" ولم يقصد "البعض").

كانت الحاجة الموضوعية للثورة ملحة لحل التناقض الصارخ الناجم عن نمو قوى إجتماعية وإرتفاع مستوى الوعي الجماهيري العام، الأمرين اللذين جعلا الشعب والنظام السياسي القائم آنذاك وهو النظام الملكي الطغموي(1) على طرفي نقيض. لذا سرت الثورة، بعد إندلاعها، بين أبناء الشعب العراقي كسريان النار في الهشيم.

غير أن الثورة لم تحسب حساب مقدرتها على مواجهة أعدائها سواءً المطاح بهم، أي الملكيين الذين فقدوا السلطة، أو الجددَ المشاركين فيها وفق برنامج وأهداف مختلفة عن تلك التي تمسك بها قائدها، الزعيم عبد الكريم قاسم، ومؤيدوه الذين شكلوا الغالبية بين صفوف الشعب وقواه الديمقراطية والتقدمية، وداخل القوات المسلحة (بالمستويات المتوسطة والدنيا). لذا إفتقدت الثورة عنصر الديمومة لإفتقادها الشرط اللازم للثبات بوجه الأعداء والمضي قدماً نحو تحقيق أهدافها.

وهذا الشرط المُفتَقَد كان على القوى الوطنية والتقدمية والديمقراطية تشخيصه قبل تشجيع قادة الثورة على المضي بها ومنحهم الموافقة على تأييدها. وفي الحقيقة كان على تلك القوى إدراك ذلك الشرط منذ زمن بعيد أي منذ تأسيس الدولة العراقية الجديدة لإعداد البيئة الضاغطة الملائمة للتغيير السلمي أو الإصلاح على يد السلطة الملكية ذاتها أو فتح الباب، في حالة عناد السلطة، إلى عمل إنقلابي ثوري مضمون النتائج النهائية.

كانت ثورة الرابع عشر من تموز، بحق، جبارة هزت العالم وأدت إلى دخول قوات أمريكية في لبنان وقوات بريطانية في الأردن لقطع الطريق على أية تداعيات محتملة في المنطقة، وبأمل خنق الثورة إذا ما توفر الظرف الملائم للغرب. كان على القوى الديمقراطية والتقدمية أن تدرك حصول ردود الأفعال تلك منذ وقت طويل وتتخذ الحيطة له لأن الوضع العراقي ومخزون النفط فيه والموقع الجغرافي هام جداً في حساب الستراتيجيات العالمية وخاصةً أثناء الحرب الباردة، فهذه ثورة حقيقية وليست مظاهرات أو إحتجاجات أو إنتفاضة أو وثبة. وكان على تلك القوى الوطنية أن تفطن إلى أنه حتى إذا أخفقت القوى الغربية في إجهاض الثورة عسكرياً فهي كانت قد أعدت العدة لإجهاضها لاحقاً بتدابير مختلطة عسكرية داخلية وغير عسكرية هيئت لها سابقاً إضافة إلى تدابير جديدة تلائم أوضاع ما بعد إنتصار الثورة. ولكن لم تكن تلك التدابير هي الحاسمة، بل إنها ساهمت في بناء الحصانة الذاتية للنظام الطغموي.

كحصيلة، حصّن النظام الطغموي الملكي نفسه، كنظام وليس بالضرورة كأشخاص ، تحصيناً جيداً منذ نشأته .

أما القوى الديمقراطية والتقدمية المعارضة فقد طرحت الستراتيجيات الصحيحة الواضحة المتمثلة بإستكمال الإستقلال الوطني وتحقيق الديمقراطية الحقيقية والإصلاحات في شتى مناحي الحياة وما إلى ذلك. غير أنها أخفقت في التصدي للوساائل التكتيكية للنظام الطغموي ومن وراءه الذي حصن نفسه بها آخذاً بالإعتبار الحسابات البعيدة.

لقد أفلح النظام وحماته البريطانيون في أمرين تكتيكيين:

الأول: إختيار موضوع التحشيد،

الثاني : إختيار آلة حماية الذات.

موضوع التحشيد: عمد النظام الملكي والنظم الطغموية الأخرى التي أعقبته (القومي العارفي والبعثي البكري- الصدامي) إلى إلتزام الطائفية (2)(غير المعلنة رسمياً) والإيحاء بكون النظام ينتصر للطائفة السنية على حساب الطوائف الأخرى. كما عمد بأكثر صراحة إلى إلتزام العنصرية في نهجه .

مهما كان إيمان وإلتزام المسئولين بالدين والمذهب والقومية إلا أنهم لم يستطيعوا أن يُخفوا حقيقة أن نهجهم هذا كان يُقصد منه شق صفوف الشعب وخلق تعصّبٍ يَصلح لشحن وتحشيد أعوان النظام حوله. ورغم أن هذا المسعى لم ينطلِ على أغلبية العرب السنة والعرب عموماً إلا أن النظام إستطاع، بخطابات متعددة من هذا النوع، شدَّ طغمٍ من المنتفعين والمؤمنين بالنظام من جميع قوميات وأديان ومذاهب العراق، ينسب متفاوتة، حوله. لقد ضَمَنَ النظام الملكي تشبّعَ معظم القيادات العليا في الدولة، وخاصة قي ألأجهزة العسكرية والأمنية، بهذه العقلية الطغموية.

من جهتها، ركزت المعارضة الوطنية الديمقراطية والتقدمية على جانب واحد في مواجهتها لطائفية النظام؛ ركزت على أن نشر الطائفية في المجتمع العراقي هو مشروع إمبريالي يقصد منه تفتيت لحمة المجتمع العراقي وإجهاض حركته الديمقراطية والتقدمية المعارضة، وهوخطاب صحيح بطبيعة الحال. إلا أنه لم يُستكمل بطرح شعار يدعو ويضغط بشكل منهجي بإتجاه نبذ الطائفية مع توفير المعلومات والإحصاءات الدامغة حول الموضوع وربطه بموضوع هيمنة الشرائح الإستغلالية على مقدرات البلد، على غرار شعار معارضة الإضطهاد العنصري وإن كانت تعوزه، هو الآخر، مستلزمات المنهجة كالمعلومات والإحصاءات التفصيلية أيضاً.

يمكن أن تُطرح ثلاث تبريرات لعدم التركيز على القضية الطائفية هما:

أولاً: إن العراق كان حديث التكوين ما يستلزم إبعاد المسائل المثيرة للفرقة عن مسرحه السياسي.

هذا تبرير مردود عليه، لأن بناء الدولة وبلورتها على أسس خاطئة كان سيجعل من الدولة كياناً مشوَّهاً غير قابل للإصلاح والتطور ما يؤول إلى تحجر المجتمع وإرتفاع تكاليف النهوض به؛ وقد شهدنا ذلك بوضوح في وأد ثورة الرابع عشر من تموز حيث لعب العامل الطائفي دوراً تحشيدياً هاماً ضد مسيرتها الديمقراطية وإن كانت المصالح الطبقية تكمن في أساس الصراع. وفي الحقيقة كانت الفرقة موجودة في أعماق المجتمع العراقي إلا أن البوح بها كان محظوراً قسراً بحجة كاذبة وديماغوجية مفادها الحفاظ على الوحدة الوطنية التي كانت صورية. لقد أحلوا الجزء محل الكل وإعتبروه هو الكل سواءً كان الأمر طائفياً أو عنصرياً.

ثانيا: إن رفع شعار محاربة الطائفية هو تكريس وتعميم للطائفية ذاتها، الأمر الذي يصب في مصلحة النظام وراعيته بريطانيا.

وهذا مردود عليه أيضاً. إذ بهذا المنطق ستُضطر المعارضة إلى دسّ مسائل إجتماعية وإقتصادية وحقوقية كثيرة، كحقوق المرأة مثلاً، تحت البساط مخافة ان تصب في مصلحة النظام لأن هناك كثيرون ممن كانوا يعارضون هذه الحقوق في مجتمع محافظ جداً كالمجتمع العراقي(3). كان سيصبح هذا الإحتمال وارداً إذا لم تكن المعالجة قائمة على أسس ديمقراطية حضارية تلتزم بحقوق الإنسان؛ أي إذا جرت معالجة الخطأ بالخطأ. فالطائفية لا تُجاب بالطائفية ولا العنصرية بالعنصرية بل بالدعوة إلى مجتمع ديمقراطي قائم على الشفافية وإحترام حقوق الإنسان ومبدأ تكافؤ الفرص ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب. وهذا ما كانت تؤمن به القوى الديمقراطية والتقدمية المعارضة إلا أنها لم تجسده دعائياً في مجال معارضة النهج الطائفي للسلطة.

كنتُ، كمواطن ذي إهتمام بالشـأن السياسي، أحد المؤمنين بهذا الطرح، أي بعدم إثارة الموضوع تجنباً للإستغلال السيء له من قبل السلطة القائمة، حتى قبيل سقوط النظام البعثي الطغموي بثلاث سنين تقريباً عندما أيقنتُ، بعد دراسة وتأملٍ مستفيضين، أن رأس ذلك النظام، صدام، كان ينفذ سياسة واعية ومخططة ومبرمجة للتطهير الطائفي والعرقي، دونما معارضة ملموسة من حزبه الطغموي، مستخدماً أساليب في غاية التطرف والإجرام كالإبادة الجماعية وإقتراف الجرائم ضد الإنسانية اللتين شهدت عليهما المقابر الجماعية التي فاقت الأربعمائة ومازالت الإكتشافات العفوية لمزيد منها قائمة لحد هذا اليوم، كما شهدت عليها أثار حملة الآنفال والسلاح الكيمياوي الذي إستخدمه النظام الطغموي ضد شيوخ ونساء وأطفال مدينة حلبجة الكردستانية، وشهد عليه القمع العنيف لإنتفاضة ربيع عام 1991 الشعبانية في وسط وجنوب وكردستان العراق(4).

إن ما حصل بعد سقوط النظام البعثي الطغموي في 9/4/2003 لدليل ساطع على مدى تعويل النظم الطغموية على الشحن والتحشيد الطائفيين. فلما سقط النظام ولم تكن غالبية كوادره القيادية العليا بتلك النزاهة والأمانة والإخلاص للشعب كي تعترف بأخطاء وجرائم حزبهم ونظامهم وتعتذر للجماهير كي يُصار إلى إنهاء الإحتلال خلال فترة قصيرة جداً، بل أصرت على إسترجاع سلطتها بأي ثمن، ولما كانت تلك الكوادر القيادية على علم بأنها لم تكن قادرة على إقناع أي مواطن عراقي متزن للتعاطف مع نظامها الطغموي ومع طموحها لإستعادة السلطة ثانية، بدعوى مقاومة المحتل، أثارت تلك القيادات الموضوع الطائفي بأعلى وتيرة مكشوفة ووقاحة متناهية ووضعوا يدهم بيد التكفيريين ولحد هذا اليوم لتنفيذ سياسة التكفيريين المعلنة التي لا ينافقون فيها والمتمثلة بإبادة الشيعة. كل ذلك من أجل تقويض النظام الجديد المتجه نحو الديمقراطية ومحاولة إستعادة السلطة المفقودة.

يشير هذا إلى أن السكوت على طائفية النظام الملكي السعيدي ومن ثم طائفية النظام القومي العارفي قد شجع الطغمويين على الإمعان أكثر وأكثر في سياستهم الطائفية حتى بلغت حد التطهير الطائفي على يد النظام البعثي وخاصة على يد صدام شخصياً، وبلغت بعد سقوطه حدَ التحالف مع قوى تكفيرية داخلية وخارجية مدعومة من دول أجنبية لم تتردد في إعلان سياسة الإبادة التامة والمضي بتنفيذها بكل خسة وسفالة. حتى خلال هذا اليوم 8/7/2010 والذي سبقه سقط 68 شهيداً وما يزيد على 400 جريحاً من زوار الكاظمية بمناسبة دينية شيعية كفل شرعية الإحتفال بها الدستور العراقي والبيان العالمي لحقوق الإنسان واللوائح الأخرى الصادرة عن الأمم المتحدة..

إن ما شهدناه خلال السنين السبع المنصرمة من جرائم لا يمكن تخيل وحشيتها، لم تكن وليدة اليوم أو البارحة. إنها تعكس شحناً وتحشيداً متراكماً دفيناً يمتد إلى الأيام الأولى لتشكيل الدولة العراقية الحديثة. ولم يجرِ فضحه بالقدر الكافي فإزداد حدة ووحشية وإستهتاراً خاصة عند المنعطفات كإقتراب الجماهير الديمقراطية من تحقيق نوع من التوازن والعدالة الإجتماعية كما حصل أيام ثورة 14 تموز عام 1958 المجيدة.

ثالثاً: إن طرح شعار المطالبة بديمقراطية حقيقية من قبل أطراف المعارضة العراقية كان شعاراً شاملاً يغطي ضمناً القضية الطائفية.

ليس كل من يقرأ شعاراً يدرك كاملَ أبعاده السياسية والإجتماعية والإقتصادية وغيرها، خاصة بالنسبة للجماهير العريضة محدودة الثقافة، إضافة إلى إفتقاد الشفافية في المجتمع العراقي منذ نشأته حتى 9/4/2003 وهيمنة الحكومات على وسائل الإعلام بنهجها المعروف بتشويه الحقائق لصالح السلطة.

والأهم هي القدرة التنويرية والتحريضية والتأجيجية والتحشيدية للشعار. فكلما كان الشعار أكثر تخصصاً أصبح أقرب إلى إدراك الجماهير وأكثر ملامسة لمعاناتها المادية أو الفكرية أو النفسية وبالتالي يكون أكثر فاعلية في نفس المتلقي ونشاطه السياسي.

أـسوق مثلاً على قصور التثقيف الديمقراطي التقدمي المعارض في فضح طائفية النظم الطغموية منذ أيامها الآولى ما أدى إلى تمكّن ثقافة تلك النظم من النفاذ إلى أعداد غير قليلة حتى من الشرائح المثقفة التقدمية الواعية وإلى يومنا هذا. فما بالك بدورها في أوساط الطغمويين أنفسهم؟

قبل أشهر قليلة’ أطلقت، عبر فضائية "الحرة"، المناضلة والناشطة في مجال حقوق المرأة السيدة (هـ. أ.)، أطلقت تصريحاً خطيراً قالت فيه إنها لم تعرف الطائفية في حياتها إلا الآن، وهي قد تركت الموصل وعمرها (16) عاماً. لا أريد أن أخوض بالتفصيل لإثبات طائفية النظم الطغموية سواءً الملكي أو القومي أو البعثي إذ سبق لي أن نشرت مساهمة بهذا الصدد في صحيفة "صوت العراق" الإلكترونية في الشهر العاشر من عام 2006. إلا أنني أذكّر السيدة الفاضلة بحدثين فقط لبيان مدى بعدها عن الواقع. نشرت صحيفة "القوش" الإلكترونية قبل أيام أن السلطات المختصة وافقت على إقامة نصب تذكاري للمناضل الشيوعي توما توماس. هذا أيام الطائفية. أما أيام اللاطائفية فقد أوشك النظام البعثي الطغموي على تدريس القرآن الكريم في مدارس القوش التي لا تضم طالباً مسلماً واحداً في صفوفها لأنها مناطق مسيحية خالصة، لولا التدخلات الخارجية (وليست الداخلية لأنها ليست ذات قيمة في حساب البعث) . أليست دليلاً كافياً على الطائفية حملةُ التطهير الطائفي ومنها دخول دبابات حسين كامل إلى النجف لقمع الإنتفاضة الشعبانية وهي ترفع اللافتات والملصقات وتبث النداءات أن "لا شيعة بعد اليوم"؟

الثاني: إختيار آلة حماية الذات: حرص النظام الملكي الطغموي كل الحرص على أن يحتكر أجهزة الدولة لنفسه ولسلطته بهدف حمايتها من الضغوط الشعبية التي كانت تتأجج بين آونة وأخرى بسبب السياسات اللاديمقراطية للحكومات المتعاقبة ذاتها؛ بينما كان يُفترض في تلك الأجهزة أن تكون محايدة وموجهة لخدمة المجتمع بأكمله. كان الإحتكار أشد وضوحاً ووطأة في القوات المسلحة من شرطة وجيش وفي القوى الأمنية. ولم يكن ذلك من دون سبب.

هذه مسألة أخرى لم تولِها قوى المعارضة أهميتها المنهجية التفصيلية اللازمة خارج المطالبة العامة المُتَضَمَّنة في شعار المطالبة بديمقراطية حقيقية وخارج الشعارات الآنية في بعض التظاهرات حيث إنطلق هتاف في ساحة السباع ببغداد ربما في وثبة عام 1948 يقول "عاش الجيش عدا ضباطه الكبار". إذ كان عليها أن تطالب وتلح بصورة منهجية على وجوب تحقيق حيادية الأجهزة العسكرية والأمنية ووجوب التوقف عن ضخ الثقافة والنَفَسِ الطائفيين فيها وفسح المجال أمام المواطنين من كافة الطوائف للمشاركة في تسنم المناصب القيادية العليا المسئولة عن وضع الخطط بكافة تفرعاتها ومستوياتها.

أعود وأقول مرة أخرى إن تخصيص موضوع الشعار يجعله أقرب إلى فهم الجماهير وأكثر قبولاً لديها وأشد دفعاً لها للعمل لأنها تتلمس مصداقيته عند مقابلته مع ما يجري على أرض الواقع.

في الحقيقة ، من أهم الشعارات التي طرحها الحزب الشيوعي العراقي بعد نجاح ثورة الرابع عشر من تموز كان شعار المطالبة ب " تطهير أجهزة الدولة" مع تركيز خاص على تطهير الأجهزة الأمنية. غير أن هذا المطلب جاء متأخراً بعشرات السنين، لذا كان ذا مردود عملي محدود جداً لآن الفاسدين المطلوب إقصاؤهم تمكنوا من التحرك ضد الثورة قبل أن تتمكن هي من التحرك عليهم وهو أمر مفهوم لأن تحشيدهم جاهز بينما تحشيد الثورة ضدهم يحتاج إلى وقت طويل أضاعه الديمقراطيون والتقدميون سلفاً.

لبيان أهمية الجيش السابق للطغمويين، قديماً وحديثاً، وتعويلهم عليه، نجدهم يولولون عليه ليل نهار وما زالوا، ويطالبون بإعادته. وهناك منهم، من يريد تحويل الجيش الجديد إلى نسخة من القديم عبر ذريعة "المصالحة" المفصلة على قياسهم وليس على قياس المصلحة العامة . لا تقف وراء ذلك عاطفة أو حرص منهم على ضبط الأمن لأنهم هم أصل البلاء الإرهابي. بإعتقادي، تتضح النوايا أكثر وأكثر إذا ما سألنا أنفسنا: لماذا يعارض الطغمويون النظام الفيدرالي وقانون المحافظات؟ هل السبب حقاً يكمن في الخوف من تقسيم العراق؟ لا أعتقد ذلك. بل أعتقد أنهم لا يريدون توزيع السلطة والمسئوليات ولا يريدون تعدد مراكز القرار في العراق؛ بل يريدون عراقاً مركزياً تتركز السلطة السياسية فيه بيد حفنة من السياسيين الذين يشكلون الحكومة ، وتتركز القوة الضاربة والحاسمة في البلد بيد جيش مركزي يتبع لمركز قرار واحد يمكن أن يسيطر عليه متآمرون يحبسون الحكومة ويحلون مجلس النواب، مهما كان لونهما، ويعلنون الأحكام العرفية ويحذرون " كل من تسوِّل له نفسه بالعبث بالأمن العام بالسحق الماحق بالدبابات والطائرات" كما يعيدون قراءة البيان رقم 13 الذي أصدروه صبيحة 8 شباط 1963 الآسود الذي خؤّلوا فيه "الرفاق" "حق تصفية كل من يهدد الأمن العام". وهكذا تعود حليمة إلى عادتها القديمة.

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

إن النظام الملكي بنهجه هذا قد بذر البذرة الأولى للنظام الطغموي، الذي بيَّنتُ سماته وتطوراته في الهامش (1) أدناه، وقد أثبت فاعليته السامة المدمرة على العراق في المراحل اللاحقة من حياته السياسية التي رغم تبدل الأشخاص والحكومات وشكل النظام فيها لكنها شهدت إحتفاظ النظم، التي نشأت، بالجوهر المعادي للشعب حتى أوصلو العراق إلى هذا الوضع المزري الذي بلغه بسبب سلسلة الإنقلابات الطغموية البينية والحروب التي زجه بها النظام البعثي الطغموي وبسبب الحصار الظالم على الشعب الذي أوقعه بالعراقيين ومن ثم تَسَبُّبِهِ بالإحتلال عام 2003 الذي حرر العراق من عبوديته الطغموية البعثية ولكن بثمن باهض إضافي.

الخلاصة:

لقد كانت قيادات الجيش والأمن بيد السلطة الطغموية بمختلف شرائحها وإصطفافاتها التي تتناحر فيما بينها ولكنها موحدة أمام الشعب والقضية الديمقراطية. كانت معبأة ومحشدة، وهذه هي القوى الحاسمة في المجتمع العراقي تحت الظروف الداخلية والخارجية السائدة آنئذ. وقد تحرك الضباط الأحرار بزعامة عبد الكريم قاسم ورفاقه وفق منظور معين لآفاق الثورة، وتحركَ معهم أيضا شركاؤهم من ضباط قوميين وبعثيين، وهم من طغمويي الخط الثاني من الحكم الملكي، تحركوا وفق منظور آخر أساسه تأثير المد القومي الناصري وبإندفاع عاطفي وشعارات غامضة وفجة حول الوحدة العربية وتحرير فلسطين، ولم يكن لدى هذا الفريق أدنى إهتمام بالإصلاح الديمقراطي والإجتماعي والإقتصادي والثقافي وغير ذلك؛ خاصةً وأن المحتوى الإجتماعي للثورة المصرية ، بعد أن حُسمت قيادتها لصالح الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لم تكن قد وَضُحَتْ بعد. وأغلب الظن أنهم ما كانوا ليهتموا بها ، إذ أن همهم الأول كما أظهرت التجربة العملية إنصبت على المغامرة وإستلام الحكم وإطلاق شعارات رنانة دعائية غير جادة أساءوا لمحتواها النبيل وجعلوها موضع سخرية الجماهير؛ كما ورطوا وأساءوا لسمعة الرجل الوطني والقومي الكبير جمال عبد الناصر (5).

ولما إقتحم الزعيم عبد الكريم قاسم ومؤيدوه الميادين الإجتماعية والإقتصادية وغيرها، وخاصة الميدان الديمقراطي وبالأخص التقليل من وطأة الإقصاء الطائفي في كليتي الشرطة والعسكرية، إستفز ذلك الحِسَّيْن الطائفي والعنصري المشحونِ بهما الطغمويون ودق نواقيس الخطر على مصالحهم الطبقية الأمر الذي جعل الطغمويين يرتعبون من إحتمال فقدان السلطة الطغموية برمتها وإجتثاثها من الجذور (كما حصل على يد الأمريكيين في 9/4/2003)، لذا سرعان ما تفجرت براكين الشحن الطائفي والإستنفار والتحشد وأصبح الإصطدام التآمري حتمياً؛ وقد حصل، فعلاً، بأعنف صيغة إجرامية في 8 شباط الأسود عام 1963 بدعم من وكالة الإستخبارات المركزية كما فضحتها صحف أوربية عديدة وإعترف بها في حينه أمين سر القطر لحزب البعث العربي الإشتراكي علي صالج السعدي.

لو درسنا، بتمعن وموضوعية، موازين القوى داخل العراق وخارجه في المحيط أو العالم، لما أخفقنا في الوصول إلى نتيجة مفادها حتمية إغتيال ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة على أيدي أصحاب مصالح ومنافع طبقية مغلفة تكتيكياً بشحن وتحشيد طائفي عنصري تشبعت بهما الأجهزة الضاربة الحاسمة في المجتمع العراقي آنذاك مدعومة بقوى خارجية إقليمية وعالمية. ولو تحرك اليسار، وكان يمتلك قوة جماهيرية واسعة ولكنها غير مؤهلة لمثل هذه الخطوة، وإستلم السلطة لكانت النتيجة، بإعتقادي، أكثر كارثية من الكارثة الحقيقية التي حصلت بدءاً من صبيحة 8 شباط 1963 الأسود حتى 9/4/2003، كما أثبتت التجارب اللاحقة في أفغانستان والعراق نفسه.

ولما لم يكن الإعداد لقيام الثورة بالقدر الكافي، كان من الملائم النضال لدفع النظام الملكي نحو الإصلاح الديمقراطي وكان هذا ممكناً لطبيعة النظام الأقل شراسة بما لا يقاس مع شراسة النظام البعثي المتوحش والمنفلت من أي إلتزام حقوقي أو حضاري أو إنساني بينما كان النظام الملكي واقعاً في إطار الرعاية البريطانية التي كانت حكوماتها تهوِّن، بين الفينة والأخرى، من تطرف الحكومات العراقية بدفع من نواب في الجناح اليساري في حزب العمال المعارض الذين كانوا، بدورهم، يستمعون ويتعاطفون، بهذا القدر أو ذاك، مع وجهات نظر المعارضة العراقية الديمقراطية واليسارية (6).

كان من المحتمل أن يقود ذلك إلى نتائج إيجابية مقاربة لما نحن عليه اليوم متفادين أبشع وأقسى وأعنف التجارب وأكثرها دموية في المنطقة ومن بين القلائل على الصعيد العالمي في هذه المعايير المأساوية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1): الطغمويون والنظم الطغموية: هم أتباع الطغم التي حكمت العراق وبدأت مفروضة من قبل الإحتلال البريطاني في عشرينات القرن الماضي، ومرت النظم الطغموية بمراحل ثلاث هي: الملكية السعيدية والقومية العارفية والبعثية البكرية-الصدامية. والطغمويون لا يمثلون أيا من مكونات الشعب العراقي القومية والدينية والمذهبية بل هم لملوم من الجميع ، رغم إدعائهم بغير ذلك لتشريف أنفسهم بالطائفة السنية العربية وللإيحاء بوسع قاعدتهم الشعبية. مارستْ النظمُ الطغمويةُ الطائفيةَ والعنصريةَ والدكتاتوريةَ والديماغوجيةَ كوسائل لسلب السلطة من الشعب وإحكام القبضة عليها وعليه. بلغ الإجرام البعثي الطغموي حد ممارسة التطهير العرقي والطائفي والإبادة الجماعية والمقابر الجماعية والجرائم ضد الإنسانية كإستخدام الأسلحة الكيمياوية في حلبجة الكردستانية والأهوار. والطغمويون هم الذين أثاروا الطائفية العلنية، بعد أن كانت مُبَرْقعَةً، ومار سوا الإرهاب بعد سقوط النظام البعثي الطغموي في 2003 وإستفاد الإحتلال من كلا الأمرين، فأطالوا أمد بقاءه في العراق بعد ثبات عدم وجود أسلحة الدمار الشامل. كان ومازال الطغمويون يتناحرون فيما بينهم غير أنهم موحدون قي مواجهة الشعب والمسألة الديمقراطية؛ كما إنهم تحالفوا مع التكفيريين من أتباع القاعدة والوهابيين لقتل الشعب العراقي بهدف إستعادة السلطة المفقودة.

(2): الطائفية:

للطائفية معنيان: أحدهما عقائدي وهي طائفية مشروعة إذ تبيح لائحة حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة حق إعتناق أية ديانة وأي مذهب ومعتقد ديني أو سياسي أو إيديولوجي شريطة ألا يدعو إلى الكراهية والعنف والحرب.

إن محاولة توحيد أصحاب المذاهب من الديانة الواحدة هو ضرب من الخيال. فالطريق الأسلم والحل الصحيح هو أن يحترم كلُ شخصٍ قوميةَ ودينَ ومذهبَ وفكرَ الآخر على ما هو عليه دون قمع أو إقصاء أو تهميش أو إكراه على التغيير دون إقناع؛ ويتم كل ذلك في إطار الدولة المدنية الديمقراطية التي يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات. وهذا لا يعني عدم خوض نقاشات علمية هادئة متخصصة بين هذه الفئات المختلفة والدعاية للمذهب أو الدين أو الفكر السياسي والآيدولوجي ونقد الآخر.

أما الطائفية المقيتة والمدانة فهي الطائفية السياسية، بمعنى إضطهاد وإقصاء وتهميش طائفة على يد طائفة أخرى أو على يد سلطة طغموية لا تمت بصلة لأية طائفة. لو تعمقنا في موضوع الطائفية السياسية لوجدناها ترتبط بمصالح طبقية. والطائفي هو من يمارس الطائفية بهذا المعنى أو يؤيدها أو يدعو لها.

طائفية السلطة الطغموية ضد الشيعة وغيرهم هي التي حصلت في العراق إبان العهد الملكي السعيدي والقومي العارفي والبعثي البكري- الصدامي. وعلى يد تلك النظم الطغموية مورست العنصرية، أيضا، ضد الأكراد والتركمان والقوميات الأخرى، كما مورس إضطهاد الأحزاب الديمقراطية واليسارية وخاصة الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي بسبب أفكارها الديمقراطية والوطنية والتقدمية.

الحل الصحيح للقضاء على الطائفية السياسية يكمن بإعتماد الديمقراطية بكامل مواصفاتها اساساً لنظام الدولة وعدم حشر الدين في الشئون السياسية.

لا نجد اليوم في الدستور العراقي والقوانين ما ينحو بإتجاه الطائفية. وحتى برامج الأحزاب الدينية لا تحتوي على هكذا إتجاهات. وهو أمر يدعو إلى التفاؤل والتشجيع.

لابد من التعريج ولو بعجالة على بضعة ملاحظات تخص القضية الطائفية وهي تشكل نقداً لبعض جوانب الفكر السياسي لبعض العلمانيين العراقيين في حقبة ما بعد التغيير؛ وأعتقد أن التجارب المريرة التي مر بها العراق لابد وأن تجعلها موضع إهتمام. وأعتقد أنها كان لها تأثير كبير على الأداء السيء لليسار العراقي في إنتخابات 7/3/2010 ؛ وربما سيكون لها دور أشد أهمية في المستقبل إذا لن يُصار إلى معالجة الوضع.

أولاً: إن الطائفية ظاهرة موجودة في المجتمع العراقي منذ ما قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة وما بعدها وليومنا هذا. وإنَّ تناولها وفق أسس علمية مستندة إلى لائحة حقوق الإنسان، ليس بالأمر الطائفي كما يتصور البعض الذي أما يفترض أن الطائفية ستعالج بالطائفية المضادة وهذه بالطبع معالجة طائفية خاطئة، ولكنها غير واردة في ظل النظام العراقي الجديد القائم على الدستور والديمقراطية البعيدين عن الطائفية؛ أو أن ذلك البعض مازال واقعاً تحت تأثير أفكار الحقبة التي أعقبت تأسيس الدولة العراقية في عشرينات القرن الماضي حتى سقوط النظام الطغموي في عام 2003. في تلك الفترة، هيمن على الشرائح الديمقراطية والتقدمية واليسارية فكرٌ دعى إلى "دفع القضية الطائفية تحت البساط مخافةَ أن يستفيد منها البريطانيون" (ومن ثم الإمبريالية العالمية ومن ثم الصهاينة وإسرائيل). النتيجة، تمادت النظم الطغموية في سياساتها وممارساتها الطائفية دون حسيب أو رقيب حتى بلغت ذروة ألإستهتار في العهد البعثي الطغموي الذي مارس سياسة التطهير الطائفي (إضافة إلى التطهير العرقي) والإبادة والمقابر الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.

أعتقد أن هذا النمط من التفكير، الذي أَعْتبرُهُ تفكيراً إنهزامياً، قد جعل قيام ثورة 14 تموز المجيدة حدثاً محكوماً عليه بالفشل المحتوم لا لعدم وجود حاجة موضوعية للثورة بل لعدم توفر الشرط التكتيكي للنجاح في نهاية المطاف. إذ كانت قيادات الجيش والأمن بيد الحكم الطغموي وهذه هي القوى الحاسمة في المجتمع تحت الظروف السائدة آنئذ. ولكنني أقول الآن وبإختصار إنه كان على الحركة الوطنية أن تقرأ الواقع العراقي بموضوعية تامة بعيداً عن أسلوب تغليب التمنيات والأوهام. فكان عليها: أما أن تطرح موضوع مقاومة الهيمنة الطغموية الطائفية العنصرية بقوة منذ بداية تشكيل الحكم الملكي الطغموي لتحييد الجيش والأجهزة الأمنية والدينية وعدم جعلها أدوات بيد السلطة الطغموية؛ وأما ألا يُصار إلى القيام بثورة عندما كان الجيش والأمن بيد السلطة الطغموية بمختلف شرائحها وإصطفافاتها التي تتناحر فيما بينها ولكنها موحدة أمام الشعب والقضية الديمقراطية.

لقد حشرت الحركة الوطنية الديمقراطية العراقية نفسها في زاوية بسبب عدم التناغم مع ما كان يعتلج في نفوس الجماهير حتى تمكن الحكم الطغموي وإزداد ثقة وإستهتاراً فأقدم على أبشع أنواع القمع وأصبح عصياً على الردع وما عاد قادراً على الإطاحة به سوى الله أو أمريكا التي أطاحت به فعلاً وحررت العراقيين منه بعد دفع أبهض الأثمان.

أعتقد أن غياب التحليل الموضوعي لواقع العراق، ماضياً وحاضراً، هو الذي دفع الفنان الكبير يوسف العاني لأن يطرح سؤالا هاماً في فضائية "الحرة" خلال شهر أيار المنصرم وهو: "لماذا حلَّ بنا ما حلَّ؟" ثم أردف قائلا: "إن بعض مثقفينا لم يجيبوا على هذا السؤال." (أعتقد أنه قصد "الجميع" ولم يقصد "البعض").

ثانياً: هناك من ربط بين حدثين وإستنتج إستنتاجاً خاطئاً، وهما: حدثُ سقوطِ النظامِ الطغموي البعثي في 9/4/2003، وحدثُ إرتفاعِ النعرة الطائفية حتى إرتسم في أذهان الكثيرين بشكل لاواعٍ وجودُ ربط وعلاقة سببية مباشرة بين الحدثين "الجديدين". الربط السببي موجود بالفعل، ولكن بمعنى معيَّن وليس بالمعنى السطحي الذي يتبادر إلى الذهن والذي أشاعه السطحيون والطغمويون وأعوانهم في الخارج حيث أنحوا باللائمة على الشيعة والأكراد والأمريكيين، وذلك في خضمِّ "نضالهم" لإسترجاع سلطتهم المفقودة. لقد أشاعوا هذا المفهوم من باب "خير وسيلة للدفاع هو الهجوم"، بمعنى أن جبال الجرائم التي ينوء تحتها حكم البعث الطغموي حالت دون الدفاع عنه إلا بهذه الوسيلة الفكرية الإعلامية المشوشة التي يُقصد منها التخريب. في الحقيقة أثار الطغمويون، أنفسهم، النعرةِ الطائفية جنباً إلى جنب مع رفع شعار "مقاومة الإحتلال" وذلك لتقويض النظام الجديد وإستعادة سلطتهم المفقودة وهي بيت القصيد ولم تكن "مقاومة الإحتلال" هي المقصودة كما أثبتت الأيام. لقد إستفاد الأمريكيون من إثارة النعرة الطائفية وضخموها ووضفوها لصالحهم دون شك.

الطائفية ليست بألأمر الجديد ولكنها كانت تُمارس اثناء النظم الطغموية بشكل قسري ومبطَّن، ولم تجابه من قبل القوى الديمقراطية واليسارية بمنهجية وقدر كافيين.

ثالثاً: هناك خلط خاطئ وخطير بين الطائفية وبين إنطلاق ثقافة طائفة، وهي الطائفة الشيعية، من قمقمها لتأخذ حجمها الطبيعي في المجتمع، بعد تحررهما من القمع، مهما كانت طبيعة تلك الثقافة كمبادئ وكطقوس، متقدمة أو متخلفة، منبعها "صفوي أو سلجوقي"، فهي قد أصبحت ثقافة شعبية منذ قرون، ولعبت دورا سياسياً هاماً في الحفاظ على الهوية الثقافية لذلك المكوِّن من محاولات النظم الحاكمة منذ قرون لمحوهاً. علماً أنها أثبتت بالدليل الملموس كونها ثقافة مسالمة ولا تدعو للعدوان ولا تُفرض حتى على أتباع الطائفة بغير الإختيار الطوعي.

ومن يريد تطوير أو تغيير أو محو هذه الثقافة أو تلك، وعزل من يعتقدهم مستفيدين منها ومستغِلين لها، فليس أمامه سوى النضال الإجتماعي بين الجماهير والإقناع بالوسائل الديمقراطية سبيلا. فهذا هو شعبنا على حقيقته، أحببنا أم كرهنا، والثقافات لا تُفرض من الأعلى. لأن الفرض، أراد صاحبه أو لم يرد، سينحدر يوماً بعد يوم حتى يصل حالة التطهير الطائفي وكذلك العرقي اللذين بلغهما النظام البعثي الطغموي نظام التطهير العرقي والطائفي والإبادة والمقابر الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.

بإعتقادي أن هناك من اليساريين العراقيين من أساء لليسار بإنشغاله في وعظ الناس بترك مفردات ثقافتهم "الخرافية" على أساس كونها قادمة من مصدر خارجي (صفوي) وعلى أساس كونها تهدد الوحدة الوطنية. أعتقد أن هذا هو وعظ الواهمين. الأنكى ، والذي شكل إساءة مضاعفة لليسار، أن هذا الوعظ والتسبيب جاءا في وقت إنطلق، على أساس مشابه لهما، الإرهابيون التكفيريون في عزمهم المعلن على إبادة الشيعة.

هذا وأعتقد أن الإستقرار وشيوع الأمان وإنقشاع أخطار الإبادة ونضوج الوعي الديمقراطي ستقود كلها إلى مراجعة الطقوس والقرار بأدائها بشكل أكثر ملائمة وأكثر توفيراً للوقت والجهد وإجدى من حيث النفع والجوهر.

رابعاً: طرح البعض رأياً يقول: كان صدام ظالماً في كل شيء لكنه كان عادلاً في توزيع ظلمه على جميع المكونات. هذه مقولة غير دقيقة من وجهة النظر التأريخية. نعم إنه كان قاسياً لا يرحم كل من يقف بوجهه، وفي ذلك الظلم كان عادلاً. غير أنه قد ذهب أبعد من ذلك بكثير. إذ أن بطشه بالشيعة والأكراد جاء نتيجة منهج مخطط له بوعي وإرادة جازمة يرمي إلى تنفيذ حملة تطهير عرقي وطائفي. وهذا أمر أخطر بكثير من الحالة الأولى.

خامساً: يريد البعض من العلمانيين العراقيين نقدَ إقحام الدين في الشئون السياسية خاصة في فترة ما يسميها الإسلاميون بالصحوة الدينية، وهم على حق في ذلك، وأنا بدوري أدعو إلى الفصل بين الدين والدولة. لكن ذلك البعض يستبدل الدين بالطائفية ويبدأ بمهاجمتها. يمارس قسمٌ من هذا البعض هذا السلوك عن جهل وببراءة. ويمارسه القسم الآخر عن عمد بهدف التخفي لإفتقاده الشجاعة على تسمية الأمور بمسمياتها. يسلك الطغمويون والتكفيريون والدول ذات النظم الدينية المغلقة كالسعودية نفس هذا السلوك للنيل من الديمقراطية الوليدة في العراق والأحزاب الدينية، المساهمة الرئبسية إلى جانب الأكراد في تأسيس الديمقراطية، دون أن تسبب، أي السعودية وحلفائها، لنفسها الحرج، فهي تلعن وتصدر فتاوى القتل ضد الطائفيين وليس ضد الدينيين!! .

سادساً: وفي مجال تشخيص المذنبين ساوى بعض العلمانيين بين الجاني والضحية. لقد تهربوا من تحمُّل مسئولية التشخيص الصادق سواءً لإثارة الطائفية أو القيام بأعمال إرهابية وراحوا يلقون باللوم على الجميع مذنبين وضحايا. وفي أحسن حال فقد ساووا بين الجهد الكلي للمذنب وبين جهد بسيط ومنعزل يغلب عليه طابع "رد الفعل" للضحية. إن هذا الموقف ينطوي على تشجيع للمذنبين لآنهم يشعرون بعدم الملاحقة الأدبية لهم والإدانة.

لو كان هناك تشخيصا ًواقعياً للجاني والضحية، بعد سقوط النظام، من قبل عدد غير قليل من المثقفين العلمانيين، لتردد الطغمويون من بناء قبر صدام من المرمر ومحاولة جعله مزاراً عاماً للمدارس وغير المدارس وهو تحد صارخ وإهانة بل إعلان حرب على ضحايا النظام وما أكثرهم.

سابعاً: وفي مجال محاربة الطائفية يبتعد بعض العلمانيين عن الأسلوب العلمي ويعوِّلون كثيراً على الحلول المستندة إلى الوعظ والمنطق الديني الأخلاقي المسطح الجامد الداعي إلى "التوحّد ونبذ الفرقة" الذي لا روح فيه لإبتعاده عن الواقع وتجاهله طبيعة البشر وتأثير المصالح المتنوعة عليهم. ربما نبعت هذه المقاربة من الثقافة التراثية التي ورثناها والقائمة على تبجيل "الوحدة عبر التماثل" بينما يرى علماء الإجتماع أن الحياة تطلب "الوحدة عبر الإختلاف".

الحل الصحيح يكمن، إذاً، في الإلتزام بالمرجعية الحضارية الشاملة التي أقرتها الأمم المتحدة وهي لائحة حقوق الإنسان. أي أنْ يَحترمَ كلُ شخصٍ قوميةَ ودينَ ومذهبَ وفكرَ الآخر على ما هو عليه دون قمع أو إقصاء أو تهميش أو إكراه على التغيير دون إقناع.

وباعتقادي ان عدداً غير قليل من العلمانيين وقعوا في هذا الخطأ. وبناءً على هذا الخطأ أخفقوا في تشخيص جذر القضية العراقية وهي تحديداً مسالة "رفض الآخر" ذلك الآخر الذي أتى عن طريق صناديق الإقتراع. وكان الرفض، وما يزال فاعلاً، على أساس محاولة إسترجاع السلطة للطغمويين بعد أن عيّنوا أنفسهم "حراساً للبوابة الشرقية" للأمة العربية، وعلى أساس تشكيل "دولة العراق الإسلامية" للتكفيريين من منطلق أنهم "الفرقة الناجية" و "الطائفة المنصورة". وعلى أساس هذا الرفض نشأ إرهاب وحشي لم تنفع معه تهدئةُ الخواطر بلوم الضحية والجاني، وكأنه الربتُ على الأكتاف، ما شجع الجاني على التمادي في غيِّه.

ثامناً: في الوقت الذي تعاملت فيه جميع الأطراف الديمقراطية من اليمين واليسار والدينيين والعلمانيين مع الإحتلال الأمريكي للعراق تعاملاً عملياً (براغماتياً) من منطلق تلاقي مصلحة الشعب العراقي العليا مع المصالح الستراتيجية الأمريكية في مفردة إسقاط النظام البعثي الطغموي، تعامل البعض من العلمانيين مع الأحزاب الدينية تعاملا إيديولوجياً. فإفترضوا سلفاً أن هذه الأحزاب، وبضرورة الحكم العقائدي (الإيديولوجي) المسبق عليها، سترينا العجب العجاب في أمور السياسة والإجتماع وغيرها وفي مقدمها فرض نظام "ولاية الفقيه". كان هذا موقفاً خطراً لكون هذه الأحزاب قد نالت تأييد الأغلبية الشعبية ودخلت في صراع خفي متعدد المحاور وكانت بحاجة إلى دعم المثقفين: محور الصراع مع الأمريكيين حول الملف الأمني وإنسحاب القوات ومقاومة محاولات تشتيت الأحزاب الدينية الديمقراطية، ملف الصراع مع الإرهاب، محور الصراع مع المخربين داخل العملية السياسية، ملف الصراع مع دول المحيط . ولابد من القول أن جزءً من حكومة المالكي وبقيادته واجه هذه التحديات وسط مثبطات عديدة لكنه حقق الإنتصار، بدعم شعبي، وما زال العراق في أول الطريق.

تاسعاً: يتوجب توخي الحذر حيال الأدعياء وقليلي الوعي والمتعصبين والمُشَوَّشين فكرياً. فمن غير الصحيح إعتباره من المسلمات تطابق فكر وسلوك كل فرد، وفي جميع المواضيع، مع فكر الحزب أو الإيديولوجيا أو الجماعة التي ينتمي أو يلتزم بها. فكثيرون هم الذين يدَّعون أو يلتزمون ولكن سلوكهم ومواقفهم العملية لا تطابق ما يدَّعونه وما يلتزمون به. وقد رأيت هذا جلياً في الموضوع الطائفي، للأسف.

عاشراً: وَضُحَ، أثناء المسيرة السياسية للعراق منذ تأسيس النظام الديمقراطي فيه ولحد الآن، سلوكٌ شائن ولاوطني، مفادُه: التمني والسعي لإفشال الحكومة ولو على حساب المصالح الوطنية والإضرار بها وعلى رأسها صيانة الديمقراطية وإستكمال مؤسساتها. هنا لا أتكلم عن أعداء الديمقراطية أصحاب الذرائع المتنوعة، بل أعني الأطراف والأفراد المؤيدين للديمقراطية. هؤلاء على عدة أنواع: فمنهم من ساير الديمقراطية لتخريبها من الداخل وفق قاعدة "إذا لم تستطع إحباطه فسايره" وهؤلاء هم الطغمويون. ومنهم من هو منخفض الوعي السياسي؛ ومنهم من يفعل ذلك بدافع الأنانية. أعتقد أن الجميع يعانون من مرض مصاب به العراقيون نتيجة القمع القاسي والطويل الذي تعرضوا له وهو مرض التطرف لدرجة إيذاء الذات.

أحد عشر: على الرغم من الفضل الكبير الذي أسداه الأمريكيون للعراقيين سواءً بإطاحة النظام البعثي الطغموي أو بإقامة النظام الديمقراطي، ما يقتضي إقامة علاقات صداقة حقيقية وشفافة قائمة على الإحترام الملبادل والمصالح المشتركة وهو ما حاولت حكومة السيد المالكي تحقيقه، إلا أنني ألحظ أيضاً جهودهم لتفتيت الأحزاب الإسلامية الديمقراطية وتشتيت جماهيرها لا لكونها طائفية كما يظن البعض بل لأنها قادرة على الوقوف بوجه المصالح المناقضة للمصالح العراقية وخاصة النفطية والأمنية الإقليمية. أعتقد أن تأخير حل مشكلة الكهرباء والخدمات عموماً يقع ضمن إطار هذا الجهد. لذا أرى عدم الإنجرار وراء هذا الجهد للمقتضى الوطني من جهة ولدرء ما قد يكون الأسوأ من جهة أخرى. فالمنطقة والعالم يعجان بحركات التطرف واللاعقلانية. وإذا أخطأنا الحساب فقد تكون العواقب كارثية بعد أن أوشكنا على بلوغ شاطئ الأمان بعد جهد جهيد وشق الأنفس.

(3): يُلاحظ وجود مفارقة في طبيعة الشعب العراقي حيث إنه محافظ جداً من الناحية الإجتماعية، بينما هو تقدمي لحد التطرف أحياناً في تقبل الأفكار اليسارية، علماً أن المحن الطاحنة التي تعرض لها خاصة منذ إنقلاب 8 شباط الأسود ولحد الآن قد ليَّنت من عريكته وجعلت الفجوة تضيق ويميل المؤشر لهذه الناحية في بعض القضايا ولتلك الناحية في قضايا أخرى.

(4): قدّرت المصادر الكردية بأن عدد ضحايا حملة الأنفال بلغ (182) ألف شهيد، وقدرته المصادر الأمريكية ب (62) ألف شهيد. أما ضحايا القصف الكيمياوي لحلبجة فقد أجمعت المصادر العراقية المعارضة والأجنبية على أن الضربة الآولى أودت بحياة (5000) شهيداً. أما عدد ضحايا قمع الإنتفاضة الشعبانية في الوسط والجنوب فقد قدرته مصادر المعارضة العراقية بما يزيد على الربع مليون شهيداً. أما المصادر الأمريكية فقد قدرته ب (22) ألف شهيد. أعتقد أن المصادر العراقية أقرب إلى الدقة.

(5): بالطبع هذا لا يعني نسيان العيوب الجادة في النظام الناصري وأهمها غياب الديمقراطية وعدم الإعتماد على الجماهير في النشاط العام، ودعمه للنشاطات التآمرية كإسلوب لتحقيق الوحدة العربية.

(6): لابد من التنويه إلى الدور البارز والمشرِّف الذي لعبته "جمعية الطلبة العراقيين في المملكة المتحدة" بهذا الخصوص. فرغم صبغتها اليسارية وحقيقة كون الطلبة الشيوعيين في مقدمة من قدموا التضحيات لبقاء الجمعية على قيد الحياة في وجه الضغوط الشديدة للحكومة العراقية وسفارتها في لندن، إلا أن الجمعية، بحق، كانت تنطق بإسم جميع القوى الديمقراطية واليسارية المعارضة وتوصل وجهات نظرهم إلى الأحزاب والنواب والسياسيين والصحف البريطانية

Opinions