هل من علاقة بين نتائج الانتخابات والإرهاب الدموي في العراق؟
(1)لم يكن قانون الانتخابات العامة يجسد الروح الديمقراطية الضرورية التي يفترض أن تتوفر فيه ليعبر عن رأي الناخبات والناخبين بصورة ديمقراطية ويمنع الاعتراضات الواقعية التي نشأت والتي تسببت بمصادرة نسبة مهمة جداً من أصوات الناخبات والناخبين, وبالتالي حرمان مجموعة من المرشحات والمرشحين من الفوز بالانتخابات والجلوس مع الآخرين تحت قبة البرلمان لتعبر عن رأي الناخبات والناخبين في القضايا التي يعالجها المجلس النيابي. لقد كان الأفضل أن يكون العراق دائرة انتخابية واحدة ويؤخذ بالقاسم المشترك لعموم العراق وليس كما جرى وأخل كثيراً بأصوات الناخبات والناخبين. ولا بد من معالجة هذا الأمر بروح ديمقراطية بعيدة عن ضيق الأفق الطائفي أو القومي أو الحزبي وذلك بتعديل القانون.
(2)
لم تكن الحملة الانتخابية التي سبقت يوم الاقتراع نظيفة, بل تخللتها الكثير من الحوادث التي كان المفروض معالجتها قبل ذاك وبهدوء وموضوعية. لم يكن غريباً على بلد مثل العراق أن تحصل فيه بعض الأمور التي نعتبر تجاوزات فعلية على ديمقراطية الانتخابات والتي مارستها بعض القوائم أو بعض المرشحين مثل تقديم الهدايا والعطايا وتوزيع الأموال لشراء الأصوات أو ممارسة التأثيرات الدينية والمذهبية والعشائرية على الناخبات والناخبين. وكان على المفوضية المستقلة استخدام حقها المشروع في متابعة ومحاسبة أولئك الذين ارتكبوا هذه الظواهر السلبية التي أخلت كثيراً بسلامة العملية الانتخابية. ولكن الظاهرة الأكثر سلبية والتي أججت من جديد روح الطائفية وخلقت اصطفافاً طائفياً لعيناً برزت في تلك الضجة غير الطبيعية التي أثارها رئيس الوزراء السيد نوري المالكي حين طرح وقبل الانتخابات بأسابيع معدودة حملة واسعة تشير إلى احتمال عودة البعثيين إلى السلطة لدعم من الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية, كما طرح بشكل متأخر جداً موضوع الدكتور صالح المطلگ ومظفر العاني في هيئة المساءلة والعدالة والتي كان بالإمكان معالجتها في فترة مبكرة من حصولهم على عضوية البرلمان في انتخابات العام 2005. وقد استثمر الآخرون ذلك الخطأ الفادح بإشاعة جو الصراع الطائفي المقيت واستنفار كل القوى القومية والبعثية, إذ أن المالكي بطريقة طرحه لم يساعد على تحقيق الفرز الضروري بين تلك القوى, بل وضعهم في خانة واحدة رغم أنهم لم يكونوا يوماً في خانة واحدة بل خانات كثيرة.
(3)
ليس غريباً أن يحصل في بلد مثل العراق تزويراً أو تزييفاً بنسبة معينة. إلا أن هذه النسبة التي حصلت لا يمكنها أن تغير كثيراً من الصورة التي خرجت بها الانتخابات ونسبة الانحراف لن تكون أكثر من 5% في أسوأ الأحوال, وبالتالي كان لا بد من الاعتراف بالنتائج وتقديم اعتراضات بطريقة هادئة على تلك الدوائر التي يعتقد بوجود بعض التزوير فيها, وهو أمر محتمل في كل الأحوال. إلا أن الطريقة التي تعاملت بها قائمة دولة القانون والقائمة العراقية بشكل خاص لم تكن سليمة, إذ كان التهديد واضحاً وسلبياً على مستوى الوطن كله. وهو ما يفترض أن يدان أياً كان البادئ به أو الممارس له, إذ أشاع القلق والتحفز وبعض العدوانية في نفوس القوى الحزبية وفي صفوف المجتمع دون أدنى مبرر.
ومن الجدير بالملاحظة أن المفوضية المستقلة لم تحرك ساكناً وتدين هذه الممارسات وتتصدى لها من مطلق حيادي مستقل مطلوب.
(4)
وقبل بدء الانتخابات, ومن أجل إشاعة الفوضى والخراب وعدم الثقة بقدرة رئيس الحكومة وحكومة المالكي على تأمين الأمن والاستقرار, نفذت قوى عديدة لا يمكن حصرها بالقاعدة والبعثيين من أتباع عزة الدوري وحدهما, مجموعة من العمليات الإرهابية التي دللت على خمس مسائل جوهرية لم تنتبه لها الحكومة ولما تمارس دورها في وضع حدٍ لها, وهي:
1. هشاشة الوضع السياسي والحكومي والأمني واستمرار الصراعات التي كانت ولا تزال تنهش في كيانها وتضعف دورها في الحياة السياسية والأمنية والاقتصادية؛ 2. المبالغة في منجزات الحكومة وضعف يقظتها إزاء النشاط الإرهابي واعتقادها بأنها قد أنهت دور القاعدة وقوى البعث ألصدّامية وأن هذه القوى لم تعد قادرة على التحرك ضد الشعب؛ 3. كما أنها لم تضع في حسابها وجود قوى أخرى غير القاعدة والبعث الدموي من قوى دول الجوار التي تريد إشاعة الموت والفوضى والخراب في البلاد والبرهنة على عجز المالكي في توفير الأمن للعراق؛ 4. لا تزال قوى الأمن الداخلي والشرطة والجيش قليلة اليقظة وضعيفة القدرة على توفير جدي ومستمر للأمن الداخلي وحماية المواطنات والمواطنين من عبث القوى الإرهابية, إضافة إلى وجود اختراقات غير قليلة في هذه الأجهزة وفي نقاط التفتيش والرقابة؛ 5. التدخل المستمر من جانب دول وقوى الجوار في الشأن العراقي الداخلي واستمرار تأييدها ودعمها المباشر وغير المباشر لقوى الإرهاب في العراق ووجود قوى داخلية مستعدة حتى الآن, بسبب صراعاتها وعدم تحقيق مصالحة مع القوى النظيفة منها, على حماية قوى الإرهاب ومنحها غطاءً واقياً ضد مطاردتها من قبل القوات العراقية.
(5)
تميزت العملية الانتخابية في يوم الاقتراع بالهدوء ودون حوادث كبيرة, كما شهدت إقبالاً جيداً على صناديق الاقتراع وبمشاركة واسعة من بعض المناطق التي لم تشارك قبل ذاك بذات الهمة والحمية مدفوعة بالأجواء السلبية التي نشأت قبل الانتخابات بفترة قصيرة. فكان الاستقطاب, شاء الإنسان أم أبى, طائفياً لم يمنع من بروزه دخول بعض العناصر العلمانية والديمقراطية في البيتين الشيعي والسني, وبالتالي برزت قوائم تتحدث عن المواطنة ولكنها تعبر عن النسيج القومي والمذهبي في العراق, العرب الشيعة والعرب السنة والكُرد. وغابت عن المجلس الجديد قوى التيار الديمقراطي العربي بكل مكوناتها واتجاهاتها الفكرية والسياسية وخسر الكثير من عناصر هذا التيار الذين كانوا في دورة المجلس 2005-2009 مقاعدهم في هذه الدورة.
لقد حصل حراك بسيط في هذه الدورة عن الدورة السابقة. استطاعت بعض قوى الإسلام السياسية الشيعية تعزيز مواقعها على حساب قوى أخرى فيه مثل حزب الدعوة والصدريين على حساب المجلس الإسلامي الأعلى, كما حصل نفس الحراك في القائمة العراقية وقوى الأحزاب الإسلامية السياسية السنية حيث تراجعت قوى التوافق والحزب الإسلامي كثيراً لصالح غيرها في هذه القائمة.
لقد استطاع المالكي من طرف وأياد علاوي من طرف أخر أن يحرزا على أكثر المقاعد لسببين, وهما: الاستقطاب الذي حصل في الآونة الأخيرة من الحملة الانتخابية من جهة, ونداءات الطرفين بالكف عن الطائفية والالتزام بالمواطنة العراقية من جهة ثانية, رغم عدم التزام الطرفين عملياً بالسبب الثاني.
(6)
إن المشاركة النسبية الواسعة بالانتخابات (62%) ونتائجها والبدء بحوارات بين مختلف الأطراف واحتمال تشكيل حكومة عراقية تستند إلى قواسم مشتركة وأسس واضحة, رغم الصعوبات التي تعترض هذا الطريق والمدة الطويلة نسبياً التي يمكن أن تستغرقها هذه العملية, وتأييد العالم لنجاح العملية الانتخابية رغم نواقصها المعروفة, قد أشاع القلق الشديد والرعب في صفوف كل قوى وجماعات الإرهاب المحلية والإقليمية والدولية فدفعها إلى استنهاض جماعاتها التي كان بعضها في قيلولة مؤقتة لتنفذ سلسلة من العمليات الإرهابية التي تشيع الموت الواسع والخراب وتثير الإحباط في نفوس الناس وتشدد الصراع بين القوى السياسية وتسمح ببروز اتهامات متبادلة في ضوء ما تثيره بعض القنوات الفضائية بإصرار بغيض ومقصود مستندين في ذلك إلى التهديدات التي صدرت في أعقاب الإعلان عن النتائج الجزئية المسيئة للعملية الانتخابية وبالطريقة البائسة التي مارستها وقدمتها المفوضية المستقلة للجمهور العراقي والإقليمي والدولي. إن هذه القوى الإرهابية والقوى المحركة لها تستفيد اليوم من الفراغ السياسي الذي بدأ منذ أن أصبح دور الحكومة مجرد تصريف أعمال, وحل الإحباط الشديد برئيس الحكومة وبوزيري داخليته ودفاعه ومستشار الأمن القومي.
(7)
على مدى أسبوع واحد وقعت سلسلة من العمليات الإرهابية الدموية الموجهة بشكل خاص صوب الهيئات الدبلوماسية وجماهير الشعب الكادحة. وهي هادفة إلى زعزعة ثقة دول العالم بحالة الاستقرار الممكنة وتأكيد هشاشة الوضع الأمني والسياسي في العراق وقدرة قوى الإرهاب على ممارسة عملياتها في وضح النهار وبالرغم من كل ادعاءات الحكومة بقدرتها على لجم الإرهابيين ومن يقف وراء كل ذلك. لقد فقد العدو الإرهابي أعصابه وراح يمارس تهديداته السابقة بقتل الناس ومنع عودة السلك الدبلوماسي الأجنبي إلى العراق وممارسة أعماله ضد أمن واستقرار الناس. هذه هي مهمة قوى الإرهاب وهذا هو دورها, ومن يريد التيقن من ذلك فما عليه إلا أن يتابع قناة الشرقية والجزيرة ليتعرف بشكل دقيق إلى ما يريده الإرهابيون ويسعون إليه حالياً. سوف لن تتوقف العمليات الإرهابية ما لم يطرأ شيء جديد على الوضع السياسي في العراق, فما هو المطلوب حالياً؟
(8)
لقد قضيت عدة أسابيع في العراق والتقيت بالكثير من الناس من مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية ومن مختلف القوميات ومن أتباع الديانات والمذاهب الدينية, كما استمعت إلى الكثير من الآراء والملاحظات من كوادر قيادية في أحزاب سياسية ومن أعضاء في تلك الأحزاب, إضافة إلى أراء الناس البسطاء الذين يعون جيداً ما يجري في العراق. لقد عدت تواً من بغداد (5/4/2010) وكففت عن الكتابة خلال فترة السفرة بهدف الاستماع بإذن صاغية إلى آراء من عانوا من صراعات ونزاعات القوى السياسية والأوضاع الاقتصادية والفساد المالي والإداري ومن أكتووا بنيران وعواقب عمليات قوى الإرهاب الدموية.
يدرك أغلب العراقيات والعراقيين, وخاصة أولئك الذين يتابعون الوضع السياسي ويعرفون علله ويعانون منها, أن حكومات وقوى دول الجوار كانت ولا زالت تتدخل في شؤون العراق الداخلية, إذ أن لكل من هؤلاء "مصالحه الحيوية" في العراق وضمن إستراتيجيته الإقليمية المناهضة لاستقرار العراق وسيادته على أرضه وقراراته. ولا يمكن لأي منا إيقاف هذا التدخل ما دامت هناك قوى داخلية تقبل بذلك وتعتمده في نشاطاتها السياسية. ولكن الذي يشير إليه الناس في العراق ويستغربون منه هو أن يتوجه السياسيون العراقيون إلى تلك الدول بطلب المساعدة لتحقيق التحالفات المنشودة في ما بينها. وهو الأمر المضحك المبكي لما آلت إليه هشاشة القوى والأوضاع السياسية في العراق, هشاشة وضعف الدولة العراقية. فمنهم من رحل إلى إيران واغتاظ الآخرون لأنهم لم يدعون إليها, وذهب آخرون إلى السعودية, واغتاظ آخرون لأنهم لم يدعون إليها ذلك, وكذا الحال حين رحل آخرون إلى سوريا والسعودية وإيران في آن بطلب الدعم والمساعدة. ومنهم من رحب بالتدخل التركي في شأن الموصل وعموم العراق. ولا شك في أن كل تلك الزيارات خارج الصدد, إذ أن على العراقيات والعراقيين تدبير شأن بلادهم دون السماح بتدخل القوى والدول الأخرى.
(9)
يواجه عراق اليوم إحدى حالتين:
** إما الغوص في مستنقع الصراعات والنزاعات وتفاقم العمليات الإرهابية التي تسعى إلى تنشيطها قوى كثيرة داخلية وخارجية؛
** وإما تحري القوى السياسية العراقية الفائزة في الانتخابات وغير الفائزة أيضاً عن حالة من قبول بعضها بالبعض الآخر وبنتائج هذه الانتخابات, بغض النظر عن الموقف الخاص لكل منها بها, والتحري عن قواسم وطنية مشتركة تنقل العراق إلى شاطئ الأمن والاستقرار والسلام. وهي الحالة الأمثل والمطلوبة من قبل الشعب العراقي.
وهذه الحالة تعني القبول بما هو مسجل في الدستور العراقي والبدء بحوارات جادة دون استبعاد أي طرف فائز, وكذلك الحوار مع غير الفائزين بغض النظر عن مشاركتهم أو عدم مشاركتهم في تشكيل الحكومة الجديدة. إن المجتمع العراقي قد أعطى رأيه في أن لا يستبعد أي طرف فائز من المشاركة في تشكيل الحكومة. وحين الاتفاق على آليات تشكيل الحكومة ووضع برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي وأمني وإقليمي ودولي مشترك لها, حينذاك يمكن أن تتشكل حكومة قوية قابلة للحياة من جهة, وربما تتشكل معارضة سياسية قوية نسبياً, سواء في داخل البرلمان أو خارجه, قادرة على التأثير في الأحداث نسبياً من جهة أخرى, وقادرة على تنفيذ البرنامج المشترك.
لا شك في وجود عقبات تبدو عصية على الحل مثل تحديد رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب بعد أن تم الاتفاق مبدئياً على رئيس الجمهورية, وكذلك توزيع الحقائب الوزارية بين المشاركين في بنية الحكومة الجديدة. إلا أن مواصلة المسيرة السياسية ومعالجة المشكلات القائمة وتعطيل وإنهاء نشاط وعمليات قوى الإرهاب والمقاومة غير الشريفة في العراق, هو الذي يفرض على الجميع الاستماع إلى صوت العقل والحكمة والتجربة المنصرمة للسير على طريق التعاون والتنسيق وليس التصارع والتنازع.
لا شك في وجود احتمالات وسيناريوهات كثيرة في تشكيل الحكومة الائتلافية, ولكن أكثرها أمناً هو دخول القوائم الأربعة في ائتلاف سياسي للسنوات الأربعة القادمة ببرنامج وطني ديمقراطي لحل المشكلات التي لم تعالجها الحكومة السابقة رغم ضرورة معالجتها برؤية جديدة تطمح إلى نشر الأمن والاستقرار والتفاهم في البلاد. إنه مطمح الناس الطيبين والبسطاء في العراق, فهل سيستمع سياسيو العراق إلى صوت الناس, صوت العقل والحكمة؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام والأسابيع القادمة.
نشر المقال في جريدة المدى في 12/4/2010