هل من علاقة جدلية بين النضال المطلبي للشعب والنضال في سبيل الديمقراطية؟
كانت الأحزاب السياسية الوطنية والديمقراطية وستبقى تواجه مصاعب جمة في نضالها من أجل حرية الشعب وحياته الديمقراطية والتقدم الاجتماعي وتعزيز استقلال وسيادة البلاد ما لم تربط هذا النضال بحيوية ومبادرة وإبداع بالمطالب اليومية والأساسية للفئات الاجتماعية الكادحة والفقيرة التي تشكل اليوم نسبة عالية جداً من الشعب العراقي بكل مكوناته, إضافة إلى تلك المطالب التي تمس الغالبية العظمى من الشعب. وتتحمل هذه القوى, في ظروف الدول النامية حيث لا تسود في غالبيتها الديمقراطية وحقوق الإنسان بل تداس أحياناً بالأقدام, مسؤولية توضيح العلاقة العضوية والجدلية بين المهمات الوطنية العامة والمهمات المطلبية اليومية لحياة ومعيشة الناس مثل العمل والخبز والماء والكهرباء والتعليم والصحة والنقل والبيئة النظيفة والشوارع المبلطة والمجاري, إضافة إلى المطالب الثقافية والفنون الإبداعية والآداب المتنوعة التي يفترض فيها أن تغذي روح وعقل الإنسان وتساهم في تنويره, وكذلك الأجر المتساوي للعمل المتساوي وحرية المرأة ومساواتها بالرجل ,,الخ. كما لا بد من ربط تلك المهمات الوطنية العامة بمطالب فئات المجتمع المختلفة, سواء أكانت شبابية أم نسائية أم طلابية وتلاميذ المدارس أم كبار السن والتقاعد أم العجز والشيخوخة والضمان الاجتماعي ... الخ. إذ عبر هذا الربط في طرح الشعارات اليومية المناسبة يمكن كسب الناس وتعبئتهم للوقوف إلى جانب القضايا الوطنية والمهنية اليومية الملحة وفي مواجهة التعسف أو الفساد أو مصادرة حقوق الإنسان, ومنها حقوق المرأة والطفل.ويفترض في العملية النضالية أن تأخذ الأحزاب السياسية الديمقراطية, واليسارية منها على وجه الخصوص, على عاتقها إبراز العلاقة العضوية بين الطبيعة الاجتماعية والسياسية للحكومة وبين سياساتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية, إذ أنهما وجهان لعملة واحدة. فلا يمكن لأي حكومة تريد الدفاع عن المصالح الوطنية أن تهمل عملية التنمية الاقتصادية والتصنيع وتحديث الزراعة وتركز على الاستيراد السلعي وإغراق الأسواق بالسلع من مختلف دول العالم وتستهلك الدخل القومي بعيداً عن تحقيق التراكم الرأسمالي الضروري لتطوير وإغناء الدخل القومي, أو لا تقوم باستخدام عقلاني للدخل القومي المتحقق في البلاد أو لا تنتف سياسة توزيع وإعادة توزيع سليمة بما يحقق العدالة الاجتماعية النسبية في ظل أوضاع العراق الراهنة.
إن التثقيف بهذه الموضوعات من جهة, وتعبئة الناس للنضال اليومي من أجل حقوقهم المشروعة في العمل والعيش الكريم والحصول على ما هو ضروري من خدمات من جهة أخرى, شكل في العراق خلال السنوات السبعة المنصرمة الحلقة المفقودة في نضال القوى الديمقراطية العراقية, ومنها اليسارية. وقد لعب هذا الواقع دوراً بارزاً في تسليم قيادة الفئات الاجتماعية الكادحة والفقيرة إلى تلك القوى التي رفعت شعارات يومية تستجيب لمطالب وحاجات الناس وربطتها بصيغة ما بالمهمات الوطنية, سواء أكانت صادقة في ذلك أم لذر الرماد في العيون.
حين جرى لي لقاء في بغداد في خريف العام 2009 مع عدد كبير من ممثلي قوى التنسيق الديمقراطي أكدت للحضور الكريم ملاحظة أساسية لخصتها بما يلي:
"أرى إن واجب القوى الديمقراطية في هذه المرحلة يتلخص في التزام مطالب الفئات الاجتماعية المختلفة, وخاصة الكادحة والفقيرة التي تشكل غالبية المجتمع وتعبئتها للنضال من أجل مطالبها اليومية من خلال جمع التواقيع على مذكرات احتجاجية ومطالب عادلة ومشروعة وتنظيم الاعتصامات لقطاعات مهنية أو لجماهير محلة أو مدينة أو طلبة جامعة, وكذلك القيام بالإضرابات والمظاهرات الشعبية السلمية حين تستدعي الحاجة ذلك. وحين لا تقوم القوى الديمقراطية بهذه العملية الديمقراطية الضرورية, ستقوم بها قوى أخرى وستأخذ هذه المهمة على عاتقها. ويمكن أن تقود هذه القوى تلك الفئات الاجتماعية إلى طريق خاطئ وأهداف خاطئة غير مرئية.
منذ سبع سنوات والناس تتلوى بسبب نقص شديد ومرير في توفر المياه الصالحة للشرب والكهرباء والمعالجة الطبية المناسبة والرعاية الصحية ونقص التعليم وتشوهه عبر مناهج دخيلة تساهم في تقسيم المجتمع, إضافة إلى انتشار البطالة والفساد المالي والإداري وسيادة المحسوبية والمنسوبية, وانتشار القمامة والمستنقعات المائية وما تنشأ عنها من أمراض في مناطق الكادحين, إضافة إلى هشاشة الوضع الأمني والسياسي واستمرار موت الكثير من البشر كل يوم تقريباً.
منذ سبع سنوات والإنسان العراقي يفتش عن القوى التي تأخذ بيده صوب النضال لتحقيق مطالبه المشروعة. وحين لم يجد من القوى الديمقراطية من يمارس ذلك الدور بدأب وحيوية, التحق يقوى معينة أخذت المبادرة وهي تسيطر اليوم على عقول الكثير من البشر.
في نهاية العام المنصرم حصلت تحركات شعبية حول مطالب الشعب مثل الاعتصام أو التظاهر السلمي أو الإضراب. ولكن لا تزال هذه الحركة بعيدةً كل البعد عن واقع الناس وحاجاتهم وضرورات تنشيط وتنظيم هذه العملية وأخذ المبادرة لكي لا تبقى بأيدي من لا يريد الخير للبلاد.
إن تخلف القوى الديمقراطية عن أخذ المبادرة والإمساك بزمام الأمور وتعبئة فئات المجتمع لتحقيق مصالحها المشتركة, قد انتهى إلى نشوء حركة شعبية لم تستطع الانتظار أكثر ليأتي من ينظمها ويقودها صوب تحقيق تلك المطالب, فانطلقت في البصرة لتعلن احتجاجها على نقص الكهرباء في فصل الصيف اللاهب, ثم تحركت في بغداد ويمكن أن تتحرك في بقية مدن ومحافظات العراق. ولكن, ولكي تنتهي إلى تحقيق نتائج إيجابية, لا بد من توفير الكوادر المجربة القادرة على تعبئة الناس من خلال الربط العضوي الجدلي بين المطالب وبين الواقع السياسي العام الذي يعاني من هشاشته المجتمع ومن صراع النخب الحاكمة حول مصالحها الضيقة دون التفكير الجاد بمصالح المجتمع.
إن الوضع في العراق يمكن أن يبشر بطلائع مد شعبي مناهض للوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم الذي لا يجسد احترام الإنسان ومصالحه الحيوية ومصالح المجتمع, بل يتركز على المصالح الذاتية لهذه المجموعة أو ذلك, وهو أمر بالغ الضرر. فهل في مقدور القوى الديمقراطية, ومنها اليسارية, أن تدرك حقيقة الوضع وتتابع بدقة تطور هذا المد الشعبي الذي يراد الآن إجهاضه من قبل الحكومة وذلك بتوجيه الرصاص إلى صدور المتظاهرين المطالبين بالكهرباء أو بغيره, كما حصل في البصرة.0؟ إن الصراع الطائفي المقيت في البلاد سينقل فئات المجتمع المتضررة إلى مواقع أخرى غير التي كانت عليه قبل الآن, وهي عملية معقدة ومتشابكة وبطيئة, ولكن علينا تقدير حركتها منذ الآن والأخذ بزمام المبادرة.
الوقت ليس في صالح الشعب وليس من العدالة أن تضيع على الشعب الفرص بانتظار الفرص, إذ إن من يتأخر يعاقبه التاريخ, وها نحن قد رأينا ذلك بأم عيوننا وعشناه يومياً من خلال نتائج الجولات الانتخابية الثلاث المنصرمة (برلمانية عامة, ومجالس محافظات وبرلمانية عامة).
أملي أن نتعلم من تجارب الماضي من جهة, وأن نشدد على العمل المشترك للقوى الديمقراطية العراقية من جهة ثانية, وأن يبدي الجميع التواضع المطلوب والواقعية المطلوبة لعقد اجتماع موسع لكل القوى الديمقراطي تلتقي عند قواسم مشتركة تنسجم مع طبيعة المرحلة والمهمات العامة والمهنية الشعبية الراهنة التي أصبحت عناوين ثابتة من خلال احتجاجات الناس المتصاعدة بعد صمت رهيب. ويحق لنا أن نتساءل هل كان هذا الهدوء الذي دام سبع سنوات عجاف هو الذي يسبق في العادة العاصفة؟
لقد برزت بعد الانتخابات, وبالارتباط مع نتائجها, حركة شعبية مطلبية تبنتها بعض القوى الديمقراطية التي لم تحقق نتائج تذكر, ومنها الحزب الشيوعي العراقي, وهو موقف إيجابي يراد تطويره وتكريسه. والمطلوب من هذه القوى, كما أرى, أن تعمل بكل دأب من أجل تدريب الفئات الاجتماعية الكادحة والفقيرة والعاطلين عن العمل على ممارسة حقها الطبيعي في الإضراب والاعتصام والتظاهر السلمي للمطالبة بحقوقها المغتصبة, وأن لا تسكت على الضيم والقهر المرير والبطالة والحرمان, وأن تلعب دور المعارض الإيجابي بعد تشكيل الحكومة لتستطيع أن تحقق تحالفاً ديمقراطياً واسعاً وتدريجياً يمكنه في المدى اللاحق لعب دور أكبر لا يقارن بالدور الهامشي الراهن أو الدخول في وزارة بوزير يتيم واحد غير قادر على التأثير ويحد من دور القوى الديمقراطية في المعارضة المبدئية لصالح مطالب الشعب.
إن معارضة فعالة وإيجابية أفضل مئات المرات من مشاركة بائسة بحكومة لا تمتلك ولا تنفذ برنامج وطني وديمقراطي متعدد الجوانب يخدم مصالح الشعب ويكافح ضد المحاصصة الطائفية والفساد المالي والوظيفي ..الخ.
إن ملايين الناس لم يذهبوا إلى صناديق الاقتراع, والكثير ممن ذهب أعطى صوته دون قناعة تامة, ولهذا لا بد من التحرك على هذه الملايين لتفعيل وتنشيط دورها في المجتمع والحياة العامة. ومثل هذا التوجه يحتاج إلى برنامج عمل عملي مرحلي للسنوات الأربع القادمة يتضمن المهمات المهنية والمطالب الشعبية ويشدها إلى المطالب الوطنية العامة لتصبح وحدة واحدة يناضل المجتمع بأسره من أجل تحقيقها.
30/6/2010
كاظم حبيب