هل من نهاية للأزمة البنيوية الطاحنة في العراق؟
يمر العراق بمحنة قاسية وأزمة بنيوية مستعصية والموت يتربص بالناس من كل حدب وصوب ويلتقط منهم من يشاء وبأعداد متزايدة يوماً بعد آخر. لقد اختطف الموت في شهر تموز 2010 وحده على وفق البيانات الرسمية 535 إنساناً في العراق على أيدي ميليشيات سياسية إسلامية شيعية وسنية طائفية متطرفة وقوى قومية شوفينية وبعثية متطرفة ومجرمة, بينهم 396 مدنياً والباقي من أفراد الشرطة والجيش, بعد أن كان عدد القتلى المدنيين في شهر حزيران/يونيو 204 شخصاً و275 شخصاً في شهر أيار/مايس من نفس العام.. وهذا يعني أن عدد القتلى في ثلاثة شهور بلغ 1014 شهيداً, كما سقط المئات من الجرحى والمعوقين خلال شهر تموز, إضافة إلى أعداد أخرى من الجرحى والمعوقين في الشهرين السابقين. وفي الوقت الذي اعتبرت وزارة الصحة ووزارة الداخلية أن شهر تموز هو الأكثر دموية منذ العام 2008, أكد بيان للقوات الأمريكية في العراق إلى أن عدد القتلى مبالغ فيه, إذ قدر العدد بـ 222 شخصاً وعدد الجرحى والمعوقين بـ 782 شخصاً, أي ما مجموعه 1004 شخصاً بين قتيل وجريح. وما أن بدأ شهر آب/أغسطس الجاري حتى سقط الكثير من الشهداء, إضافة إلى الكثير جداً من الجرحى والمعوقين في الكوت واغتيالات بكاتم الصوت لخمسة من أفراد الشرطة في بغداد وتفجيرات أخرى وعدد من الشهداء الجدد. وهي لوحة قاتمة حقاً, وهي مرتبطة بالفراغ السياسي والأمن الهش. وإذا كان أمر تقليص عدد القتلى والجرحى في شهر تموز القوات الأمريكية في العراق لكي يسمح لها بعدم تأخير انسحابها, وإذا كان أمر الانسحاب جيد للعراق والمنطقة, فأن تقليص عدد القتلى لن يعفيها من مسؤوليتها الراهنة في العراق كما لا ينفع الشعب العراقي في عدم كشف حقائق الوضع أمامه ليعرف ما يجري في سائر أنحاء العراق باعتباره جزءاً من واقع حكومة تصريف أعمال غير قادرة على النهوض بمسؤولياتها الأمنية في البلاد. الصراحة والشفافية والوضوح مع الشعب هو الطريق الوحيد لكسب ثقة الشعب وليس العكس.ولا يزال الشعب في البلاد يواجه الطائفية المقيتة والصراع الطائفي على السلطة والمال والنفوذ لصالح قوى الإسلام السياسية الشيعية والسنية المهيمنة على الساحة السياسية العراقية والمتحكمة برقاب الناس بمختلف الصيغ والممارسات. إنها المعضلة البنيوية الراهنة التي لا يمكن أن يستقر العراق دون الخلاص من أسبابها الفعلية, فالمعالجة السطحية لها لا تحل المشكلة المستعصية, بل تزيدها تعقيداً وتؤجل انفجارها ثانية.
الشعب يتجرع مرارة الحرمان من الخدمات الأساسية ومن البطالة والفقر في مواجهة الغنى والتخمة لدى قلة قليلة من البشر, والحكام في بغداد لا يجدون ضرورة الاتفاق على صيغة مناسبة لإنهاء الأزمة فلديهم الوقت الكافي للمفاوضات والمساومات على حساب حياة ومصائر الناس ومصالح الاقتصاد الوطني.
الناس تعيش الضيم والقهر في ظل حكومة تصريف أعمال ومجلس نواب محاصصي معطل منذ خمسة شهور ومجلس رئاسة لم يستطيع إلى الآن إنهاء الأوضاع الشاذة السائدة في البلاد.
ولكن, هل الشعب يتعلم يوماً بعد آخر من تجربته الخاصة ماذا تعني الطائفية السياسية, وماذا يعني التمييز الديني ولطائفي, وماذا يعني الصراع الطائفي بين الأحزاب السياسية على السلطة, وكيف يشوه الدستور, هذا الدستور الذي كتبوه بأنفسهم رغم الملاحظات الكثيرة عليه من جهة, وكيف تغيب عن هذا الصراع مصالح الفقراء والمحرومين والبؤساء من العائلات في الأحياء الفقيرة والمنكوبة بالقمامة والبؤس من جهة أخرى, وكيف يموت الناس زرافات ووحداناً على أيدي المجرمين القتلة من جهة ثالثة؟
هذا هو وضع الحكومة الاتحادية في بغداد, فهل سيتعلم الشعب من هذه الأحداث ويدير ظهره لأولئك الذين نسوا مصالح الناس وغاصوا في أجنداتهم الخاصة ومصالحهم الذاتية ومصالح أحزابهم السياسية؟ هل سيصفع الشعب تلك القوى التي وضعته وجهاً لوجه أمام قوى الإرهاب لتقتل منه من تشاء بغير حساب؟ هل سيمتنع الشعب عن منح أصواته لهذه القوى التي خذلته رغم كل الاحتجاجات والضغوط التي يمارسها كل يوم من أجل تحقيق الانفراج في الوضع الراهن؟
إن العقل والمنطق والخبرة التاريخية المتراكمة لدى شعوب العالم تقول بأن الشعب حين يواجه هكذا أحداث وهكذا قوى يفترض فيه أن يعطي ظهره لهؤلاء الناس, لتلك القوائم التي لم تحترم إرادته وعطلت المجلس الذي انتخبه رغم كل المآخذ على تشكيله أو الملاحظات التي جاءت على تعطيل عمله.
ولكن هل سيتخذ الشعب هذا الموقف في ظل تشوه في الوعي الديني والاجتماعي وتفاقم التربية الطائفية السياسية والتمييز الديني والطائفي والسعي لتحقيق الاصطفاف الطائفي عبر تكثيف وزيادة عدد الزيارات المليونية والسير على الأقدام وعبر المواليد والوفيات الكثيرة وعبر الإعلام الطائفي المتشنج والمتعادي؟
لقد تذكرت وأنا أفكر بالواقع المرَّ الذي يعيش فيه الشعب قول الشاعر:
وستنقضي الأيام والخير ضاحك يعم الورى والشر يبكي ويلطم
ولكن متى؟ لكي يتحقق ذلك لا بد من تنشيط النضال الفكري والاجتماعي والسياسي للقوى والعناصر الديمقراطية في جميع أرجاء العراق ضد التمييز الديني والطائفي, ضد المحاصصة الطائفية, ضد تقسيم السلطة على أساس الدين والمذهب, وليس على أساس المواطنة.
إن الوعي المشوه الراهن لا يتبدل بسهولة وبسرعة, بل ستطول هذه الفترة ويمكن تقليصها فقط حين تدرك القوى السياسية الوطنية والديمقراطية العراقية دورها ومهماتها وسبل العمل في ظل أوضاع عراقية وإقليمية ودولية جديدة, وفي ظل بناء اقتصادي واجتماعي وسياسي متخلف ومشوه.
إن الصراع الجاري على السلطة في العراق يتخذ اليوم, كما بالأمس, أبعاداً إقليمية ودولية معطلة لحركة المجتمع والدولة ومعمقة للصراع الداخلي ومسقطة للقرار العراقي المستقل بشأن تشكيل الحكومة. وهذا الصراع لا يجري للسيطرة على القرار السياسي في العراق فحسب, بل هو صراع إقليمي ودولي أيضاً يجري على أرض العراق, إنه التعبير الصارخ عن الصراعات الدائرة في منطقة الشرق الأوسط, سواء أكانت في ما بين بعض الأطراف الإقليمية أولاً, وبينها وبين الدول الكبرى ثانياً. فالصراع الإيراني الأمريكي, والصراع العربي الإسرائيلي, والصراع اللبناني السوري الإيراني, والصراع الإيراني الخليجي, والصراع السعودي الإيراني والصراع التركي الإيراني العراقي, كلها تجري في العراق وعلى أرضه, وهي تكثيف شديد لأحوال منطقة الشرق الأوسط والخليج. وهذا الصراع لا يجري بدون أهداف وأجندات خاصة, فهو صراع على النفوذ والمصالح الحيوية في العراق وفي تلك الدول. فالعراق يعتبر منطقة إستراتيجية بالنسبة للسياسة الدولية والإقليمية عموماً وفي المنطقة والخليج خصوصاً, ونفط المنطقة يصل إلى حدود 70% من احتياطي النفط في العالم حالياً, إضافة إلى كون هذا الاحتياط أخذ بالازدياد يوماً بعد آخر مع اكتشاف احتياطي جديد في العراق والمنطقة وتقلص احتياطي مناطق أخرى من العالم, كما هو حال النفط الخام في الولايات المتحدة, في وقت يزداد الطلب العالمي على النفط الخام, وخاصة الولايات المتحدة والصين الشعبية. كما يزداد وجود الغاز الطبيعي في هذه المنطقة أيضاً, وهو ثروة هائلة تأتي بعد النفط في أهميتها للعراق والمنطقة والعالم. وفي الوقت الذي تشتد الأزمة المالية في العالم, توجد أموال نفطية "فائضة!" غير مستثمرة لدى حكومات البعض من هذه الدول والتي يمكن استخدامها في الاقتصاد الدولي وفي غير اقتصاديات هذه البلدان ومصالح شعوبها.
وحين يجري الحديث عن الخشية من تدويل القضية العراقية, ينسى المتحدثون بذلك حقيقة أن العراق بأوضاعه الراهنة لا يزال يخضع للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يسمح للهيئة الدولية بالتدخل في الشأن العراقي, إضافة إلى أن هناك من الدول من يرفض رفع العمل بقواعد الفصل السابع عن كاهل العراق. إلا أن عدم الاستقرار واستمرار الصراع الطائفي وغياب القدرة على إيجاد قواسم مشتركة في السياسة العراقية يقود إلى استمرار خضوع العراق لهذا الفصل واستمرار غياب الاستقلال والسيادة الوطنية.
إن العراق الضعيف سياسياً يتعرض اليوم للقصف المدفعي واختراق الأجواء العراقية بالطيران الحربي وقصف مواقع في إقليم كردستان العراق تحت أي ذريعة كانت. وما كان ليحصل مثل هذا القصف لو أن العراق قوى بمكوناته القومية وموحد الكلمة وفيه حكومة مستقرة وقادرة على طرح المشكلة على الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي أو رفعها إلى المحكمة الدولية في لاهاي لأن القصف المستمر ليس تجاوزاً من جانب إيران وتركيا على السيادة الوطنية فحسب, بل وفيه قتل مباشر للناس الأبرياء وتدمير لدور السكن وتخريب وحرق للمزروعات وتهجير وتشريد للسكان من مناطق سكناهم.
إن العراق بحاجة إلى تشكيل حكومة وطنية غير طائفية قادرة على معالجة الأوضاع الداخلية وحل المشكلات المعلقة, سواء أكانت سياسية أم اقتصادية, وخاصة الخدمية, أم اجتماعية, وحل المشكلات مع دول الجوار في ضوء مبادئ وميثاق الأمم المتحدة. وأن أي تأخير في ذلك لا يعني سوى استمرار الأوضاع السياسية والأمنية الهشة وتفاقم الصراع في مناطق الوسط والجنوب والموصل وكركوك والتي لن تقود إلا إلى مزيد من الموت والتخلف والحرمان وتنامي الاستعداد لدى الجماهير في مواجهة القوى الحاكمة العاجزة عن إيجاد حل لمشكلاتها. ولم تكن مظاهرات البصرة والناصرية وغيرها حول نقص خدمات الكهرباء سوى الشرارة التي يمكن أن تتعاظم لاحقاً.
وإذ يتحدث رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي عن التدخل الإقليمي باعتباره معرقلاً لتشكيل الحكومة الجديدة بعد مرور خمسة أشهر على انتهاء الانتخابات النيابية, وهي مخالفة صريحة للدستور القائم, كما يؤكد ذلك غيره أيضاً, بأنه لا يتشبث بمسؤولية تشكيل الوزارة لشخصه ولصالحه بل لصالح العراق لأن الآخرين لا يريدون شخصية قوية تحكم العراق. الشعب لا يريد شخصية قوية, بل يريد نظاماً سياسياً مؤسسياً وديمقراطياً قوياً, الشعب لا يريد من يتصرف بإرادته فقط وليس بإرادة الشعب ومصالحه, الشعب لا يريد مستبدين فقد شبع منهم حتى التخمة, بل يريد حياة هادئة وهانئة وبعيدة عن التفجيرات والموت اليومي, يريد عملاً لا بطالية ويريد عدالة لا ظلماً, يريد مواطنة متساوية للجميع.
إن العراق يعيش مأساة ومهزلة في وقت واحد ولا يمكن أن تتوقف ما لم يبادر العقلاء منهم إلى التحري عن الصيغة المناسبة, عن القواسم المشتركة, لتشكيل حكومة وطنية قادرة على حل المعضلات التي تجابه الشعب والوطن بروح المواطنة الحقة والمتساوية وبعيداً عن روح التخندق والطائفية وضيف الأفق القومي والشوفينية المقيتة. إنها الطريقة الوحيدة لمعالجة التخلف والفقر والبطالة والحرمان من الخدمات في مناطق الوسط والجنوب والموصل. إن الناس قد تعبوا ولم يعد في صدورهم المزيد من الصبر!
ولنتذكر قول الشاعر جميل صدقي الزهاوي وهو يخاطب ملك ذاك الزمان في العراق:
يا مليكاً في ملكه ظل مســرفاً فلا الأمن موفور ولا هو يعدل
تمهل قليلاً لا تغض أمــة إذا تحرك فيها الغيظ لا تتمهــل
وأيديك إن طالت فلا تغترر بها فأن يد الأيام منهن أطـــول
كاظم حبيب
ملاحظة: نشر المقال في مجلة گولان الأسبوعية بأربيل فی الأسبوع الأخیر من شهر أب 2010.