هل يتصوّر احد لبنان والشرق من دون مسيحيين؟
كان المسيحيون، في شكل عام، مقتنعين منذ زمن بأن وجودهم في هذا الشرق مصيره الى الضمور والتقلّص شيئاً فشيئاً حتى يصل الى نهايته المحتومة في يوم من الايام، فيصبحون عندها بقايا اقلّيات مبعثرة هنا وهناك في شرق يطغى عليه الوجود الاسلامي.هذا الاقتناع كان حتى قبل قيام اسرائيل والحروب التي نشأت بسببها، وقبل تفجّر الحركات الاصولية الاسلامية، وكان مرتبطاً قطعاً بنسبة المواليد المرتفعة عند الاكثرية المسلمة، وبتدنّيها عند المسيحيين.
المهلة الزمنية التي راهن المسيحيون على بقائهم فيها اصحاب كلمة وتأثير الى حد ما، هي حدود ما بين العامين 2050 و2060، ولم يدر في حساباتهم ان الحروب والاصوليات الاسلامية المسلّحة، ستطيح بهذه المهلة وتقزّمها ربما الى النصف او اقلّ.
سبق لي واستعرضت في مقالات سابقة، ما تعرّض ويتعرّض له المسيحيون في مصر والعراق وفلسطين ولبنان من اخطار تهدد وجودهم الذي يرجع في هذه المنطقة الى ايام المسيحية الاولى، وجاءت بالامس التقارير الديبلوماسية التي رفعت الى الفاتيكان تؤكد الواقع الذي لا يمكن لاحد ان ينفيه او يتجاهله او يأخذه على غير محمل الجدّ، حيث تشير هذه التقارير الى ان اكثر من 230 الف مسيحي مصري وعراقي ولبناني، قد تركوا بلادهم الى غير رجعة، امّا بسبب الارهاب الاصولي، كما في مصر، واما بسبب الحرب، كما في العراق، واما بسبب غياب آفاق المستقبل اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً كما في لبنان وربما في فلسطين.
مما لا شك فيه ان قيام اسرائيل وما جرّه من حروب مدمّرة مع الدول العربية، وما انتجه من نموّ كبير للاصولية الدموية، وبسبب احتضان الغرب لدولة اسرائيل وحمايتها، على حساب شعب فلسطين والشعوب العربية الأخرى، قد أوجدت جميعها مناخاً مؤاتياً، وتربة صالحة لتحميل المسيحيين جزءاً من مسؤولية ما حدث في قلب العالم العربي، على اعتبار ان الغرب مسيحي، بينما هو في الحقيقة والواقع، عالم علماني اقرب الى الالحاد منه الى المسيحية، علماً ان الطوائف الاخرى لم تكن هي ايضاً بمنأى عن كوارث الحروب والحركات الارهابية، ولكن هجرة ابنائها لم تكن في حجم هجرة المسيحيين، خصوصاً وانهم في الاصل هم الاقلية في هذا الشرق.
اذا كان الوضع في الدول العربية التي تشهد هجرة مسيحية واسعة، قد اصبح معقّداً وخارج المعالجة، فان المسارعة الى معالجة الوضع المسيحي في لبنان تبقى ممكنة اذا حسنت النيّات عند الشريك المسلم، واذا اتفقت الكلمة لدى القيادات المسيحية الدينية والسياسية على النهج الافضل لسلوك طريق المعالجة.
اهم المخاطر التي يواجهها المسيحيون اليوم، هو فقدان الثقة بالمستقبل بسبب خشيتهم و«نقزتهم» من استراتيجية شريكهم في الوطن.
هل هي استراتيجية المواطنة اللبنانية الصافية، ام هي استراتيجية المواطنة الاسلامية، ام هي استراتيجية الاندماج في هذه الدولة او تلك؟
ثاني هذه المخاطر، ينبع من الاول، بما يعني ان عدم الاستقرار الذي دخل عامه الثلاثين، يحوّل المسيحيين الى انسان يتوجّه بأنظاره في شكل دائم الى البحر والجو، حيث الطريق الى الهجرة طلباً للاستقرار.
ثالث المخاطر التي تربك المسيحي وتضعف قراره وصموده، هو شعوره بأنه ليس بعيداً عن رعاية واهتمام دولته وحسب، بل ايضا عن رعاية واهتمام مرجعياته الدينية في الشكل الكافي والمقبول ليبقى في هذه الارض ويستمر في الشهادة لطائفته ووطنه ودولته.
قيمة الدول اليوم والامس وغداً، ليست بعدد سكانها ولا بانتمائها الديني.
العقل والايمان والعلم والتنوّع هي قيمة الانسان والدول.
من هذه الرؤية الانسانية المتقدمة، كان البابا يوحنا بولس الثاني ينظر الى لبنان والى أهمية لبنان الرسالة في هذا الشرق المسلم.
هذا الحلم الذي حلمه اعظم بابا في تاريخ الكنيسة، هل يمكن ان يتحوّل الى كابوس نظراً للسرعة القياسية التي يفرغ منها الشرق من ابنائه المسيحيين؟
هل يمكن لاحد ان يتصوّر كيف يكون لبنان وهذا الشرق من دون مسيحيين؟؟
فؤاد ابو زيد - الديار
عن موقع طبن