ورقة من الذاكرة ( مع صاحبي في الوادي) القسم الثاني (الأخير)
لم انس حين امسكت يداك بكتفيّ وانت تركز بنظراتك الى وجهي وانا انظرالى وجهك الصادق لتقول من اعماقك العميقة:بحفظ الله يا هاوري!
قلتها بصوت منخفض وكأنك متحير من شيء ما، او ربما كنت على عجلة من امرك، او ربما كنت خائفا من شيء اخافك. رحت اشك في إمكانية ذلك، واجتمع فيّ الضدان وهما يغليان، حيث صرت لا افكر إلا في استحالة هذا الأمر من ناحية، وفي كونه ممكنا في نفس الوقت، لكن بدرجة اقل بكثير، من ناحية اخرى، فنحن يا صاحبي ما عرفنا الخوف يوما.
قلتها بعينين، فيهما ألق فوسفوريّ، ترسمان تفاؤلا يستشأم به، ظاهرا على وجهك البرئ، ضاما في اطره صلابة مستترة. إنّها الذات الأصيلة الحرة، إنّها السياسة الذاتية التي ليس فيها ما يسوغ لأحد نقدها، إذ ان كل ما فيها هو طبيعي كطبيعتها البسيطة وصادق كصدقها اللامتناهي وحقيقي كحقيقتها الانسانية الرائعة.
تركتني من دون ان اراك مرّة اخرى. ذهبت طواعية الى الجانب الآخر لأنك ما استغريت بالمغريات ولا استغوتك هي بالوانها المختلفة. ذهبت طواعية الى الجانب الذي اجهله من هذه الحياة في هذا العالم، جانب اختارته لك عزيمتك وبقيت انا في عالمي الصغير مع تفكيري البسيط ، لا يؤنسني فيه غير صورة حبيبتي واحلامي الصغيرة التي كنت احتضنها بتؤدة عندما انام، وآلامي من جرحي، وتفكيري الذي رفض، وسيظل يرفض، ان يكون الموت على موعد معه.
عالم صغير رأيته وعشت فيه وعرفت من طاقات موجاته بأنني آمنت به عميقا وكأنني كنت اؤمن به منذ صباي. وآمنت ايضا بأن القطرة الأخيرة من النبيذ في قدحي لها نفس طعم الجرعات الأولى منه، وقل هذا، إن شئت وانت الحر العزيز، شأن من شؤون الطبيعة. هذه الطبيعة ارادت ان تعرف إن كان ذلك لحفظ ما كان يستوجب الحفظ لأنه الضرورة القصوى حسب وصية الكبار، ام ترى انه جزء صغير لا يتجزأ من تفكير أحداثي خبر الحياة من طرفها الصحيح؟ أم انه عناصر أولية في غاية البساطة التركيبية المكونة لجوهر مكوناتك المعهودة؟
اردت في تلك اللحظة ان اخترق تلك العبرة التي خنقتك، عبرة التنبؤ بعدم اللقاء بعد هذا الفراق كاستطارة العزيز عن عزيزه. وددت لو أني عرفت قوة تلك الهزة العنيفة المشؤومة في الخامس من حزيران في زيوة 1987، التي جعلت صدرك الصغير- الكبير يهتزّ للكركرة التي تولد فيه كل لحظة، وجعلت دماغي يرتجّ لكل رمشة عين تحرق عيني كل رجل رفع يده لا للإستسلام وإنما ليحجب نور الشمس المؤلم عن عينيه لغرض التمكن من السير بحرّية بهدف تكملة المسيرة. ترى هل أنه ذلك المكروه: الوري الذي وقع – وهل لا يزال يقع – في قصب الرئتين؟ أم أنّه انعكاس طبيعي - وهذا حق مشروع- لآلام افرزتها الحقيقة المرّة لتلك البرهة اللعينة من الدهر التي استطالت اكثر مما يجب بسبب خطأ في التفكير وسوء في التقدير ووضعت الشجعان ما بين النهر والسند، ما بين "الأزرق" وما ارتفع من الصخور العظام وهي تطل على الصفوان الذي يحيط بالماء من جهتيه.
شرعت الروح الرجالية الرائعة تسمو عظيمة فوق القمم لتتعانق مع السديم الأبيض لتكوّن سديما فلكيا يرصّع الكرة السماوية بجمالية جوهرية تخلب القلب ابدا. إن هي إلا تجريد الوهم من عناصره وإعادة الجزيئات الى مركّبها الحقيقي ووضع الواقع في مكانه المحدّد. ها هي الروح تتألّق وساما غلى صدر المسافة التي شرع بها الأوائل من الشجعان في الوادي العميق الذي ران فيه سكون عميق عمق محبة عيني الحبيبة في قلب خابور المضطرب.
ها هي صرخة الزمان تزحم ضميرك وصرت تشعر أن لا صاحب لك لا يريد ان يعرف ما بنفسه وما بك من اخبار الامور. وها اني اراك تشعر انك عدت من فورك الى الأيام الاولى للقاء، وأرى انك وصاحبك مثل زحلولان ابتعدا وقت الغدوة في بيضة الحرّ عن الزحمة الأخوية ليطلا على بوح عريض من سند الجبل الذي اتياه طورا بعد طور. انه الجبل الذي ترصّعه بضعة فساطيط سوداء منتشرة بعفوية قروية تشفّ مما في قلب الحياة من هدوء دافئ، وتمثل الطبيعة التي تحته تماثيل رائعة لا تسامى، تراها العين وتسمعها الأذن ويحسّها العقل وتتذوقها النفس.
ها هي صرخة الزمان تقول انه لا يمكن ان يكون الانسان الصق بالطبيعة اكثر مما يكون رجال وهبوا شبابهم للعمل والمسيرة في الجبل، هم حياته وهو حياتهم.
ها هي الصرخة تفيد بانك وصاحبك احببتما الجبال لا لشئ إلا لأن نزولها ليس صعبا وصعودها ليس سهلا.
وبحفظ الله يا هاوري اينما كنت.
د. امير يوسف
كانون الثاني 2011