ورقة من الذاكرة
القسم الأول ( مع صاحبي في الوادي )بحفظ الله يا هاوري !
حرفا حرفا قسّمتها في حينها، يا نجاد، وجسمي على ذلك الفراش البارد في بيت ام احمد التميمية. قسمتها بقوة تلك الإرادة التي عرفتها فيك كهوية تلقي عليك التحية في نقطة عميقة من ملتوى واد عميق قبالة قمة "الأخوين". وحين نظرت مركّزا الى عينيك نأى بي بؤبؤك الى معادلة تشبه فرضية دقّت باب تفكيري حين رأيتك لأول مرة وهذا نصّها: إن كانت الروحانية مذهبا أزليا لمن يقول بان النفس غير مادية، فأنا، ودعني اخبرك بما يجول بخاطري وأقول: أي نفس جميلة ولدت في مدينة الآلهة الأربعة وتركت امّها لتقابل نفس خابور بعيدا عن الخابور. أي نفس ودّعت تلك الطرقات الضيقة في الحارات البسيطة وكانت متيقنة من أن الشرف هو العامل الوحيد الذي يجعلها تتوجّه الى الوديان، وأنّ الشرف هو الذي جعلك تفكّر مع نفسك وتكتشف حقيقة كون المسيرة، التي ستكون انت احد عناصرها، هي السعادة لك لأنك ستخدمها وتهبها اغلى ما عندك، وبأن الأرض، التي ستحتضن الثلج في الشتاء، هي التي ستعوضك عن نظرات الحبيبة. وهكذا قالت لك نفسك: إذهب! ..إذهب! ترى هل هي ذات النفس التي قصت الثلج في ظروف قاسية جدا لتظهر في الألق الصادر عن مياه الروبار الجارية بحريتها من غير ان تكترث للصخور أو للأشجار، للوادي أو لمن فيه، بأقصى ما اتيح لها من سرعة لتكسر السكون الذي يسود الوادي؟ فإن كانت نفسك كذلك، فهي، عند خابور، تختلف كثيرا عن تلك التي يعتقد بها الروحانيون.
قسّمتها كلمة كلمة وانت مملوء من امل احمر على بساط اخضر. وسمعت فيك صوتين: الأول ذاتيّ يوحي بنوتة موسيقية توصي صاحبك ان يعي، قلبا وفكرا، خطورة ما قد لا يكون بعيدا وفق قياسات السليقة، وان يعمل جهده لايجاد ما هو ضده. ان الخطر هنا ليس اكثر من الارتماء في حضن نجاة وهمية بهدف امان وهمي. إنس ذلك ولا عليك، فصاحبك يعرف المسافة بين الثرى وبنات نعش وله قوته النفسية التي يستنبط بها ما صعب عليه من المعاني. وكيف لا، فهو يدرك الصفة المميزة للأمان الحقيقي، وهو هناك وهنا وما بينهما، وفي حينها والآن وما بينهما، يمثل جميع النقاط الفاصلة بين طعم الحرية في الجانب الآخر، حيث لا رقيب ولا تقارير، لا ظلم ولا قيود، لا جلاّد ولا مجلود، وبين مرارة هذا الجانب المملوء بالعذاب والتعذيب والدناءة والذلالة وكل خسائس الامور، وهذا اقل ما يمكن ان يوصف به. والصوت الثاني لا يبتعد كثيرا عن الفكرة التي تقول بان ليس من المعيب ان يكون الشعور بالاطمئنان نهج ينقل صاحبه الى دنيا العمل والانسانية ويجعله يطل على شتى مروج الحرية حيث لا سكوت ولا ساكتون. وخابور، وهو في حالته الخاصة، اطاع الصوت الثاني وطفق يعمل به، وصار ينعم، لسنوات تلت ذلك الفراق الأليم، بطعم الذكرى.
بحفظ الله يا هاوري !
ها انك تعود الى الوادي طوعا ومن غير ان ترتكب خطيئة تجاه ما يحيط بالواقع من سياج، كل ما يقع خارجه غير خاضع لقوانين المخطيء بحقك. انت عائد ليس بهدف تحقيق التناغم الطبيعي بين الذات والموضوع وتحسس كل ما يقع بين هذين المستويين، ولا لأن المسيرة تطلبت ان تفتخر الأرض برجال يسكنوها ويدكّوها. كما انك عائد ليس من اجل إشعار المخطئ بما ارتكبه بحقك وبحق صاحبك، ولا لتقول له انه لا يدري ولا يدري انه لا يدري ما فعل بك، بل لتثبت ان حجم الخطيئة مربوط مباشرة بطول بقاء الخاطئ وتشبثه العنيد باحتكار الوطن قبل وخلال وبعد تكبير الله على العلم، وكذلك مربوط بالوجود الاحتكاري، مع سبق الاصرار، فوق الرقاب. ولتثبت كذلك ان الفرق بين ضدين لا يقع خارج حدود الواقع الزماني لهذا الضد او الآخر، ولا خارج حدود الواقع المكاني لأي منهما، ولا خارج الخط الكامل لعناصر التباين بين الزائل والدائم، وانت احد عناصر الأخير. انت تعود الى الأرض لأنك لست بحاجة الى نداء لتنفيذ ذلك، ولأن الآصرة الممتدّة بين الأبيضين على الأرض وبين ابهرك تأريخية التكوين، عضوية الطبيعة، متينة القوة، ابدية الغاية. انت تعود لأنك كريم النفس وحسن الطواعية ولأن ما ارادت منك نفسك هو ان تعمل في المسيرة لا ان تتعامل معها، إذ انها النفس الجميلة المليئة بالعفة والعدل والتي ركّزت على ما هو بحاجة اليها وليس على ما هي بحاجة اليه. هذا، إذن، هو جوهر حياتك الحقيقية التي ينبض بها قلبك في كل ثانية، حياتك التي تستأديك كثرة العمل وقلة الكلام، طيبة الذات، والنزاهة والاخلاص. ومن المؤكد انك تعود لأن في نفسك ان تفعل ذلك، وان الذي بداخلك هو الذي يناديك لتسهم بقسطك في اكمال الجدارية الرائعة ولتضع في اوراق التأريخ النقطة الحقيقية البيضاء التي لا يمكن لقلم ان يضعها. وكذلك لأن الذي يصنع التأريخ في ارضك مضروب، مقيد، مخنوق، وهذه هي المعضلة، لأن القوة الوحيدة القائدة صار بوسعها ان تدوس على المكان وتحرف الزمان وان تضع كل ما فعلته انت في الظل دائما وتبرز قواها امامك وامام غيرك في كل ثانية ولسان حالها يقول: هيا بنا.. انا الدبابة وانت الرجل.
د. امير يوسف
كانون الثاني 2011