ومن سَيَهتم؟!
حدّق في عينَيْ زوجته وقال لها بنبرة هادئة لم تخلُ من الانفعال: (لا تكترثي لما يقوله الناس، رضا الناس غاية لا تُدرك!).. لم تعر أي اهتمام لكلماته ولم تطل النقاش لأنها تُدرك من خلال تجاربها ان مناقشة زوجها في هذا الأمر تؤدّي إلى المِرآء ثم الشّجار ثم مقاطعة تطول لأكثر من يوم، ففضّلت السكوت.. أدارت وجهها عنه لتكمل غسل الأواني، كان يمسك بيده قدح ماء، شرب نصفه وبدأ بشرب ما تبقّى منه، استطاعت أن تغيّر الموضوع بإتقان وحكت له ما حصل ليلة أمس في حفل زفاف ابن أختها، وضعت بعض الجمل التي تدل على عدم اقتناعها بنهجه في عدم الاهتمام لما يقوله الناس -من حيث لا يعلم- لكنّه كان يدرك ذلك تماماً وكذلك بدوره لم يعر أي اهتمام مخافة تشنّج الموقف.. لقد أصرت بداخلها أنه سيقتنع في نهاية المطاف في أن عدم اهتمامه بالناس وما يقولونه سيؤدي به إلى أمر لا يحمد عقباه ، وفي المقابل أراد هو أن يظل صامداً في موقفه وأن يثبت صحة نهجه لزوجته التي تتجنب كل فعل يفتح أفواه أهلها وصديقاتها.
خرج ذات يوم للتسوّق.. اتصلت به أخته أثناء تجولّه في السوق، كانت شقيقته ترعى والدهما الكبير في السن والعاجز عن الحركة في بيت زوجها؛.. سألت عن أحواله وأحوال زوجته وطلبت منه أن يشتري للرجل العجوز حفاظات كبار السن لأن زوجها كان مسافراً والحفاظات قد نفذت في تلك الليلة، دخل إلى الـ"سوبر ماركت" بعد أن أتم مكالمته وأثناء بحثه عن ما أوصته أخته رأى ولداً لم يبلغ الثالثة عشر من عمره يبحث عن علبة سجائر في المكان المخصّص، يأخذ علبة ويقرأها ثم يرجعها في مكانها ويأخذ أخرى وهكذا، نظر إليه نظرة اشمئزاز واستنكار، لكنه لم يحبذ السكوت ورأى من واجبه أن ينصح الولد لأنّه يتألّم بداخله من جيل يدّمر مستقبله لمجرّد أن يُشعر الناس بأنّه رجل لديه كامل الحرية والاستقلالية في اتخاذ القرار! ليتصور نفسه وهو يضع علبة السجائر الحمراء الجميلة في جيبه يُخرِجَ منها سيجارة أمام من يظنّ أنّه طفل ويُخرِجَ معها ولاعته المُزخرفة ليشعلها وليتفنّن في إخراج ذلك الكمّ الهائل من الدخّان المحترق إلى الهواء..!! كان على يقين أنّه لا يستطيع أن يمنع الولد من التدخين بكلماته التي حتماً ستشبه توبيخ والده، لكنّه أصرّ أن تكون كلماته مختلفة، ففكّر لثواني وتذكّر تلك اللوحة التي كانت ملصقة على حائط أحد المطاعم، اقترب من الولد قائلاً: (إنّ للدخّان فوائد!) التفت الولد باندهاش وقال: (هل حقّاً لها فوائد؟) ابتسم الرجل وأجابَ: (نعم.. لا يُصاب المدخّن بالشيخوخة ويتعرّف دائماً على أصدقاء جدّد ولا يدخل اللص بيته!!) .. ضحك الولد ضحكة متعجّب سائلاً: (وكيف يكون ذلك؟!) فردّ عليه: (لا يصاب بالشيخوخة لأنّه يموت مبكّراً، ويجد دوماً أصدقاء جدد بسبب كثرة تردده على الأطباء، ولا يدخل اللص بيته لأنّ السعال لا يفارقه حتّى وإن كان نائماً)، ضحك الولد بشدّة وقال: (لقد تعجبت كثيراً فإن السجائر ليس فيها حتى فائدة واحدة وأضرارها جمّة، لكن سيّدي.. إن كلّ الذي ذكرته يخصّ صحته هو، أليس لعائلته حقٌّ في استنشاق الهواء النقي داخل البيت؟! لكنني سأخبر والدي بذلك عسى وان يقلع عن التدخين!! شكراً لك..) ذهب الولد وبقي الرجل مذهولاً مندهشاً من شدّة ذلك الموقف، لقد أساء الظن في الولد الذي أرسله والده ليشتري له السجائر! فلولا مفاتحته بالموضوع لانطبعت في ذهنه صورة غير جيدة عنه تظلّ ترافقه لأيام وربما لسنوات وربما لو دخل الولد المرحلة الثانوية وأصبح تلميذه في المدرسة، تلميذاً متفوّقاً في مادة الرياضيات التي كان يدرّسها لما تغيّرت نظرته له لولا التأكّد من ذلك، قال لنفسه: (أنا فاتحته بالموضوع ففهمت أنّ السجائر ليست له، لكن غيري ربما لا يفعل ذلك!! ... ليتحمل الوالد عناء الذهاب إلى الـ"سوبر" لشراء تلك العلبة لنفسه بدل إرسال ولده المراهق، إنّ ذلك سيكون أفضل من أن يظنّ الناس أنّ ولده المراهق رافق أصدقاء لم يخضعوا لمراقبة الأهل علّموه التدخين! لكن.. ألستُ القائل أنّ الاهتمام لما يقوله الناس شيء خاطئ ؟!! .. لكنّني واحدٌ منهم، واحدٌ من الناس!).
عاد بعد ساعة إلى البيت وفكره متشتت، زوجته فتحت له الباب، دخل وجلس أمام التلفاز، بعد دقائق من السكوت قال لزوجته بصوت خافت: (لنتجنّب كلام الناس لا أن نعير لكلامهم اهتماماً مبالغاً فيه!!) نظَرَتْ إليه بتعجّب ونظرت لنفسها، كانت متألّمة جداً من كلمات زميلتها في الدائرة صباح اليوم حيث قالت لها: (لم تُرزقا بمولود منذ زواجكما قبل 9 أعوام.. أتعجّب كيف لم يفكّر زوجك بالزواج مجدداً ؟!!) تعكّر مزاجها منذ الصباح حتّى مجيء زوجها عصراً كان يومها سيئاً بسبب كلمات زميلتها، لكنّها أيقنت الآن أنّ الاهتمام المبالغ لكلام الناس يؤدي إلى الكثير من المشاكل.. أحضرت لزوجها كوباً من الشاي وجلست جنبه وهمست في أذنه اليمنى : نعم عزيزي.. كما قال ربّنا الرحيم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (البقرة/143).