يسيرون نحو الهاوية وهم نيام
ذكرتُ مراراً أن التظاهرات السلمية في الأنظمة الديمقراطية حق مشروع يضمنه الدستور كوسيلة تستخدمها الجماهير الشعبية الواعية للتعبير عن سخطها واحتجاجها ضد السلطة المقصرة في واجباتها إزاء الشعب. ولكن ما يجري الآن من استعدادات لما يسمى بـ"جمعة الغضب" أو "الانتفاضة المليونية الاحتجاجية" هو طبخة خطيرة القصد منها ليس الأهداف المعلنة، بل الانقلاب على الديمقراطية الوليدة، والذي لا تقل خطورته عن انقلاب 8 شباط عام 1963 الدموي، ولكن في هذه المرة يتم هذا الانقلاب بمساعدة معظم القوى السياسية والفكرية، من اليسار المتطرف إلى اليمين الفاشي المتمثل في فلول البعث وجماعة القاعدة، بل وحتى القوى السياسية المشاركة في السلطة، وأناس عرفوا بحب الوطن وسعيهم إلى الخير، ولكن التبس عليهم الأمر، فطالبوا الحق بالباطل، وهم لا يعلمون أن هناك وراء الكواليس أشرار يقودونهم إلى الدمار الشامل، ويحثون الخطى إلى الهاوية وهم نيام.نعم، الغاية المعلنة من تظاهرة الجمعة هي محاربة الفساد ونقص الخدمات وتفشي البطالة...الخ، وهذه الأمراض لا ينكر تفشيها في العراق الجديد أي عراقي شريف ذو وعي وضمير وإخلاص لوطنه وشعبه. ولكن ما يجري الآن هو ليس لمعالجة هذه الأمراض، بل اتخذوا منها قميص عثمان، للقيام بانقلاب على الديمقراطية الوليدة الناشئة ووأدها وهي في المهد، وإغراق العراق في حكم بعثي أسود لأربعين سنة أخرى، خاصة وأن أحد شعاراتهم المرفوعة (فلتسقط الديمقراطية).
إن ما يصلنا من مقالات وتحذيرات تمهيداً للطبخة لا يجيدها إلا البعثيون بما عرفوا به من خبث ودهاء وقدرة على التضليل، حيث راحوا يمهدون للكارثة بنشر البلبلة الفكرية وإيهام الجميع وإشراكهم في جريمة حرق العراق، وتحت ذريعة الدفاع عن الشعب العراقي المسحوق!!.
فقبل أيام استلمنا ما يسمى بالبيان رقم 1، شتموا فيه جميع القوى السياسية في تاريخ العراق (باستثناء البعثيين)، منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة وحتى الوقت الحاضر، وكما علق أحد القراء (ماذا أبقى هؤلاء؟ فكل الأحزاب والتكتلات والقوميات والمذاهب والتوجهات الفكرية مرفوضة، عجبي، من الذي كتب البيان؟؟)
واليوم استلمنا "تحذيراً" آخر بعنوان: "مخطط حكومي لرفع صور (عزة الدوري) في المظاهرات العراقية." وأن هذه المعلومة صرح بها "مصدر أمني رفيع تابع لجهاز أمني ويعمل في (؟؟؟؟؟) وهو ضابط برتبة كبيرة رفض أن نكشف عن أسمه، وخص الـ (القوة الثالثة) حصريا، قائلا وعلى لسانه مباشرة: وتحذيرنا لأن هناك خطة تم توزيعها من السلطات العليا إلى بعض الجهات الأمنية ـ حصريا ـ لتتعامل مع تفاصيل الخطة، وهي: (سوف تندس في المظاهرات مجموعات تم اختيارها بعناية، وترتدي ملابس مختلفة على أنها من أبناء الشعب المسحوق، وحينها ستقوم بالهتاف " لصالح حزب البعث والرئيس صدام"، وسوف تندس مجموعات صغيرة أخرى تابعة لها أيضا وحال اندساس هذه المجموعات الأكبر، ومهمة المجموعات الصغيرة رفع صور نائب الرئيس السابق "عزة الدوري".) انتهى.
والسؤال هنا، لقد حصلت مظاهرات متكررة ضد الحكومة منذ سقوط الفاشية عام 2003 ولحد الآن، ولم تندس جهات حكومية أو غير حكومية لترفع صور رموز البعثيين أو تهتف لهم، فلماذا تحاول الحكومة بالقيام بهذه اللعبة الآن؟؟ وإذا الذين سيرفعون صور عزة الدوري، هم مندسون من الحكومة، إذن، فواجب منظمي التظاهرات أن يواجهونهم بصرامة، ويلقوا القبض عليهم وفضحهم. ولكن على الأغلب أن الذين سيرفعون صور عزة الدوري هم بعثيون، وما هذا التحذير إلا محاولة استباقية للتضليل، ولذر الرماد في العيون، وهي خطة بعثية بامتياز، وهذا دليل على أن البعثيين قد خططوا فعلاً لاختطاف التظاهرة لصالحهم، والقيام بأعمال تخريبية وعنفية، ويمهدون من الآن لإلقاء اللوم على الحكومة.
لقد كتب لي صديق يعرب عن خوفه وقلقه على العراق الجديد لما يخططه البعثيون وحلفاؤهم، قائلاً: "هؤلاء المرتزقة وأيتام المقبور صدام وعناصر حزب البعث الهدام يهدفون وبكل الوسائل الدنيئة والخبيثة المتاحة لهم إلى إفشال التحولات السياسية، وزعزعة الاستقرار، والسلم الاجتماعي، وبالتالي التمهيد إلى عودة الدكتاتورية الفاشية التي يحلمون بها ... المطلوب من رجالات الحكم، والإعلام الحر، والبرلمانيين المخلصين، وكذلك المفكرين السياسيين، ومنظمات المجتمع المدني الوقوف بوجه هذه المخططات الشريرة وكشف عناصرها المحركة ...الخ"
لا شك أن مخاوف الصديق مشروعة وفي محلها.
ولكن المشكلة، أن العراقيين معرضون للخديعة في كل زمان، ودون أن يتعلموا من كوارثهم، فمنذ أن خدعهم عمر بن العاص في صفين، عندما أشار إلى أتباع معاوية برفع المصاحف على أسنة الحراب، والصراخ بـ(لا حكم إلا لله)، ورغم تحذيرات الإمام علي لأصحابه بأنها خديعة و(قول حق يراد به باطل)، ولكنهم أصروا على موقفهم وخرجوا عليه وكان ما كان. واستمر العراقيون ينخدعون طوال تاريخهم مروراً بمؤامرة 8 شباط 1963، و17-30 تموز 1968، بدون أن يتعلموا من خيباتهم وكوارثهم إلى يومنا هذا. ونفس اللعبة تتكرر اليوم من قبل البعثيين، والشعار المرفوع الآن هو الاحتجاج على الفساد، ومعاناة الشعب "المسحوق"، وتقليد ما جرى ويجري من انتفاضات في تونس ومصر والبحرين وليبيا وغيرها.
لقد نسي هؤلاء السادة أن بن علي تمسك بالحكم 23 سنة، وحسني مبارك 30 سنة، ومعمر القذافي 42 سنة، بينما عمر حكومتنا لا يزيد على ثلاثة أشهر، وبانتخابات حرة ونزيهة باعتراف المراقبين الدوليين، ورئيس الوزراء لم يمر عليه أكثر من 4 سنوات في المنصب، وقد وعد في العام المضي وأكده قبل أسبوع بأنه لا يريد أن يجدد لدورة ثالثة، وحتى في هذه الدورة (الثانية) بإمكان البرلمان سحب الثقة منه في أي وقت يشاء. فالغاية التي انتفضت من أجلها الشعوب العربية قد تحققت في العراق منذ ثمانية أعوام، ولذلك فليس هناك سبب لتغيير النظام العراقي إلا إذا كانت الغاية إعادة الديكتاتورية البعثية الفاشية.
إن ما يعد له من طبخة ومن شعارات، لا يدل على النية الصادقة في معالجة النواقص والفساد، بل لإجهاض العملية السياسية برمتها. وقد شاهدنا نماذج منها في الكوت والسليمانية. فهل التظاهرة السلمية تعمد إلى حرق ممتلكات الشعب؟ يجب أن يعرف هؤلاء أن من واجب السلطة حماية أرواح الناس وممتلكات الشعب من العابثين. والملاحظ أن البعثيين بدؤوا يهيؤون الأذهان للتخريب من الآن، ولذلك رتبوا مسبقاً إلقاء اللوم على "المندسين من جماعة المالكي"، يعني على طريقة البعثيين، يقتلون القتيل ويسيرون في جنازته، ويوجهون تهمة القتل إلى أعدائهم، وبذلك يصيدون عدة طيور بحجارة واحدة.
إن أوضاع العراق الاستثنائية والمعقدة، وتحالفاته الهشة، وهو يواجه الإرهاب والجريمة المنظمة والهجمة الشرسة من فلول البعث وحلفائهم أتباع القاعدة، ومؤازريهم من الحكومات العربية وبعض دول الجوار لإفشال العملية السياسية وإلحاق أكبر أذى بالشعب العراقي، أقول ولكل هذه الاعتبارات مجتمعة، فمن الصعوبة أن تمر هذه التظاهرات بسلام، بل لا بد وأن تكون الحصيلة كارثة على الشعب ومستقبله. وعندئذ، لا بد وأن يسارع دعاة التظاهرة السلمية بأنهم غير ملزمين بما حصل من "حوادث مؤسفة" إثناء التظاهرة، وسيتنصلون من تبعاتها الكارثية، بل وسيلقون اللوم على الحكومة وحدها.
ويبدو من التحضيرات الجارية، والمزايدات العلنية بين قيادات القوى السياسية، أنه حتى القوى المشاركة في السلطة ستشارك في هذه التظاهرات الاحتجاجية على السلطة!!، وهذا نفاق ما بعده نفاق. بل وطالب البعض الدكتور أياد علاوي زعيم قائمة "العراقية" بالانسحاب من الحكومة لتسهيل إسقاطها. وهناك تتضح خيوط المؤامرة، ومن وراءها، لذا ونحن إذ نسأل: إذا كانت جميع القوى المشاركة في الحكومة ستشارك في التظاهرة ضد الفساد، فيا ترى من المسؤول عن هذا الفساد إذنْ؟ وهذه التظاهرة ضد من؟ يبدو أن كل هذه الحملة ضد شخص واحد فقط، اسمه نوري المالكي. ونحن لا نريد أن ندافع عن السيد المالكي وإنما ندافع عن عقولنا الذي يحاول البعض الضحك على الذقون، إذ كما تفيد الحكمة: "حدث العاقل بما لا يليق فإن صدق فلا عقل له". فهل يعقل أن يكون شخص واحد صوتت له غالبية أعضاء البرلمان برئاسة الحكومة، أن يكون بهذا السوء، ويتحمل وحده كل هذه الأوزار؟ فما هي واجبات الوزراء الذين اختارتهم أحزابهم لتمثيلهم في الحكومة، والمفترض أن يكونوا خير ما عندها من كوادر؟
خلاصة القول، هناك حملة تهيئ لتظاهرات احتجاجية أهدافها المعلنة محاربة الفساد، ولكن غاياتها الحقيقة حرق العراق والتمهيد لعودة الدكتاتورية الفاشية، يعني قول حق يراد به باطل.
وإن غداً لناظره قريب؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات ذات علاقة بالموضوع
عبدالخالق حسين: نعم للتظاهرات ضد الفساد..لا لتسلل البعثيين
http://www.abdulkhaliqhussein.com/?news=445
ييلماز جاويد - الثورةُ لا تُستَورَد
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?t=0&userID=969&aid=247175
عباس العزاوي: انقلاب على الديمقراطية
http://www.lalishduhok.com/2010-10-26-20-30-34/2011-01-05-14-35-37/1956-2011-02-20-14-01-27.html